عاشق الكلمة .
هناك فرق يا صديقي بين طرح التحيزات و الآراء الشخصية و بين عرض آراء ترتكز على النظريات المعرفية التي لها قدرة تفسيرية عالية و بالتالي مصداقية ، لست الذي يسعي لإيجاد قطيعة معرفية بين الأطر المتفارقة ، فتلك هي طبيعة المعرفة ، الموضوع لمرة ثانية و ثالثة ليس موضوع تفاصيل بل أعمق كثيرا ، هو المقترب الذي نتخذه حيال القضايا المطروحة ، سبق أكثر من مرة أن طرحت نظرية الإطار ، تلك النظرية توضح السبب الذي يجعل من الحوار بين الإسلاميين و غير الإسلاميين من علمانيين و ليبراليين و تنويريين و ماركسين غير مجدي مهما حسنت النوايا ، الأمر ليس تنازلآ هنا و تعاليا هناك ، الأمر ببساطة هو استحالة منطقية للحوار بين الأطر المختلفة ، هذه الإستحالة تلمسها في فشل كل أنواع الحوار بين مسلمي الهوية و العالم كله .
يا صديقي .. إننا نكتشف بعد تجارب متعددة - منها هذا الحوار- أن هناك عقبة حقيقية لا يمكننا تجاوزها تحيل الحوار إلى تبادل شكلي للكلمات و العبارات و لكن بلا نتيجة ، أو كما يقولون ( حوار الطرشان ) ، هناك شيئ يجعل الحوار سببا في زيادة الهوة بين المتحاورين و ليس أداة لتجسيرها ، هذه الظاهرة لا تحدث فقط بيننا هنا في دوائر الحوار ، بل هي تحدث على نطاق كبير جدا بين الدول و الحضارات و الثقافات المختلفة ، هذه الظاهرة الثقافية يمكن التعبير عنها خلال نظرية الإطار Framework.
وفقا لهذه النظرية فإن المناقشة العقلانية المثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية أو على الأقل ما لم يتفقوا على مثل هذا الإطار لكي تسير المناقشة بشكل مثمر . وهذا الإطار ليس مجرد شروطا أولية للمناقشة من قبيل الرغبة في الوصول إلى الصدق أو الحقيقة أو تفهم مشاكل و أهداف بعضنا البعض ، و لكنه يعني شيئا أهم كثيرا ، الاشتراك في مجموعة من المبادئ أو الافتراضات الأساسية أي أنه إطار عقلي للمتحاورين ، و من هذا التصور يمكننا القول أنه من المستحيل منطقيا التفاهم المتبادل بين الثقافات المختلفة أو الحقب التاريخية المختلفة ، و طبقا لهذا التصور أيضا تكون الحقيقة أو الصدق فقط بالنسبة للإطار الواحد و لكنها تختلف من إطار إلى آخر ولا يمكن تعميمها بين الأطر المختلفة وهذا يقودنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه النسبوية . إن أنصار هذا الرأي الذي يرقى إلى مستوى النظرية يضعون مجموعة من الشروط المبدئية التي بدونها يصبح التفاهم أو الحوار مستحيلا .إن تلك الأطر يمكن أن تتقاطع في أجزاء منها و لكنها في الحالة القياسية تكون منفصلة تماما و يحول بينها ما يمكن أن نطلق عليه القطيعة المعرفية ( الإبستمولوجية ) ، إن هذه القطيعة نتيجة التمايز ليس فقط في اللغة أو معاني الكلمات و بعبارة أدق في الصور العقلية التي تستدعيها الكلمات من مخزون الذاكرة ، و لكن أيضا و بالأساس في المنهج العقلي .
إن الإطار في معناه المباشر يتألف من نظرية سائدة يحيط بها ما يمكن أن نطلق عليه الاتجاهات العقلية المتوافقة مع تلك النظرية السائدة ، وهذه الاتجاهات هي التي تحدد لنا طريقة النظر إلى العالم و طريقة الحياة ، وفي العمق يمكن أن نفكر في الإطار ليس بوصفه يتألف فقط من ( نظرية سائدة ) ،و لكنه أيضا و بشكل أهم يصبح كيانا نفسيا و إجتماعيا و تبعا لهذا يمكن أن نرى الإطار بشكله الأشمل بمثابة رابطة قوية بين اتباعه المتحمسين ، كما هو الحال بين متبعي الأديان و المعتقدات السياسية و الإيديولوجية . و طبقا لهذا المفهوم ستكون المناقشة العقلية مستحيلة إذا كانت ستعبر الإطار و تتحدى .
إن نتائج هذه النظرية تقودنا إلى التقرير بأن الحوار بين الثقافات ( الأطر ) المختلفة مهمة مستحيلة تماما و بالتالي فإن التصادم أو المواجهة بين هذه الأطر هو قدر إغريقي لا يمكن تفاديه رغم إدراكه مقدما ، و هذا أيضا يفسر ولو جزئيا صحة التنبؤات التي تحدثت عن حتمية صراع الحضارات أو صراع الثقافات ،و بالرغم من الجهود النظرية و العملية التي بذلت لتفادي هذا الصراع إلا أنه تفجر بالفعل بين المجتمعات ذات الثقافة الإسلامية الدوجمائية ( النصية ) و المجتمعات التي تنتمي للحداثة العلمانية البرجماتية ( العملية ) .
ان الإطار أبعد من ذلك التباين الأخلاقي الذي قد يكون موجودا داخل نفس الإطار ، فالإطار العقلاني مثلا يشمل تعددا كبيرا من الأنظمة الأخلاقية و لكنها معروفة و مفهومة لمنتسبي الإطار ، الأساس في تشكيل الإطار هو المرجعية المعرفية و بالتالي باقي المرجعيات بالتبعية مثل المرجعية الأخلاقية و السلوكية .
إذا طبقنا ذلك كله على قضيتنا هنا ، سنجد أنه داخل الإطار الحداثي تتعدد المواقف ، فهناك من يدعو إلى حرية جنسية تامة بلا قيود ، و لكن سيكون هناك أيضا في نفس الإطار من ينادي بانضباط في الممارسة الجنسية ، التي يجب أن ينظمها القانون ، و لكنك لن تجد أحدا سيدعم رأيه بنص ديني مقدس أو بممارسات الأنبياء و القديسين و الصحابة ، مستحيل أن يحدث ذلك في إطار عقلاني ، و لكن كل سيدعم آرائه بالإحصاءات و النظريات العلمية و الآراء الطبية ، كذلك و بالأساس بمستتبعات الأفكار التي يدعوا إليها ، كل ذلك في إطار مبدأ النفعية العامة ، أي تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس لأطول فترة ممكنة ، نعم .. سنتفق و نختلف و قد نتصارع ، و لكن كل منا سيفهم على الأقل فيم الخلاف و ستكون لديه نفس معايير المقايسة ، الأصلح .. الأجدى .. الأنفع .. الممكن .... الخ ، قد نختلف في تقييم البدائل و لكنه خلاف نتيجة التفاوت البشري في تطبيق نفس عناصر المقايسة ، لن تجد معايرا مثل الحرام و الحلال و ما يرضي يهواه أو يغضب المسيح أو يسعد محمدا و ربه الله ، الأمر بالطبع مختلف كلية في الإطار الديني الإسلامي ، فهذا الإطار نصي يفكر بالنص و ينظر بمنظاره .
يا أخ عاشق الكلمة ..
من غير المجدي أن تغضب من الأفكار التي أعرضها ، فهي أفكار متعوب فيها و متكئة على دعامات قوية من الإتجاهات التي صنعت حضارتنا الإنسانية المعاصرة ، و لن يدحضها الغضب بل طرح أفكار أخرى متماسكة لها نفس القدرة التفسيرية ، أما أن يبحث كل عن حاله فهذا متاح دائما .