تحذير أخير لعشاق سياسة «طفي النور»
مأمون فندي
مثل حال العرب اليوم كمثل رجل ساكن في دار، دخل عليه غازٍ أو لص، أحس بأن اللص قوي وقادر على سرقته أو حتى قتله، فبدلاً من أن يواجهه، أو يتحسب لداره، حتى لا يكون عرضة للسرقة، قرر أن أحسن وسيلة للدفاع هي إطفاء نور المنزل كله، ظناً من صاحب البيت أنه يعرف جغرافيته وغرفه وممراته ودهاليزه، وأن اللص أو الغازي لا يعرف ذلك، وبهذا ينتصر عليه لانه يلعب على ارضه وفي ملعبه، ظنا منه ان هذه هي الطريقة الوحيدة والمثلى للمقاومة، غير مدرك أن الصبح آتٍ لا محالة وان الشمس ستشرق لا محالة ايضاً، وان استراتيجية إطفاء النور كأسلوب مقاومة لا بد أن تفشل لأن نجاحها مرهون ببقاء حالة الظلام، هذه هي المقاومة التي اراها بطول بلاد العرب وعرضها، وإن كنا جادين في الحديث عن أوضاعنا الحالية المتردية لا بد أن تكون لدينا الشجاعة في اشعال النور، وفضح مثل تلك المقاومة البائسة، والبحث عن سبل أخرى للمقاومة، وسأعطي هنا مجموعة من الأمثلة أضعها أمام اعتباركم ومنها ما يخص حالات دول بعينها والجزء الآخر يخص موضوعات محل نقاش عبثي، لا يحكمها معيار بحيث نعرف من خلالها اذا ما كنا قد نجحنا أم فشلنا.
أبدأ في هذا السياق بحال العراق، الذي كان محط جدل وخبل، أيد العرب الجالسون عن بعد المقاومة المسلحة في العراق، حتى بعض من ظنناهم عقلاء، في سن متقدمة من حياتهم، ولكنا وجدناهم في حالة هياج سياسي أشبه بمراهقة الشباب، يصفقون على شاشات التلفزة، وعلى صفحات الجرائد، تزبد أفواههم بعبارات هم أول من يعرف بأنها عبارات كاذبة ومضللة، إذ كان معروفا للعرب قبل العجم أن أميركا مقبلة للقضاء على صدام ونظامه، وكان من الممكن ادارة الأمر من خلال اشعال النور ومواجهة الخيارات المتاحة، لكن بدلاً من ذلك، قررت القيادات والنخب الوطنية المبالغة في تعاطي الفياجرا السياسية، معتبرة أن اطفاء النور هو الحل الأمثل والأنجح، فدخلنا في دهاليز الحل العربي المظلمة لازمة العراق، واجتمع الوزراء في شرم الشيخ في الظلام، وعندما حاول الشيخ زايد ـ رحمه الله ـ ان يشعل النور من خلال حضور ابنه الشيخ عبد الله إلى شرم الشيخ وتقديم مبادرته، قررت جماعة الفياجرا السياسية أن تبقى في الظلام، وأن تتجاهل من جاء لاشعال النور من الامارات. ثم ماذا بعد؟ انتهى نظام صدام، وبدأت ملامح الفجر في الوضوح، ومع ذلك بقيت الجماعة التي هي داخل المنزل المظلم تتلقى بيانات الزرقاوي وبيانات البعثيين، ثم اخيراً بيانات جماعة «علماء المسلمين»، وتلك قصة أخرى سآتي على ذكرها فيما بعد، ثم جاء الصبح على الجميع في العراق وخرج ثمانية ملايين ونصف المليون من العراقيين للانتخابات، رغم التهديد ورغم الرصاص، خرجوا لانهم رأوا نور الصبح، أما جماعة «طفي النور» فبقيت على عهدها، تؤيد الزرقاوي وحفنة من السنة من القابعين في الظلام. تحرك قطار البناء في العراق في وضح النهار، وبقيت جماعات الظلام لا ترى إلا نور القنوات الفضائية العربية، نور الشاشات اعماهم ايضاً كما يعمي نور السيارات الغزلان في الطرقات الأميركية، وبما أننا ليس لدينا غزلان، فربما نقول أي شيء آخر.
نور الفضائيات ظلام أيضا أو يعمى من تسلط هذه الاضواء على عينيه.
ثم اتتنا حالة سورية.. فماذا حدث..؟
لم يختلف تعاملنا مع حالة سورية كثيراً عن تعاملنا مع حالة العراق، فسورية كما هو واضح للجميع وكما ذكرت في مقالات سابقة مكشوفة تماماً، بيت عربي آخر مهدد بالغزو أو بالسرقة، وبدلاً من اشعال الأضواء قرر الجميع اطفاء النور، فسورية مكشوفة محليا في لبنان، فمهما قلنا، فالتجمعات اللبنانية في ميدان الشهداء من شباب وشابات من مسلمين ومسيحيين كشفت للعالم انه لا تأييد للوجود السوري في لبنان، سورية ايضاً مكشوفة اقليميا من خلال ما سمعناه من تصريحات للرئيس مبارك ومن الملك عبد الله الثاني وأخيراً من السعودية، سورية ايضاً مكشوفة عالميا من خلال تبني مجلس الأمن للقرار 1559 القائل بانسحاب القوات السورية من لبنان، ونحن هنا لسنا أمام أميركا وحدها، ولكننا أمام توحد في وجهات النظر بين أميركا واوروبا. حذرت من ذلك قبل وقوعه، ومع ذلك ظن القابعون في المنزل المظلم انني ضد سورية في ذاك الطرح، رغم أن تحذيري كان من باب المحبة والحرص على بلد عربي، وأعرف مسبقا أن لدينا من الفهلويين العرب من سيبتسم ابتسامته البلهاء، فاتحاً فاه الأكثر بلاهة ليقول «ومن الحب ما قتل». يا سلام على الحصافة والفطنة والنباهة!! حقيقة انني أستاء من الأبله الذي كلما حدثته حديثاً جاداً، رد عليك بمثل مأثور أو بمقولة تلفزيونية أو بكلمة من افلام عادل أمام، هؤلاء هم البلهاء حقاً. الوضع السوري الآن في مأزق فلا تورطوا دولة عربية أخرى في فيلم مقاومة «طفي النور»، سورية لا قبل لها بمواجهة أميركا وحدها، ومن باب أولى أن سورية ليست قادرة على مواجهة أميركا وأوروبا مجتمعتين، ومستسلحتين بقرار من الشرعية الدولية، وربما بآخر مقبل.
لقد أصبح الصبح في لبنان في ميدان الشهداء، ورأى العالم ان اللبنانيين لا يريدون وجود سورية في لبنان بهذا الشكل، فليت الصبح يصبح في دمشق ايضاً ليرى الجماعة هناك بأن مقاومة «طفي النور» غير مجدية، [SIZE=5]وأن الحل الأنسب هو الانسحاب، ولا أقول انسحاباً مشرفا على غرار زفة الكذابين، اقول انسحاباً لا تهم أوصافه، مشرفا كان أو غير مشرف، اذ المهم هو انقاذ هؤلاء الشباب السوريين الموجودين في لبنان سواء كانوا في الجيش او في غيره، لان معظمهم في الحقيقة «غلابا ومساكين» وكلنا خدمنا في صفوف الجيوش العربية ونعرف القصة.
اشعلوا الاضواء، وانقذوا دمشق من فضلكم، لو كان عندكم ولو بصيص من النور لادركتم ان القرار 1559 ما هو الا تدويل لقانون محاسبة سورية الذي تبناه الكونجرس منذ شهور. ولكنكم غارقون في الظلام.
مثل ثالث هو فلسطين، فبعد وفاة الرجل الذي كان ممسكا على زر اطفاء النور، وجدنا في فلسطين انتخابات رئاسية وكذلك هدنة، ووجدنا حكومة جديدة واستراتيجية جديدة لان الفلسطينيين اشعلوا النور وبدأوا في التفكير.
حتى حماس والجهاد قررتا استخدام استراتيجية مقاومة النور المشع، لا مقاومة الظلام قبل ان يسرق شارون البيت الفلسطيني ويقضي على من فيه.
اشعال النور في العراق وفي فلسطين وفي لبنان ادى الى اشعال للنور في مصر وفي السعودية وفي المغرب والاردن والبحرين، لكن ما زالت بيننا جماعات مصرة على اطفاء النور او على استراتيجيات فتح «خرم في سقف المنزل» كبديل، ففي الوقت الذي يطالب فيه الرئيس مبارك بتغيير الدستور وفتح باب المنافسة على الرئاسة، هناك قوى كبيرة في مصر مصرة على مقاومة اطفاء النور وادخال المجتمع كله في دوامة «ضغط من الخارج او ضغط من الداخل».
يا جماعة، استمتعوا بإشعال الانوار وتحرروا من شعارات الجهلاء، فمعركة مصر اليوم هي ان تقدم نفسها للعالم على انها بلد اشعاع حضاري ولا تقدم لنا وجها كالحا متمثلا في مجموعة من الاصوات السوقية التي بدأت تحتل مساحة لا بأس بها في الاعلام والثقافة المصرية، جماعات الشعارات و«طفي النور» من انصاف المتعلمين يجب ان ترحل، ان كانت مصر جادة في اشعال الانوار.
مقاومة «طفي النور» ايضا مسيطرة في سؤال عام يسود المجتمع العربي من أوله الى آخره، خصوصا في موضوع الدين والدولة ودور الدين في المجتمع، فلدينا الآن ظاهرة تحتاج الى نقاش وهي مجموعات علماء الظلام الذين يدعون انهم يتحدثون باسم الدين الاسلامي خصوصا.
الدين اصبح مطية لمجموعة من الجهلاء، كل من اراد بروزا اجتماعيا نصب نفسه واعظا وفقيها، بل ومفتيا اذا دعا الحال.
أليس علم الدين بعلم كأي علم، الا يستلزم مثلا ان تقرر مجموعة مؤهلات لمن يكون عالما دينيا؟ مثلا ان ينشر اربع مقالات في دوريات او مجلات علمية متخصصة في شؤون الدين، يحكمها اساتذة في اصول الدين وفي علم العقيدة او في الفقه او في علم الحديث؟
الا يجب ان يعامل الدين كعلم مثل الطب مثلا فلا ينشر على الناس الكذب حتى لا يصابوا بأمراض خطيرة تقضي على حياتهم؟ فلا يعقل ان يكون كل جاهل يقدم نفسه اليوم على انه كاتب اسلامي او داعية اسلامي وهو مدع لا داعية! افتحوا الانوار ولا تقتلونا بمن يدعون انهم علماء في منزل مظلم.
وعودة الى الشأن السوري الملح والمتأزم في البيت المظلم. كنت مع وزير الخارجية الاميركي السابق جيمس بيكر وسألته اذا ما كنا وصلنا في حالة سورية الى موقف اشبه باجتماعه بطارق عزيز في جنيف. قلت له الوضع يذكرني بخروجك على الصحافيين لتقول: «لسوء الحظ، ايها السيدات والسادة!».
قال لي: «لا.. لا.. لم يكن الامر كذلك» ثم اردف، «قلت لطارق عزيز بعد انهاء اجتماعنا، اتريد ان تتحدث انت اولا للصحافيين ام اتحدث انا، فرد عزيز: تحدث انت اولا، ورغم انه كان لدي كلمة مكتوبة الا انني فكرت، وقررت ان استخدم كلمة واحدة تنهي الامر من دونما دخول في اسئلة واجوبة، فخرجنا الى المؤتمر الصحافي ولم اقل للصحافيين «لسوء الحظ» Unfortunately كما ذكرت انت، لكنني استخدمت كلمة «بكل اسف» Regretably، بكل اسف ايها السيدات والسادة، بعد ان قلتها خرج معظم الصحافيين من القاعة وأبرقوا لوكالات الانباء وصحفهم، اذ بهذه الكلمة الواحدة بكل اسف Regretably عرف الصحافيون ان الامر قد انتهى».
رغم ان عبارة (لسوء الحظ) كانت توحي بأنني اتذكر ما قاله في ذاك المؤتمر، الا ان رجلا دقيقا مثل بيكر لم يتركها تمر فصححني في اللحظة، وفي شأن سورية اليوم وحالة التخبط السائدة ومقاومة «طفي النور» اقول وكلي اسى وحزن، «بكل اسف ايها السيدات والسادة...»، واكملوا البقية من عندكم، هذا اذا لم تكونوا غارقين في ظلام البيت والاضواء من كل العالم مشرقة حولكم. حذرت في مقالات سابقة وربما هذا هو تحذيري الاخير، وموعدنا مع نور قد تشعله اشراقة عقل في دمشق او نيران حاملات الطائرات على غرار نيران الصدمة والدهشة التي رأينا في العراق