حرية الخيار أم أبوية القرار
من أكبر المشاكل التي تواجه الإنسان على الصعيد الفردي والاجتماعي هو التناقض الحاصل نتيجة تضارب المصالح بين فرديته واجتماعيته ، وربما تكون هذه المشكلة قد حُلت بشكل لا بأس به في المجتمعات الغربية ولكن يبقى دائماً منطقة رمادية تتشابك فيها المصالح قد تصل أحياناً إلى حد التناقض .
في مجتمعاتنا العربية خصوصاً والإسلامية عموماً يظهر واضح للعيان السلطة الأبوية الممارسة من قبل المجتمع وضغطه على خيارات الفرد وقراراته ، وقد تختلف التفاصيل بين مجتمع وآخر ولكن تبقى هذه السلطة في العموم سلطة محسوسة ذات وجود حقيقي على الأرض مهما حاولنا التعامي عنها أو تجميلها .
تبدأ من سلطة الأسرة والعشيرة (العائلة) على خيار الفرد وتمر بسلطة عادات المجتمع وتقاليده على كيانيته وتنتهي مع سيطرة الدين على عقائديته ....
إن الفرد في مجتمعنا إذ يخضع ويسلم لسلطة العائلة والمجتمع والدين أملاً منه في عدم النبذ من القطيع الذي ينتمي إليه ، يأمل في المقابل أن يأتي اليوم الذي سوف يخضع فيه الآخرين لسلطته ورأيه بعد تكوين أسرة ربما أو تكوين كيان ذو حيثية في المجتمع الذي ينتمي إليه .
وتتعاقب هذه الدورة على الأفراد في مشهد واضح للخوف المعتمل في النفوس من أي جديد غريب ناتج عن كسر هذه الحلقة المفرغة .
ومن المعروف والغير مختلف عليه أن المجتمعات الإنسانية هي مجتمعات ذكورية في حالتها العامة عدا بعض المجتمعات الصغيرة والهامشية ، وقد تزيد أوتنقص الجرعة الذكورية في هذا المجتمع أو ذاك بحسب مدى الحرية المتاحة للفرد .
فكلما زادت السلطة الأبوية كلما قلت مساحة الحرية وظهرت الصفات الذكورية الغالبة على المجتمع ، والعكس بالعكس .
لكنه من المؤكد أن المجتمعات الإنسانية على مختلف تلاوينها الحضارية لم تتخلص بشكل كلي من الآحادية الذكورية ...
وكوننا نتكلم عن المجتمعات العربية المتدينة فلا بد أن نخصص كلامنا عن هذه المجتمعات والدين الغالب والذي أمدها بالثقافة التي تتعامل بها في الحياة اليومية ، فبعض المجتمعات العربية وإن كانت تدين بغير الإسلام إلا أن الكثير من تفاصيل عاداتها وتقاليدها تستمدها من الإسلام ، فنحن في حالات كثيرة نتصف بالثقافة الإسلامية في عاداتنا المجتمعية وإن لم ندين بالإسلام كونه هو الدين المنتشر في أطياف واسعة من مجتمعاتنا ...
وهنا قد نبدأ من ثنائية التراثين (العربي -الإسلامي) فقد كانت سلطة القبيلة والعشيرة لا تضاهيها سلطة ، وسلطة الذكر لا تضاهيها سلطة ضمن القبيلة نفسها ، عندما قرر الله أن يبعث شخص (ذكر) يحمل رسالته لتتزاوج العادات العربية مع العادات الدينية المبتكرة لتشكل سلطة أبوية قهرية لا فكاك منها ، تبدأ من الله مروراً بالرسول انتهاءاً عند الذكر (الزوج والأب والأخ والابن ) .
ولو دققنا في الأديان بشكل عام لرأينا أن خيارات الله تقع على الذكور دائماً لكي يكونوا أنبياء وحتى أبناءاً له ... والأغرب من ذلك أن الله نفسه يتصف بالصفات والأسماء الذكورية في مختلف الأديان السماوية مع أن المفروض أنه ليس داخل ضمن ثنائية (الذكر - الأنثى) ، فإذا كان الله نفسه ذو ملامح ذكورية فهل بعد ذلك ملامة نوجهها إلى المجتمعات المتدينة أن تكون على نفس الشاكلة ، والإنسان خليفة الله على الأرض وابنه ... !!
من هنا تبرز إشكالية الثنائية (ذكر - أنثى) ، رغم أن هذه الثنائية لا تعيش دون وجود أحد القطبين ، ورغم أن عملية حفظ البقاء (التناسل) وهي أهم عملية على الإطلاق بالنسبة للإنسان كي يستمر ويستمر معه الإله ، هي عملية يقوم بها ذكر وأنثى إلا أننا نجد في المجتمعات وخصوصاً المتخلفة منها حضارياً وإنسانياً أن الذكر هو المسيطر والله على صورته وليس العكس ....
وقد تنبع هذه السيطرة عبر التاريخ من صفة القوة الجسدية والعدوانية التي تمتع بها الذكر وحاجة المجتمعات البدائية للقوة في حفظ وجودها وممتلكاتها من الحروب إلى الزراعة والبناء ومختلف الأعمال التي كان يتطلبها المجتمع .
لكن السؤال الأهم اليوم ، بعد أن بدأت تنتفي الحاجة إلى القوة الجسدية في المجتمعات المتحضرة واستبدالها بقوة الآلة والعلم ، ماذا يعود هناك قيمة فعلية لهذه القوة ...؟!
فالحروب لم تعد خيل وليل وبيداء تعرفنا ...!!
وعمليات الانتاج المختلفة صناعياً وزراعياً تؤدي دورتها بواسطة الآلات ...
وحتى صروح المجتمعات تبنى بواسطة الآلات ...
فأي دور بقي للقوة الجسدية التي تمتع بها الذكر كميزة على مر العصور .... ؟
من هنا نرى أن إعادة النظر في المفاهيم الأبوية والسلطة الذكورية قائمة في معظمها على التقدم العلمي بشكل غير مباشر ... فكلما تتطورت المجتمعات علمياً تتطورت حضارياً بالضرورة ( وإن كانت سرعة التطور في كلا الحقلين مختلفة ) .
ولا غرابة بعدها أن نرى المجتمعات المتخلفة تنحو نحو الذكورية كونها لم تصل لمرحلة فهم طبيعة المتغيرات التي طرأت على الإنسان وطريقة تعامله مع القوى الطبيعية المحيطة وتغير أساليب مواجهة الأخطار ..
بالتأكيد هنا لا يفوتنا جزئية مهمة ، وهي ان المجتمعات المتطورة إقتصادياً لا تنحو بالضرورة باتجاه التوازن المفاهيمي الإنساني (ذكر - أنثى) ، بل ربما يتجه الأمر نحو تكريس سلطة ذكورية على المرأة ولكن بطريقة مقنعة ...
فعصر الاستهلاك الذي نعيشه في ظل العولمة الرأسمالية ، يؤسس إلى تشييء الإنسان وتسليعه ، وبالتالي الحفاظ على الأنثى في مرتبة السلعة الإضافية أو الشيء المكمل .... كوجه عملة آخر للسلطة الأبوية الممارسة في ظل المجتمعات المتخلفة .
إن حرية القرار المتاحة للمرأة ومساواتها مع الرجل لا يؤديان بالضرورة إلى تخليص المرأة من عبودية موجودة ، فقد تتخلص من عبوديتها تجاه الذكر وتجاه الدين والسلطة ...إلخ
لكنها لن تتخلص من عبوديتها تجاه نفسها وإرثها (الأنثوي المذكر) الثقيل عبر التاريخ الكامن في اللاوعي ، هذه العبودية التي لا يتم التخلص منها إلى بوجود وعي إنساني حقيقي عند كلا الطرفين الرجل والمرأة ، وعي يؤسس إلى قيمة مبنية على أساس إنساني ... لا الذكورة أو الأنوثة ...!!
وللحديث معكم بقية ....