أبو النور
عضو مشارك
المشاركات: 36
الانضمام: Oct 2009
|
مع المفكر الصادق النيهوم ( 2 )
السادة الكرام
تحية طيبة , و بعد
يقول المقال الثاني :
التخلف ليس مرضا , بل مشكلة وراثية مثل قصر القامة , صفتها الأولى , أنها لا توجع أحدا , و صفتها الثانية أن القصير - صاحب الشأن - هو آخر من يعلم بأنه قصير . و إذا علم ذات مرة , فإن مشكلته غير قابلة للحل أصلا , لا في جيل واحد , و لا في بضعة أجيال . إن التخلف مصير شبه أبدي , ((مكتوب )) في أصول الخلايا الأولية نفسها .
لهذا السبب لا يمكن (( محاربة )) التخلف , و لا يمكن (( القضاء عليه )) , و لا يعني ترديد مثل هذه الكلمات في اللغة السياسية على طول العالم الثالث , سوى انحراف واضح - و متوقع - في فهم المشكلة من أساسها : فالتخلف ليس شيئا تقتله , بل تحييه .
إنه إرث يعيش و يتنفس في واقع الناس , و هو دائما إرث مريض , و غير فعال , و بالغ الضرر , لكن (( القضاء عليه )) ليس علاجا , بل جريمة قتل عادية , لأنه قضاء على الجذور الوحيدة , الحية فعلا في ثقافة الناس . و لعل رفع شعار (( محاربة التخلف )) لأول مرة في العالم الثالث , على يد رجل مثل مصطفى كمال أتاتورك , دليل في حد ذاته , على أن اختيار كلمة ((الحرب )) , مجرد تعبير خاطيء , من جندي مهزوم , (( يعاقب )) واقعه على الهزيمة , و ليست خطة مدروسة لحل مشكلة التخلف نفسها .
فشيوع الفقر و الجهل بين أغلبية الناس , ليس سببا في تخلفهم , بل ترجمة حرفية له . أما السبب الوحيد , فهو الخلل الأداري القديم الدائم الذي تمثل منذ فجر الحضارة , في خروج الأدارة من أيدي الأغلبية , و تحويل مشروع الدولة من مشروع جماعي , إلى إقطاعية مسلحة خاصة . و منذ عصر فرعون , كان التخلف قد أصبح مصير الأغلبية في كل مكان , و في جميع الحضارات . فلم تصل نسبة التعليم مثلا إلى أكثر من شخص واحد , بين مئات الألوف , حتى في عصور , يعتبرها المؤرخون قريبة و مزدهرة , مثل عصر الباشا محمد علي . .
أ سوأ من ذلك , تعرضت الأغلبية لحملة نفسية مروعة , قادها السحرة منذ عصر سومر , لتبرير سلطة الملك- الأله , في برنامج معقد من الخرافات و الأساطير , استهدف تخريب عقول الناس , و حرق كل جسر , يربطهم بواقعهم . و طوال سبعة آلاف سنة , من هذه الحرب السحرية , كان التخلف الجماعي هدفا ترمي الدولة إلى تحقيقه , و ليس إلى محاربته , و كانت جميع حكومات العالم - بما في ذلك حكومات الهنود الحمر - تتبنى سياسة واحدة , موجهة رسميا , لحرمان الأغلبية من التعليم . و قد جاء في وصية ملك الأنكا : (( إن العلم لم يقصد به أن يمنح لرعاع الشعب , بل لأصحاب الدم النبيل , فالذين هم من أصل خسيس , يفقدهم العلم صوابهم , و يؤدي بهم إلى الغرور . كما لا يجوز لمثل هؤلاء , أن يتدخلوا في شؤون الدولة , لأن تدخلهم , يسيء إلى جلالة المناصب العليا , و يلحق الضرر بسير الأدارة . . )) .
تحت إدارة هذا الملك المدبر بالذات , أبيد الأنكا على يد الأسبان , و أعدم الملك نفسه , خنقا بالأيدي , في مطلع العصر الذي شهد , غارة الأوربيين , على قارات العالم الجديد , و نجاح الرأسمالية , في بناء أول دولة ديموقراطية , قائمة على مبدأ سلطة الأغلبية عن طريق الأقتراع العام . إذ ذاك - فقط - بدأ (( التخلف )) يصبح مشكلة .
و إذ ذاك - فقط - أصبح التعليم حقا جماعيا , و حرية الرأي حقا جماعيا , و وصل قطاع الخدمات إلى القاعدة العريضة , و بدأ التخلف ينحسر , مخليا مكانه أمام مسيرة الأدارة الجماعية في غرب أوربا , و في مستوطنات الغربيين وحدهم . أما بقية شعوب العالم , فقد ظلت خارج المسيرة الجديدة , و ظلت تعايش ظروف الأدارة الحكومية نفسها , كما ولدت حرفيا في حكومة فرعون , حتى فاجأها الأوربيون الغربيون في مطلع عصر الأحتلال , بالحضارة العجيبة الجديدة , التي خطفت أبصار رجل مثل أتاتورك , إلى حد جعله يعتقد , أن (( التخلف )) هو أن لا تكون أوربيا غربيا . لكن أتاتورك , كان يحدق في ضوء ساطع .
فالتخلف هو أن تكون أي شيء , و أن تسمي نفسك بكل الأسماء , ما عدا أن تمتلك - بالفعل - دستورا للأدارة الجماعية , قادر على حماية الأغلبية من التخلف . من دون هذا الدستور , تستطيع أن تنشر العلم في كل مكان , و تجعل السماء تمطر ذهبا , لكن غياب الأدارة الجماعية , سوف يجعل الذهب يتجمع كله في خزانة رجل واحد , و العلم يتجمع كله بين أيدي (( عالم )) واحد , ينطق دائما بصوت رسمي , مثل البابا لاكتانتيوس , الذي كان يقول ردا على كروية الأرض : (( هل يجن الناس , إلى هذا الحد , فيدخل في عقولهم أن البلدان و الأشجار تتدلى من الناحية الأخرى ؟ ... ))
و الواقع أنه - في غياب الأدارة الجماعية - كان الأوربيون انفسهم , أكثر شعوب العالم تخلفا و فقرا , و كانوا قد قضوا ألف سنة يطاردون الساحرات و القطط السوداء , و يشترون تذاكر للجنة , و يعالجون السعال الديكي بلبن الحمير , في دولة تدعو نفسها (( الأمبراطورية الرومانية المقدسة )) , و تدار رسميا بمباركة من البابا المعصوم عن الخطأ . و عندما انفجر بركان الثورة الجماعية التي افتتحت عصر الديموقراطيات الحديثة في غرب أوربا , لم يكن الأوربيون الفقراء , قد تعرفوا بعد على الصابون . إن الأدارة الجماعية , هي التي غيرت ذلك الحال , إلى هذا الحال , و وضعت خاتمة لعذاب الأغلبية , لأول مرة في التاريخ , لأنها بالفعل , الحل الصحيح و الوحيد , لأصل مشكلة التخلف الجماعي بالذات . لكن ثمة مشكلة أخرى :
فالصيغة الأوربية للأدارة الجماعية , صيغة قامت على نظام الحزب الرأسمالي . و هو قوة جديدة طارئة على العالم , لم يعرفها تاريخ الأدارة من قبل , و لا يملكها أحد أصلا سوى الأوربيين الغربيين , لأنها قوة ظهرت , بفضل استيطان قارات العالم الجديد , و مولد شركات العصر الصناعي , التي تولت خلق ادارة رأسمالية , غير خاضعة لسلطة الجيش أو سلطة الأقطاع .
من دون رأس المال , تنهار الصيغة الأوربية للديموقراطية , و تصبح نظاما لغويا صرفا , فتخرج الأدارة من أيدي الأغلبية , و يعاد فتح الباب مرة أخرى , أمام كل سبب ممكن للتخاف . و لو أن بقية شعوب العالم , كانت قد (( اكتشفت )) قارات جديدة , و وجدت هنودا حمرا , لكي تبيدهم , و تحتل أراضيهم , لكانت الصيغة الرأسمالية , وصفة عالمية حقا (( للقضاء على التخلف )) . لكن بقية شعوب العالم , مجرد ناس معدمين مثل الهنود الحمر أنفسهم . لا أحد منهم دخل العصر الصناعي , أو أصبح من أصحاب رأس المال . و لا أحد منهم , يستطيع بالتالي أن يوجه جهاز الدولة لمحاربة التخلف , إلا إذا وجد ضمانة أخرى للأدارة الجماعية , غير ضمانة رأ س المال . و هو شرط يعني بوضوح , أن الخطوة الأولى للقضاء على التخلف , تبدأ - فقط - عندما تضع كل أمة , نظام الحزب الرأسمالي على الرف , و تفتش عن الضمانة الشرعية داخل خزانتها . في هذه النقطة أثبت أتاتورك , أنه يفتش في الخزانة الخاطئة .
فالأسلام أيضا ضمانة للأدارة الجماعية , و هي ضمانة كانت متاحة - مجانا مثل الشمس - أمام أتاتورك , و كانت صيغتها جاهزة في لغته . و لو أن شعار (( القضاء على التخلف )) كان يمثل خطة مدروسة لتحقيق هذا الهدف فعلا , لما احتاج أتاتورك و أن يدير ظهره للحل الصحيح الممكن , و يتطوع للبحث عن حل رأسمالي , في بلد من دون رأس مال . لكن شعار (( القضاء على التخلف )) مجرد ترجمة مقلوبة لشعار (( تقليد الأوربيين )) , تلك الفكرة المسكينة - و المستحيلة - التي تكاد أن تقول إن قصر القامة , علاجه شراء بدلة طويلة .
أن الحل هو وحده الحل , و القضاء على التخلف ممكن - فقط - بعد استعادة الأدارة , إلى جانب الأغلبية نفسها . أما استيراد الصيغة الرأسمالية من دون رأس مال , أو الصيغة الشيوعية من دون شيوعيين , فإنه عمل - مثل إعلان الحرب على العمامة باسم الطربوش - نشاط عسكري لا لزوم له , في حرب زائدة , من دون رأس .
....... أنتهى نص المقال الثاني
مع تحياتي للجميع
http://al3dm.com/vb/showthread.php?t=230&page=2
.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 10-24-2009, 12:56 PM بواسطة أبو النور.)
|
|