{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 2 صوت - 3 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
من جعبة "سعيد فريحة" !!! ...
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #5
RE: من جعبة "سعيد فريحة" !!! ...
كتب سعيد فريحه

أنَا وَالهارَاكِيري

اكتب هذه (الجعبة) من طوكيو، من غرفتي في (أوتاني الجديد).
اكتبها، لا لأبدأ بها فصول رحلتي، بل لأنفّس عن صدري في هذه اللحظة.
الساعة الآن الرابعة صباحاً بتوقيت طوكيو.
والتاسعة مساءً بتوقيت بيروت.
أي ان الشمس التي ستشرق هنا بعد ساعتين، ستشرق عندنا في لبنان بعد تسع ساعات.
وفي لندن بعد احدى عشرة ساعة.
المهم...

انني منذ وصولي الى طوكيو وأنا أعاني الأرق والبرد والزكام والسعال الديكي!
فضلاً عن الشوق والحنين الى الوطن والاهل وأحباء القلب جميعاً.
وقد حاولت معالجة الأرق بالمطالعة، بالحبوب المنومة، بالاستسلام الى حلم جميل، ولكن بدون فائدة!
كما حاولت معالجة البرد والزكام باللجوء الى الفراش و(الكوكعة) تحت اللحاف، ولكن البرد اللعين ظل يخترق لحمي وعظامي ويحولني الى قطعة من الجليد!
ويحول الغرفة الى براد (جيبسون)!
وسبب البرد الشديد حلول فصل الشتاء في طوكيو، ووجود جهاز تكييف الهواء في الغرفة.
وعبثاً جربت اقفال جهاز التكييف، فاتضح انه مثل حكم شاه ايران، يدار من الخارج!
وهكذا فرض عليّ البرد في الفندق الضخم.
ومع البرد الزكام.
ومع الزكام الأرق.
ومع الأرق نوبات السعال.
ومع هذا كله، التدخين!
نعم، اني اكح وادخن وادخن واكح على الرغم من معرفتي أن بين الكح والتدخين خطاً بشعاً اسمه: (الطرونبوز)!
او انفجار الرئة!
او ذاك الداء الذي لا يرجى منه الشفاء!
ولكن ما الحيلة? اني ضعيف جداً مع هذه الساحرة القاهرة التي اسمها: السيجارة.
وقد استطيع ان اعيش من دون طعام ولا شراب ولا معصية، ولكنني لا استطيع ان اعيش لحظة واحدة بدون سيجارة.
انها معي دائماً، في الفرح والترح، في العافية والمرض، قبل الطعام وبعده وفي أثنائه!
معي في كل وقت وكل مكان، معي في لبنان، معي في اليابان، معي في براد جيبسون... انها لا تفارقني أبداً، في كل خطوة، وكل سرحة، وكل كلمة اخطها على الورق! انني احبها ولو احرقت اصابعي.
احبها ولو مزقت رئتي.
احبها واتحدى ان يحبها احد مثلي، وعلى طريقتي، اذ لا اكاد اشعلها حتى اطفئها، فأنا لا اطيق ان أراها تحترق، ولا أطيق ان أراها بدون احتراق، فهي عندي مثل الكأس، بل هي والكأس... وبعدهما الطوفان!
وكان من جراء التدخين المتواصل ان عبق الدخان في الغرفة واصبحت ارى الاشياء بصعوبة.
وخطر لي ان افتح زجاج النافذة، فاذا بي اجده جزءاً من الحائط.
وكذلك خطر لي ان افتح باب الغرفة، ولكنني خشيت ان يتسرب الدخان ويتسرب معه صوت سعالي الى آذان النائمين والنائمات في الغرف المجاورة، وبينهم رفيق الرحلة الزميل العزيز سليم اللوزي، فصرفت النظر.
وحرت ماذا افعل في غرفتي، في وحدتي، في مكاني البعيد!
هل اذهب واوقظ زميلي النائم وانقل اليه العدوى، ثم اسأله علاجاً لحالتي التعيسة?
ام اغادر غرفتي الى الشارع الخالي الا من الظلام ورذاذ المطر?
ورأيت في النهاية ان لا بد من الانتظار ريثما تشرق الشمس ويطلع النهار، وعندئذ اطلب من ادارة الفندق طبيباً يصف لي علاجاً للأرق والسعال والشوق المدمر!
ولكن ما بال الشمس في اليابان لا تشرق بسهولة? ما بالها تبطىء في المجيء? ألم يطلق على هذه البلاد اسم: (بلاد الشمس)?... فأين هي الشمس? انني انتظرها وكأنني على موعد معها، فلماذا تخلف موعدها وتتركني حبيس الغرفة وجوها العابق بدخان السجائر والأفكار السوداء?!
لقد طال ليلي وطال غياب الشمس عني، أنا الذي ما جئت الى اليابان الا لأستعجل الفجر واستبق الزمن، فكانت النتيجة ان اصبت بخيبة أمل مشحونة بالأرق والزكام والسعال الديكي!

* * *

وفي لحظة من لحظات اليأس خطر لي ان احطم زجاج النافذة واقفز الى الشارع واضعاً بذلك نهاية سريعة لرحلتي وحياتي المليئة بالمتاعب والزكام ودعاوى محكمة المطبوعات!
ونظرت الى المقعد وقلت لنفسي: هيا حطم به الزجاج واقفز!
هيا تشجع يا استاذ، يا محترم، يا مسافر وحدك...
هيا وكفى ارقاً!
هيا وكفى برداً!
هيا وكفى زكاماً، كفى سعالاً، كفى انتظاراً لشروق الشمس!
صحيح ان الانتحار ضعف وجبن، ولكنه في اليابان شجاعة وبطولة، فلماذا لا تكون بطلاً وتنتحر?
لماذا لا تغتنم هذه الفرصة الذهبية، فرصة وجودك في عاصمة الانتحار والمنتحرين الأبطال، وتختصر البقية الباقية من الحياة بقفزة الى الشارع?!
لقد أديت قسطك في خدمة وطنك وأهلك ومهنتك، ولم يعد من الحق ان تطالب بالمزيد.
ان عشرات الكتاب والصحافيين الذين مروا قبلك لم يعطوا اكثر مما اعطيت، ولم يتركوا لأولادهم اكثر مما تركت...
اذاً فباستطاعتك ان تتوارى راضياً مطمئناً خفيف الظل.
ولا تنسَ انك غادرت وطنك وأهلك وأحباء قلبك وانت سليم معافى، وهم سليمون معافون، فما عليك الا ان تترك هذه الصورة الجميلة في خيالك وخيالهم، وتقفز من النافذة!
ولكن...
هل يحسبها اليابانيون بطولة?
ان طريقتهم في الانتحار هي (الهاراكيري)، وليست القفز من النافذة مثل القطط والأرانب!
وعلى هذا فلن اعتبر بطلاً الا اذا انتحرت بالطريقة نفسها التي ينتحرون بها في اليابان، اي بـ (الهاراكيري)!
ولكن من اين آتي بخنجر او بسيف في هذا الوقت?
ومن قال لليابانيين ان طريقتهم في الانتحار هي الفُضلى، وهي رمز البطولة?
بل من قال لهم اني ارضى ان امزق معدتي وأحشائي، وأرضى ان اشاهد مصاريني أمامي قبل طلوع الروح?!
اذا كانت هذه هي البطولة، فارجو المعذرة اذا قلت: طِز فيها!
وطز في (الهاراكيري)!
وطز في الانتحار أصلاً!
ومرحى للحياة بحلوها ومرها وغياب شمسها في اليابان.
مرحى لها ولفتيات الجيشا يداوين غريب الديار بالتي كانت هي الداء!
ويبعثن فيه الدفء والأمل ويشفينه من الزكام.
وبعد...
هذه هي الشمس تشرق أخيراً.
وهذا هو صوت الزميل العزيز سليم اللوزي يسألني بالتليفون: كيف اصبحت?
فأجيب: )كما امسيت، بلا نوم ولا فراش دافىء)!
قال: انا الشيء نفسه يا ابا عصام، لا نمت ولا دفيت ولا بطلت التعطيس!
- شو الحل?
- الحل نلبس وننزل الى الطعام لتدفأ عظامنا!
وهكذا كان، وستأتي التفاصيل في حينها!
اما الآن فاكتفي بالقول اني نفست عن صدري وانتهى الأمر.
وطوبى للقلم، انه خير علاج لكل أزمة نفسية اتعرض لها في وطني، او في ديار الغربة!
ما من مرة لجأت اليه الا كان معيني على تفريج كربي وتحويل ظلامي الى نور ويأسي الى رجاء.
وتحويل تفكيري في الانتحار الى اصرار على الحياة.
وعلى مواصلة الرحلة، من بيروت الى الشرق الأقصى، الى القطب الشمالي، الى قرب جدار المدرسة في لندن!
هناك، قرب الجدار وتنتهي كل المتاعب.
هناك، وتبدو الحياة كما هي في الأصل، حلوة وممتعة.
بل هناك، واتطهر من ذنوبي وآثامي وأغدو انساناً بريئاً طاهراً جديراً بملكوت السموات.
ذلك اني أب...
وأبوتي، وكل ابوة تزخر بالحب والحنان، هي الوسيلة الى اكتساب رضى السماء وغفرانها.
وهي الطريق الى السعادة.
ثم الطريق الى الجنة!
كتب سعيد فريحه

أنَا وَالهارَاكِيري

اكتب هذه (الجعبة) من طوكيو، من غرفتي في (أوتاني الجديد).
اكتبها، لا لأبدأ بها فصول رحلتي، بل لأنفّس عن صدري في هذه اللحظة.
الساعة الآن الرابعة صباحاً بتوقيت طوكيو.
والتاسعة مساءً بتوقيت بيروت.
أي ان الشمس التي ستشرق هنا بعد ساعتين، ستشرق عندنا في لبنان بعد تسع ساعات.
وفي لندن بعد احدى عشرة ساعة.
المهم...

انني منذ وصولي الى طوكيو وأنا أعاني الأرق والبرد والزكام والسعال الديكي!
فضلاً عن الشوق والحنين الى الوطن والاهل وأحباء القلب جميعاً.
وقد حاولت معالجة الأرق بالمطالعة، بالحبوب المنومة، بالاستسلام الى حلم جميل، ولكن بدون فائدة!
كما حاولت معالجة البرد والزكام باللجوء الى الفراش و(الكوكعة) تحت اللحاف، ولكن البرد اللعين ظل يخترق لحمي وعظامي ويحولني الى قطعة من الجليد!
ويحول الغرفة الى براد (جيبسون)!
وسبب البرد الشديد حلول فصل الشتاء في طوكيو، ووجود جهاز تكييف الهواء في الغرفة.
وعبثاً جربت اقفال جهاز التكييف، فاتضح انه مثل حكم شاه ايران، يدار من الخارج!
وهكذا فرض عليّ البرد في الفندق الضخم.
ومع البرد الزكام.
ومع الزكام الأرق.
ومع الأرق نوبات السعال.
ومع هذا كله، التدخين!
نعم، اني اكح وادخن وادخن واكح على الرغم من معرفتي أن بين الكح والتدخين خطاً بشعاً اسمه: (الطرونبوز)!
او انفجار الرئة!
او ذاك الداء الذي لا يرجى منه الشفاء!
ولكن ما الحيلة? اني ضعيف جداً مع هذه الساحرة القاهرة التي اسمها: السيجارة.
وقد استطيع ان اعيش من دون طعام ولا شراب ولا معصية، ولكنني لا استطيع ان اعيش لحظة واحدة بدون سيجارة.
انها معي دائماً، في الفرح والترح، في العافية والمرض، قبل الطعام وبعده وفي أثنائه!
معي في كل وقت وكل مكان، معي في لبنان، معي في اليابان، معي في براد جيبسون... انها لا تفارقني أبداً، في كل خطوة، وكل سرحة، وكل كلمة اخطها على الورق! انني احبها ولو احرقت اصابعي.
احبها ولو مزقت رئتي.
احبها واتحدى ان يحبها احد مثلي، وعلى طريقتي، اذ لا اكاد اشعلها حتى اطفئها، فأنا لا اطيق ان أراها تحترق، ولا أطيق ان أراها بدون احتراق، فهي عندي مثل الكأس، بل هي والكأس... وبعدهما الطوفان!
وكان من جراء التدخين المتواصل ان عبق الدخان في الغرفة واصبحت ارى الاشياء بصعوبة.
وخطر لي ان افتح زجاج النافذة، فاذا بي اجده جزءاً من الحائط.
وكذلك خطر لي ان افتح باب الغرفة، ولكنني خشيت ان يتسرب الدخان ويتسرب معه صوت سعالي الى آذان النائمين والنائمات في الغرف المجاورة، وبينهم رفيق الرحلة الزميل العزيز سليم اللوزي، فصرفت النظر.
وحرت ماذا افعل في غرفتي، في وحدتي، في مكاني البعيد!
هل اذهب واوقظ زميلي النائم وانقل اليه العدوى، ثم اسأله علاجاً لحالتي التعيسة?
ام اغادر غرفتي الى الشارع الخالي الا من الظلام ورذاذ المطر?
ورأيت في النهاية ان لا بد من الانتظار ريثما تشرق الشمس ويطلع النهار، وعندئذ اطلب من ادارة الفندق طبيباً يصف لي علاجاً للأرق والسعال والشوق المدمر!
ولكن ما بال الشمس في اليابان لا تشرق بسهولة? ما بالها تبطىء في المجيء? ألم يطلق على هذه البلاد اسم: (بلاد الشمس)?... فأين هي الشمس? انني انتظرها وكأنني على موعد معها، فلماذا تخلف موعدها وتتركني حبيس الغرفة وجوها العابق بدخان السجائر والأفكار السوداء?!
لقد طال ليلي وطال غياب الشمس عني، أنا الذي ما جئت الى اليابان الا لأستعجل الفجر واستبق الزمن، فكانت النتيجة ان اصبت بخيبة أمل مشحونة بالأرق والزكام والسعال الديكي!

* * *

وفي لحظة من لحظات اليأس خطر لي ان احطم زجاج النافذة واقفز الى الشارع واضعاً بذلك نهاية سريعة لرحلتي وحياتي المليئة بالمتاعب والزكام ودعاوى محكمة المطبوعات!
ونظرت الى المقعد وقلت لنفسي: هيا حطم به الزجاج واقفز!
هيا تشجع يا استاذ، يا محترم، يا مسافر وحدك...
هيا وكفى ارقاً!
هيا وكفى برداً!
هيا وكفى زكاماً، كفى سعالاً، كفى انتظاراً لشروق الشمس!
صحيح ان الانتحار ضعف وجبن، ولكنه في اليابان شجاعة وبطولة، فلماذا لا تكون بطلاً وتنتحر?
لماذا لا تغتنم هذه الفرصة الذهبية، فرصة وجودك في عاصمة الانتحار والمنتحرين الأبطال، وتختصر البقية الباقية من الحياة بقفزة الى الشارع?!
لقد أديت قسطك في خدمة وطنك وأهلك ومهنتك، ولم يعد من الحق ان تطالب بالمزيد.
ان عشرات الكتاب والصحافيين الذين مروا قبلك لم يعطوا اكثر مما اعطيت، ولم يتركوا لأولادهم اكثر مما تركت...
اذاً فباستطاعتك ان تتوارى راضياً مطمئناً خفيف الظل.
ولا تنسَ انك غادرت وطنك وأهلك وأحباء قلبك وانت سليم معافى، وهم سليمون معافون، فما عليك الا ان تترك هذه الصورة الجميلة في خيالك وخيالهم، وتقفز من النافذة!
ولكن...
هل يحسبها اليابانيون بطولة?
ان طريقتهم في الانتحار هي (الهاراكيري)، وليست القفز من النافذة مثل القطط والأرانب!
وعلى هذا فلن اعتبر بطلاً الا اذا انتحرت بالطريقة نفسها التي ينتحرون بها في اليابان، اي بـ (الهاراكيري)!
ولكن من اين آتي بخنجر او بسيف في هذا الوقت?
ومن قال لليابانيين ان طريقتهم في الانتحار هي الفُضلى، وهي رمز البطولة?
بل من قال لهم اني ارضى ان امزق معدتي وأحشائي، وأرضى ان اشاهد مصاريني أمامي قبل طلوع الروح?!
اذا كانت هذه هي البطولة، فارجو المعذرة اذا قلت: طِز فيها!
وطز في (الهاراكيري)!
وطز في الانتحار أصلاً!
ومرحى للحياة بحلوها ومرها وغياب شمسها في اليابان.
مرحى لها ولفتيات الجيشا يداوين غريب الديار بالتي كانت هي الداء!
ويبعثن فيه الدفء والأمل ويشفينه من الزكام.
وبعد...
هذه هي الشمس تشرق أخيراً.
وهذا هو صوت الزميل العزيز سليم اللوزي يسألني بالتليفون: كيف اصبحت?
فأجيب: )كما امسيت، بلا نوم ولا فراش دافىء)!
قال: انا الشيء نفسه يا ابا عصام، لا نمت ولا دفيت ولا بطلت التعطيس!
- شو الحل?
- الحل نلبس وننزل الى الطعام لتدفأ عظامنا!
وهكذا كان، وستأتي التفاصيل في حينها!
اما الآن فاكتفي بالقول اني نفست عن صدري وانتهى الأمر.
وطوبى للقلم، انه خير علاج لكل أزمة نفسية اتعرض لها في وطني، او في ديار الغربة!
ما من مرة لجأت اليه الا كان معيني على تفريج كربي وتحويل ظلامي الى نور ويأسي الى رجاء.
وتحويل تفكيري في الانتحار الى اصرار على الحياة.
وعلى مواصلة الرحلة، من بيروت الى الشرق الأقصى، الى القطب الشمالي، الى قرب جدار المدرسة في لندن!
هناك، قرب الجدار وتنتهي كل المتاعب.
هناك، وتبدو الحياة كما هي في الأصل، حلوة وممتعة.
بل هناك، واتطهر من ذنوبي وآثامي وأغدو انساناً بريئاً طاهراً جديراً بملكوت السموات.
ذلك اني أب...
وأبوتي، وكل ابوة تزخر بالحب والحنان، هي الوسيلة الى اكتساب رضى السماء وغفرانها.
وهي الطريق الى السعادة.
ثم الطريق الى الجنة!
*****************************************************************

شَتائِمُ في بَريدِي







سعيد فريحة



نشرت في عدد سابق من هذه المجلة الشتيمة التي وجهها اليّ احد المواطنين الشيوعيين بواسطة البريد، وهي (استحِ يا سعيد... يا عبد النواب البريطانيين الستة).



واستغرب احد القرّاء القدامى عليّ نشر هذه الشتيمة في مجلتي، فكتب اليّ يقول:



(الا تعلم ان الكريم من كتم اهانة نفسه? اذاً فكيف ابحت لنفسك نشر هذه الاهانة في مجلتك)? اسمح لي ان اقول لك انك قصير النظر، ولا تعرف معنى الحرص على الكرامة!



وهكذا شتمني حضرة الأخ الكريم لأني نشرت في مجلتي ما اعتبره هو اهانة، واعتبرته انا تجنياً وظلماً وقلة حياء من الشيوعي المواطن!





وقد خطر لي وأنا اقرأ هذه الشتيمة الجديدة ان اعود بالذاكرة الى ما سبق ان تلقيته من سباب وشتائم في البريد، فاجعل منه موضوعاً طريفاً لجعبة هذا الأسبوع.



كتبت مرة انتقد احد الزعماء السياسيين، وما ان صدر العدد الذي نشر فيه الانتقاد حتى تلقيت رسالة بدون توقيع يعتب عليّ فيها صاحبها ويقول لي بلغة لطيفة مهذبة اني اخطأت وان الزعيم الذي كان هدف انتقادي رجل طيب وابن حلال!

ورأيت ان انشر هذه الرسالة نزولاً عند حكم المهنة وحكم احترام رأي الغير... وليتني لم افعل، لأن قارئاً محترما او غير محترم كتب اليّ بعد ذلك يقول:



(لم استغرب تراجعك، فأنت صحفي لا مبدأ لك ولا ضمير، تذم اليوم وتمتدح غداً، وكل ذلك من اجل ان تقبض... ولكن ليس الحق عليك وانما الحق على الذين يقرأون مجلتك ايها المنافق).



ولم يشأ ان يختم رسالته بدون ان يطالبني بنشرها في (الصياد) عملاً بحرية النشر!



ولا ازال اذكر يوم هاجمت عهد المرحوم حسني الزعيم كيف انهالت عليّ الرسائل المغفلة في البريد وكلها شتائم ولعنات تنصب على رأسي انا الذي كنت اقبض من شكري القوتلي.





واقبض من الحكومات التي تعاقبت في عهده، وقد هالني ان ينقطع رزقي في عهد البطل حسني الزعيم، فرحت اهاجمه بالرغم من انه انقذ سورية من الاقطاعية واللصوصية والخيانة!





وحدث بعد ذلك ان ارسل حسني الزعيم من يحاول اغتيالي في وطني وعقر داري، فاستنجدت بالحكومة، ولما لم تنجدني تواريت... واخذت احرر مجلتي واواصل هجومي، وانا قابع تارة في منزلي، وتارة في (بارك اوتيل) ببرمانا... واخيراً انفرجت الأزمة بمجيء سكرتير حسني الزعيم وعديله واعني الصديق نذير قنصه - الى بيروت، وبعد السلام والكلام والذي منه قال: تفضل... ان دولة الزعيم يدعوك لزيارة الجبهة!





ولبيت الدعوة بعدما كتبت الوصية وودعت الاهل والخلان، فاذا بالمرحوم حسني الزعيم يستقبلني بلطف وبرحابة صدر، فحمدت الله وقررت ان (اهادن) الرجل فلا اقول فيه وفي عهده كلمة خير او شر... باعتبار اني اديت قسطي، وان انقاذ سورية من ديكتاتورية حسني الزعيم لا يطلب مني وحدي!





ولكن هذا الموقف لم يرق لبعض القراء المجاهدين... فاخذوا يمطرونني بسيل من رسائلهم وشتائمهم التي هي من نوع: لعنة الله عليك وعلى اصلك... ان سكوتك عن حسني الزعيم دليل على جبنك وخيانتك بل دليل على انك انسان نفعي لا يهمه الا ان يجعل من الصحافة وسيلة للمتاجرة والاستغلال!



أرأيت كم هي تعسة حياة الصحفي في هذه البلاد?!



يُشتم اذا هاجم، ويُشتم اذا هادن، بل يُشتم اذا خطر له ان يشتري حياته وحياة اسرته بالسكوت، ولا شيء غير السكوت!

وبالأمس، عندما بدأت اكتب سلسلة مقالاتي عن العهد الماضي، اخذ البريد يحمل اليّ في كل يوم عدداً من الرسائل المغفلة، وقد شتمت في بعضها لأني ادافع عن بشارة الخوري... وُشتمت في البعض الآخر لأني اهاجمه واهاجم افراد اسرته... ولعل اطرف ما جاء في احدى هذه الرسائل قول (طالب حقوق):





(لقد حيرتني يا رجل... انك لا تكاد ترفع بشارة الخوري الى القمة حتى تهوي به الى الحضيض... فاتق الله وقل لنا ما حقيقة الرئيس السابق، هل هو شيطان فنكفر به، ام قديس، فنشاركك في عبادته?).





وخطر لي، عند اطلاعي على هذه الرسالة، ان اجيب صاحبها بقولي: اني لا أملك حق تصنيف الناس، وكل ما املك هو ذكر الحقائق، فاذا اتضح منها ان بشارة الخوري شيطان فهو كذلك... او اتّضح انه قديس فطوبى له!

اجل، لقد خطر لي ان اجيبه بهذه العبارة، ولكن خشيت ان اتلقى منه شتيمة جديدة. فرأيت ان اطوي الرسالة، ثم اعود فانشرها اليوم وليكن ما يكون!





هذه (مسطرة) من رسائل بعض القرّاء وشتائمهم، وقد حرصت على نشرها حتى اقيم التوازن بينها وبين ما نشر في الاعداد الأخيرة من رسائل الثناء والاطراء بمناسبة صدور كتابي (جعبة الصياد).





ان الثناء جميل، ولكن اجمل منه ان يكون الانسان ذكياً فلا يزعم ان جميع الناس يباركونه ويطرونه ويرشقونه بالورود!

واحمد الله على اني املك الشجاعة الكافية لأن اقول: ان الذين يرشقونني بالحصى والحجارة والاقذار كثيرون، ولكنهم ليسوا اكثر من راشقي الورود... وفي هذا عزاء!!

جريدة الانوار اللبنانية
*************************************************************************
سعيد فريحة تلميذ الصحافة الحلبية

حلب
المجتمع
الخميس9-7-2009
عمر مهملات
جاء إلى حلب في عام الف وتسعمئة وثمانية وعشرين ليعمل في صالون حلاقة افتتحه المرحوم توفيق عسال للسيدات في شارع التلل , كان سعيد فريحة يومئذ في العشرينيذات من عمره جميل الطلعة حلو الوجه ذا عينين خضراوين يثير الانتباه ويجذب الطرف إليه لم يكن سعيد فريحة يتقن فن تصفيف الشعر والحلاقة النسائية .

ما كاد سعيد يحط في حلب ويستأجر غرفة في زقاق الاربعين حتى اقتحم المجتمع الحلبي فأصبح يدعى للسهرات الطويلة التي تبدأ بعد العصر وتنتهي عند الفجر أو قبل طلوع الشمس وهبوط النيام من الأسطحة المفروشة إلى الأسرة الجاهزة.‏

ومع مهنة الحلاقة التي كانت قصيرة الوقت انخرط في مهنة الصحافة كان سعيد فريحة يعشق الكتابة والقراءة , يقرأ على ضوء (اللوكس) في الحارة ويحفظ ماقرأه بشكل فوري وعجيب فأصبح لديه خزانة من الوصف والخيال يستخرج منها مايريده عندما يكتب أو يتحدث.‏

بدأ حياته الصحفية وهو لايعرف من اللغة لا الفاعل ولا المفعول ولا الألف الممدودة أو المقصورة ولا التاء المربوطة أو المبسوطة بل كان يكتب على البداهة وكما قرأ في الكتب التي كان يستعيرها من المكتبات ولكي يجرب قلمه راح يحضر مباريات كرة القدم التي كان يعشقها فيروي تفاصيلها في رسالة يحملها إلى جريدة التقدم التي اختارها من بين الصحف كان صاحب التقدم يتسلم الرسالة ويصحح ماورد فيها من أغلاط املائية ونحوية وينشرها لأن سردها كان ممتعاً جميلاً وهكذا في كل اسبوع مباراة بكرة القدم وفي كل أسبوع وصف لها بقلم سعيد فريحة .‏

كان صاحب التقدم قد لاحظ بين الرسالة والأخرى ان كاتبها لايكرر الأغلاط التي كان يصححها له وهكذا تشجع سعيد فريحة على الكتابة حتى أنه لم يعد يكتفي بجريدة التقدم بل اضاف إليها الراصد في بيروت والقبس في دمشق فكان من جراء ذلك أنه اصبح من أنصار فريق الاتحاد الحلبي .‏

والرسالة الرياضية التي بدأت بعشرة أسطر طالت إلى مئة ثم إلى عمود في الجريدة وقلت فيها الأغلاط وتجملت الكلمات فأصبح الوصف مغرياً والسرد مشوقاً فأعجب صاحب التقدم بأمرين من سعيد فريحة الأول هو حرصه على الافادة من التصحيح والثاني التوسع في الوصف والتأنق في التعليق والرواية مما يجذب القارئ ويحبس أنفاسه لموعد آخر , وهكذا فكر شكري كنيدر صاحب التقدم ان يضم سعيداً إلى هيئة تحرير جريدته بعد أن تأكد أن طموحه الصحفي سيفضي به إلى أن يكون صحفياً جيداً وناجحاً فعرض عليه ذات يوم أن يمتهن الصحافة مقابل راتب بسيط قدره ليرتان ذهبيتان في الشهر فقبل سعيد العرض وانضم إلى التحرير كمخبر محلي يطوف سراي الحكومة ويقابل الموظفين ويجمع الأخبار من دفتر الشرطة ويعود إلى الادارة وينشؤها بأسلوب يطغى فيه الخيال على الحقيقة فازداد بيع الجريدة وأصبح لسعيد قراء معجبون يشترون الجريدة ليقرؤوا لسعيد فريحة ما رواه من أحاديث وحوادث وكيف جعل من الحبة قبة وعبث بالخيال فجعله حقيقة يؤمن بها القارئ ويعتبرها واقعاً حسياً , وكان يكتب شهرياً زاوية( خلاصة الاخبار ) في مجلة الكلمة لقاء ثلاث ليرات ذهبية شهرياً كما كان عضوا في جمعية مشاريع الكلمة الخيرية.‏

ومن هذا الأسلوب وبهذا الخيال انضم إلى جهة محاربة السلطة القائمة وموالاة الزعماء السياسيين يحضر جلساتهم ويناقش آراءهم وينشرها مع الزيادة في الشدة والتحدي وهذا ما وطد صداقته بزعماء الكتلة الوطنية ففتحت الأبواب أمامه وأصبح من روادها الدائمين الموثوقين يهاجم من يعاديهم ولما كان لصاحب التقدم خطه السياسي الواضح فقد فسح المجال لسعيد فريحة ان يمدح الكتلة الوطنية ويدافع عنهم.‏

ولما كان طموح سعيد فريحة يتعدى خط صاحب التقدم ويضيق به فقد راح يهاجم وينقد الانتداب في جريدتي الراصد اللبنانية والقبس الدمشقية وينشر (الريبورتاجات الاجتماعية) وينشر كذلك على صفحات القبس الدمشقية المقالات التي تؤيد زعماء الكتلة الوطنية في حلب مما جعله موضع ثقة رجالاتها وزاده احتراماً عند صاحب التقدم , فقد كان سعيد فريحة همزة وصل بين صاحب التقدم وزعماء الكتلة الوطنية آنذاك فكان عندما يتأزم أمر بينهم وبين صاحب التقدم يتدخل سعيد لفك الأزمة ويوصل ما انقطع , لقد اتقن سعيد فريحة الكتابة وتعلم النحو والصرف بالبداهة ودرس البيان والبديع من قراءة مقالات محمد التابعي وفكري أباظة وأنطوان الجميل.‏

وقد نظم الشعر فله بعض القصائد في الضاد والكلمة ويوم زواج صديقه فؤاد بدوي عام 1932 هنأه بقصيدة منشورة في مجلة الضاد 1932 الصفحة 286 ( عاطفة صديق).‏

تزوج سعيد فريحة في لبنان وعاد مع عروسه إلى حلب ورزق بابنه عصام في مدينة حلب ثم عاد إلى لبنان في عام الف وتسعمئة وثمانية وثلاثين ليعمل محرراً في جريدة الحديث لصاحبها الياس حرفوش ولينضم إلى الكتلة الدستورية ويوالي رياض الصلح الذي كان على صداقة تامة مع رجالات الكتلة الوطنية في سورية وصهر عائلة الجابري في حلب ومن أعمدة جريدة التقدم في حلب ,ولدت الصياد في بيروت ثم الشبكة ثم الأنوار وقد اشترك كنيدر في تزويد هذه المجلات والصحف التي يصدرها سعيد بالمقالات القيمة حتى آخر أسبوع من حياته.‏

عشرة أعوام قضاها سعيد فريحة في حلب ينام في النهار ويسهر طوال الليل يلهو ويقصف ويعب من مباهج الحياة , كان شامة في المجتمع الحلبي وزهرة في عروة الصبا والجمال والليالي الملاح في حلب الشهباء لم ينسها قط فكان يصطاد أصدقاءه الحلبيين الذين يزورون بيروت ليقضي سهرة معهم ويحيي ذكرياته في حلب ويتزود بأخبار مجتمع حلب وعندما افتتح دار الصياد دعا أستاذه ومؤدبه الأول السيد شكري كنيدر لترؤس الحفلة التي كانت برعاية الرئيس كميل شمعون فأشركه في قص الشريط مستأذنا من فخامة الرئيس شمعون بقوله : إن لهذا الشيخ الوقور الفضل الأكبر فيما وصل إليه سعيد فريحة وما بلغه من مقام وما يسر له بناء هذا الصرح الصحفي الضخم وكذلك كان شكري كنيدر يخص سعيد فريحة بهداياه في كل صيف, كان يقصد الجبل ليصطاف في عين السيدة فيحمل لسعيد تلميذه النجيب سلالاً من الفستق والمربى الحلبي وأصابع اللوز التي يعشقها سعيد فكان الأستاذ والتلميذ النجيب يتبادلان النكات عن أيام زمان.‏

وعندما توفي شكري كنيدر في 14 أيلول عام 1964 كتب يقول في كلمة مايلي : إن الوفاء قد مات عند بعض الناس فاكتفوا ان يرسلوا ورقة النعي في البريد فلم يتكلفوا أن يهتفوا ويبرقوا لسعيد فريحة سامحهم الله فقد ماتوا ولكن الوفاء باق عند سعيد إلى الأبد.‏
*****************************************************************
مقال: سمير عطا الله: سعيد فريحه: مدرسة الصحافة الجريئة
08 / 03 / 2008

في الذكرى الثلاثين لرحيل عميد (دار الصياد) سعيد فريحه، كتب الزميل الكبير سمير عطالله المقال التالي في مجلة (المجلة) السعودية: سعيد فريحه برغم انغماسه في الحياة، لم يفارقه العمل السياسي لحظة واحدة.

وقف مع الناصرية ضد كميل شمعون، ووقف مع فؤاد شهاب ضد معارضيه، وقام بأول رحلة إلى فلسطين في الثلاثينيات، ووقف مع القضية الفلسطينية، خرج للمرة الأولى عن خط التزم به طوال عمره، ويوم توفي كتب عنه ميشال أبو جودة أنه عاش مسلماً بين المسيحيين ومسيحياً بين المسلمين، ولذلك اختار ديانة ثالثة هي الأرثوذكسية!
كان أستاذاً فريداً في فئته وفي طبقته وفي نوعه. أسس أول دار صحافية في لبنان. وأسس مدرسة تدرج فيها كثيرون ولم يتخرج فيها أحد. بدأ الحياة من تحت الأرض، والصحافة من تحت الحصيرة، وارتقى وارتقى ولم يوقفه عن الارتقاء سوى الحتف.
كان يتيماً بلا أب أو أم، وكريماً بلا حدود، ومحباً للحياة بلا حساب، ومحباً للمرأة والصحافة، لا تعرف إن كان يعشق الحسن من أجل الكتابة أم يبرع في الكتابة من أجل الحسن. وكان ظريفاً آسر الحضور إذا ضحك، وآسر الحضور إذا غضب، ويغادر المكان إذا ثار، ثم لا يلبث أن يعود، ضاحكاً من نفسه، معتذراً، مثل طفل، عما فعل.
دخلت (دار الصياد) وخرجت منها أكثر من مرة; كنت أدخل بسبب سعيد فريحه، وأخرج بسبب زملائي; جعل محمد حسنين هيكل يكتب عن هذه العلاقة تحت عنوان (فصل في الوفاء). أحب جمال عبد الناصر ومشى في خطاه وتقدم جميع العروبيين، لكنه كان يروي لي ضاحكاً أنه أبلغ الزعيم المصري بأنه سوف يظل اشتراكياً إلى أن تقترب الاشتراكية من (جاك فات) و(لانفان). أوعاد!
كان شديد الأناقة، يليق به أي شيء، من (البرنس دوغال) ومربعاته، إلى الأطقم الداكنة الرسمية، وكان يغير البدل بالعشرات نكاية بسنوات الفقر واليتم والجوع، ويغير ربطات العنق بالعشرات، ويسهر الليل حتى آخره، ويعمل النهار حتى آخره، فقد كان يعود من السهرة عند الفجر. وبدل أن يصعد إلى بيته في الطابق الرابع، كان يتوقف عند مكتبه في الطابق الثالث، ويكتب وعندما كان يصيح عليه ديك الجيران، كان يطل من النافذة ويشتمه، وفي النهاية اشتراه من الجارة، ثم اشترى بيتها، ووسع الدار التي ولدت من (جعبة) ظريفة لم يقلدها أحد.
صنع كل شيء من لا شيء، جد وتوكل، وعندما أعود إلى سيرته وبداياته، تذهلني الجرأة التي كان يملكها، والشجاعة التي رافقته، والإقدام الذي رفعه شعاراً. بدأ حياته صبيا حلاقا فقيراً معدماً ومتروكاً. وقرر أن يصبح صحافياً، وبدأ الصحافة في حلب مخبراً صغيراً ومتعثراً. ثم صار صحافياً معروفاً ولم يتوقف، أراد أن يكون من كبار صحافيي لبنان، ومن رجال العرب، فأنشأ مجلة (الصياد) في بيروت في مكان من غرفتين، وجعلها كاريكاتورية بدل أن تكون مجلة عادية، وكان يملؤها بنفسه: (الجعبة) الظريفة، والافتتاحية السياسية الجريئة، وبدأ صبي الحلاق، من دون أي عقدة، يستقطب كبار الكتاب والصحافيين: خليل تقي الدين، وسليم اللوزي، ومارون عبود وتوفيق يوسف عواد وسعيد عقل وإميل الخوري، وكل من استحق يومها لقب (الأستاذ الكبير) مرفقاً باسمه، وفي السياسة اختار رياض الصلح وجعله رياض بين حوارييه، وبقي مخلصاً لرياض بك طوال عمره، وأطلق عليه لقب (الزعيم الخالد); وبسببه تعرض لمحاولات الاغتيال، وتكررت المحاولات في ما بعد بسبب الزعيم الآخر، جمال عبد الناصر. وعندما اشتد الضيق عليه العام 1958 لجأ إلى مصر، وظل هناك إلى أن ربح، مع غيره، المعركة ضد التجديد للرئيس كميل شمعون، وحاول خوض المعركة النيابية على لائحة العروبة في بيروت، لكنه أخفق وحوَّل نتائج المعركة إلى (جعبات) يكتبها ضد رفاقه في اللائحة الذين خانوه، وحوَّل فشله إلى مجموعة من النكات واللمحات، وأقسم على ألا يكرر المحاولة مرة أخرى. وعاد يعيش.
يعيش في القاهرة، ويعيش في لندن ويعيش في باريس، ويعيش في بيروت، وفي شتاء العام 1961 ذهبت أزوره في فندق (جورج الخامس)، وكان يومها برفقة الأمير طلال بن عبد العزيز والأميرة منى، صعدت إلى جناحه، وكان كمعظم الأوقات في (الروب دوشامبر) الذي يداوم به في المكتب، ويستقبل به المحررين والموظفين، وحتى الضيوف، وتطلعت إلى نافذة الغرفة ورحت أتأمل وأطلَّ وتطلع إلي وقال بسخريته وخفة ظله: على شو عم تنوضر?
قلت، أبداً!
قال: شايفك مركِّز، عَ شو مركِّز?
قلت: أستاذ، أنت تكتب دائماً عن النساء كيف يدخلن عليك من النوافذ ومن خلف الستائر; فقلت لعل وعسى!
لف (بروبه) ووقف ضاحكاً، وقال: قوم انقبر فِل!
أحاط نفسه دائماً بعلامات الغنى وظاهرة الكرم، لم يستطع أن ينزع من ذاكرته لحظة واحدة، أيام الفقر والمجاعة، ولم ينس مرة أن شقيقه الأكبر خليل، كان يضربه لما كانوا أطفالاً، لأنه يريد تعلم القراءة على ضوء السراج، كان ينهره ويؤنبه ويثنيه، وفي النهاية أصبح سعيد فريحة سعيد فريحة. أما خليل فريحة فعمل حتى تقاعده موظفاً بريدياً في الدار، ينقل الرسائل من مكتب بيروت القديم إلى مبنى الدار في الحازمية.
لم يكن يتحدث سعيد فريحة لأحد عن خليل فريحة، لكنه كان يكتب عنه بحرقة شديدة كلما عاد إلى تلك الأيام; (كنت أقرأ في السر لأن أخي خليل كان ينهال علي بالعصا كلما ضبطني متلبساً بجريمة القراءة وحجته في ذلك أني أهمل عملي وأهدر مستقبلي، وكان عملي ومستقبلي عنده في دكان الحلاقة).
لم أشاهد خليل في دار (الصياد) إلا باسماً وحاملاً مجموعة من الرسائل والمغلفات، وكان يرتدي باستمرار طقماً كحلياً من النوع الذي يرتديه موظفو السكك الحديدية، ولم يكن يدرك أن الأستاذ الجالس في الطابق الرابع أصبح متربعاً على قمة من قمم الصحافة في العالم العربي، يغير الأطقم من عند (لانفان).
كانت أم سعيد فريحة من حماة، وعندما دهمت المجاعة لبنان في الحرب العالمية سافر والده إلى البرازيل، فقررت الأم أن تحمل أطفالها وتذهب بهم إلى مسقط رأسها: (لا أزال أتذكر يوم ضمتني أمي إلى صدرها وأبعدتني عن مشهد بعض العمال وهم يلتقطون جثث الجياع من أول طريق النهر (بيروت) ويصفونها في طنابر البلدية، وخشيت أمي أن نلاقي المصير نفسه، فجمعتنا في صباح اليوم التالي وقالت لنا: احملوا بقجكم واتبعوني. وحملنا بقجنا ومشينا ببطون خاوية وأقدام حافية أطول مسيرة في تاريخ الطفولة البائسة: بدأت من برج حمود وانتهت في مدينة حماة. وعند وصول موكبنا إلى (تل كلخ) تصدى لنا أحد الرعيان شاهراً خنجره، وسطا على البقج، وكانت إحداها تحتوي على غطاء نتقي به برد الليل ونحن ننام على الطريق، فرفضت الوالدة أن تتخلى عنها واستبسلت في الرفض، فغرس الوغد خنجره في كتفها وانتزع البقجة الغالية بالقوة، وسقطت الوالدة على الأرض تمتزج دموعنا بالدماء التي تنزف من كتفها ولنستعيض عن الحرام في الليالي الباردة بدفء حنان الأم البطلة).
هكذا بدأ مشوار سعيد فريحة في الحياة، وقد انتهت الرحلة بوفاة الأم، وشقيقه الأصغر، وبقي هو، ابن العاشرة، وشقيقتان أصغر منه وأصبح هو عائلهما وعائل نفسه; من هذه المأساة المحزنة، خرج سعيد فريحة ضاحكاً ليكون واحداً من كبار الذين أدخلوا السرور إلى قلب الناس. قرأته وأنا صغير فأدهشني وقرأته وأنا كبير فأحببته، ولا أزال إلى اليوم، كلما أردت أن أتعلم وأتمتع في آن واحد، أعود إلى (الجبعة) التي لم تفارقني في تنقلي عبر القارات والمنازل الكثيرة.
يوم دخلت الدار محرراً في القسم الخارجي في (الأنوار)، كانت الدار مليئة بكبار الصحافيين: سليم نصار، هاشم أبو ظهر، نبيل خوري، جورج إبراهيم الخوري، إميلي نصرالله، يونس الابن، علي بلوط، رشيد شقير، وسواهم كثير، وكان سعيد فريحة يعقد يوم السبت اجتماعاً أسبوعياً يدعو إليه أيضاً الشاعر سعيد عقل والظريف نجيب حنكش، كنت شاباً ومبتدئاً، ولكن حتى في عز جهلي تنبهت إلى أن سعيد فريحة يسيطر أو يطغى على المكان. ليس بنفوذه وكونه رب العمل، بل لأنه ملم بعمل الصحافيين جميعاً، وكان عارفاً بتقصيرهم، وكانوا يدركون جميعاً، على نحو لا تفسير له، أنه هو الأستاذ، والباقي مدرسة.
كان ذلك أسلوبه في الحضور والحياة وأسلوبه الممتنع في الكتابة. لذلك قلت في البداية إن كثيرين تدرجوا ولم يتخرج أحد، فقد ظلت (الجعبة) مدى أدبياً متفرداً في حاله، خليطا من الأدب والسياسة والنقد والسخرية من الذات، وقاسما مشتركا واحدا هو الحب; ولذلك اسمى سيرته الذاتية (من حب إلى حب)، وما فقده من عطف الأب في السابعة ومن الحنان الأمومي المطلق في العاشرة، أمضى بقية عمره يبحث عنه في كل مكان، وفي كل الأعمار، وكان يذهب إلى هيلتون النيل ويمضي أشهراً طويلة فيه، هو وكرمه وبذخه وأصحابه، من أجل فتاة شابة تعمل في (الأسانسور)، وانتشرت قصة فتاة المصعد في العواصم العربية وفي دوائر الصحافة والسياسة، وأدار الرجل ظهره إلى العالم ووجهه إلى حبه الصغير، ثم حوَّل كل شيء إلى (جعبة). عندما عاد غابرييل غارسيا ماركيز إلى قريته بعد غياب طويل وحنين عميق، قال وهو يتفرج على بيوتها العادية: (لقد تحول كل شيء إلى أدب).
لا أعرف أحداً في الصحافة العربية استطاع تحويل اللاشيء إلى شيء جميل، مثل سعيد فريحة. وحول اعترافاته الصغيرة إلى ضرب من ضروب الأدب، وكنا ننتظر (الجعبة) صباح كل خميس لكي نعرف أين سهر هذا الأسبوع أو كيف تخلص من مأزق، وذات يوم التقاه النائب إميل البستاني، وهو من أذكى وأهم شخصيات لبنان، وقال له معاتباً: (لقد أمضيت سنوات وأنت تمتدح فضائلي والآن أقرأك فأجد أنك لا تكتب إلا عن معايبي، ورد سيد الظرف: )لقد كان ذلك القسم الأول، والآن بدأنا في القسم الثاني، وجل من لا عيب فيه).
برغم انغماسه في الحياة، لم يفارقه العمل السياسي لحظة واحدة. وقف مع الناصرية ضد كميل شمعون، ووقف مع فؤاد شهاب ضد معارضيه، وقام بأول رحلة إلى فلسطين في الثلاثينيات، ووقف مع القضية الفلسطينية خرج للمرة الأولى عن خط التزم به طوال عمره، ويوم توفي كتب عنه ميشال ابو جودة أنه عاش مسلماً بين المسيحيين ومسيحياً بين المسلمين، ولذلك اختار ديانة ثالثة هي الأرثوذكسية!
جورج أنطونيوس، ميشال عفلق، انطون سعادة، غسان تويني، قسطنطين زريق، أنيس ويوسف وفايز صايغ، جورج حبش، كمال ناصر، كلوفيس مقصود، وديع الصيداوي، فارس الخوري، جيل عديد من المسيحيين العرب، أو بالأحرى العرب المسيحيين، الذين كان سعيد فريحة واحداً من أعلامهم. دخل السجن مرات وتعرض لـ 12 محاولة اغتيال، وفي كل مرة كانت العروبة هي السبب، أو الآخر. لقد كان مندفعاً بلا حدود وبلا حساب; في الوطنية، وفي القومية وفي الحب، وأيضاً في السهر. وقد تساءل ظريف لبنان نجيب حنكش مرة; (كيف كان لي أن أصير صديقاً لهذا الرجل? هو ينام عند صياح الديك وأنا أنام مع الدجاج، هو مبذر وأنا مقتر، هو رب عائلة وأنا وحيد، هو عاشق دائم وأنا خفت من الزواج).
يبدو أن سعيد فريحة تعرف إلى مصطفى وعلي أمين في بداية الأربعينيات; هكذا يستوحى من افتتاحية في (الصياد) كتبها العام 1948 عن مشروع لطبع المجلة في (دار الهلال) لأن الكلفة هناك أقل منها في بيروت، ولعبت هذه الصداقة دوراً كبيراً في حياته وفي عمله. كان مصطفى وعلي منفتحين على الصحافة العالمية وتطوراتها الحديثة، وأفاد هو كثيراً من هذه الخبرة; وبسبب إعاقة اللغات الأجنبية، تطلع إلى الصحافة المصرية كمثال، وكان له من الأصدقاء في الصحافة المصرية أكثر مما له في لبنان; من محمد التابعي إلى محمد حسنين هيكل. تأثر بفكرة الدور الصحافية في مصر، وتأثر بمدرسة )أخبار اليوم) والخبر السريع، فأنشأ (الأنوار) على غرارها.
لكن الشيء الوحيد الذي ظل نسيجاً وحده دون سواه، هو الأسلوب، لا قَلد ولا قُلد. ولم تكن مهارته في العمل الصحافي أقل منها في الكتابة، فقد كان يجتمع كبار محرري (الأنوار) بحثاً عن عنوان مشوق لذلك النهار، ويبدأ الجميع في حك رؤوسهم، وفي النهاية ينزل الأستاذ من الطابق الرابع إلى الطابق الثاني ويرى الشباب يتعرقون، فيفرش أمامه الأخبار، ثم يتناول قلماً وورقة. ويكتب العنوان، ويلف (روبه) ويعود إلى الطابق الرابع، تاركاً خلفه تلك العناوين التي أثارت قلق غسان تويني في (النهار); لقد بدأ يحسب (للأنوار) حساباً، ثمة صحافي حقيقي خلفها.
العام 1948 كتب سعيد فريحة جعبة 7 أيلول تحت عنوان (قصة الصياد). إليك هذا الدرس في الأسلوب الساخر:
(لهذه المجلة رسالة لا تقتصر على المساهمة في خدمة لبنان والعرب وقضية فلسطين، بل تتعدى ذلك إلى محاولة الترفيه عن القراء الكرام بما تقدمه من مقالات ومقترحات ورسوم ومحتويات جعبة، بعضها صحيح، وبعضها الآخر لا يخلو من الفلفل والقرنفل وسائر أنواع البهارات.
(وأنا لا ريب معذور في رش البهار والاستعانة بالخيال أحياناً على كتابة (الجعبة)، ما دام حضرات القراء يحبون أن يرفهوا عن أنفسهم على حساب صاحبها، لقد اضطررت في خمس سنوات أن أكشف عن كل حادث خاص ومغامرة شخصية في سبيل الترفيه عن قراء هذا الباب. بل فكرت مرة في أن أجرع السم أو أسقيه للأمير جميل شهاب مثلاً. وفكرت في أن أغرق وأقامر وأسرق صناديق العسيلي وألقي قنبلة على مجلس النواب وأعيش كما يعيش الأستاذ حبيب أبو شهلا. وكل ذلك من أجل إرضاء القراء والترفيه عنهم وعن أكبادهم من عناء الهم والغم وقراءة مقالات عباس محمود العقاد، ولقد فكرت وفكرت طويلاً في موضوع ينسجم مع عدد الترفيه الممتاز. ولما استشرت أسرة التحرير قال سهيل إدريس، اكتب قصة (الصياد) وكيف تحرر في بيروت وتطبع في القاهرة، بينما جنابك في صوفر. وأعجبني الاقتراح، بالرغم من أن اقتراحات الأخ سهيل قلما تعجب أحداً من أصحاب الصحف والمجلات. لا لشيء إلى الآن حضرته لا يكاد يطلع علينا باقتراح معقول أو بفكرة مقبولة حتى يمد يده ويطلب الثمن).
بعد حوالي نصف قرن أصدر الدكتور سهيل إدريس الجزء الأول من مذكراته، وفيه يثأر من اثنين، والده، الذي قال إنه كان يحضر صبياً أشقر إلى منزل العائلة ويغلق باب الردهة دونهما، وسعيد فريحة، الذي قال إنه كان معقداً من الذين يجيدون اللغات الأجنبية. لكن أسلوب سعيد فريحة في ذبح الزملاء والأصدقاء والمير جميل شهاب، لا يجارى.
وقف سعيد فريحة السياسي في وجه خصومه وفي وجه أصدقائه على السواء، ولا أعتقد أن أحداً تجرأ على أن ينظر إلى جمال عبد الناصر في عينيه ويطلب منه ما طلبه منه. كان عبد الناصر قد أرسل مصطفى أمين إلى السجن بتهمة التخابر مع الأميركيين، وعندما يذهب صديق لك إلى السجن بهذه التهمة تتبرأ منه; أما سعيد فريحة فكان يأخذ إلى مصطفى في السجن الورق والأقلام والبقلاوة والصعتر، وبعد مضي 3 سنوات على سجنه ذهب سعيد فريحة برفقة هيكل إلى عبد الناصر، وقال له (مصطفى أخطأ وأتمنى أن تعفو عنه)، ووعده عبد الناصر لكنه توفي قبل تحقيق الوعد، فذهب هذه المرة إلى أنور السادات، وبرفقته هيكل أيضاً، وقال له السادات بكل فجاجة; غير الموضوع! ولم يتوقف. وسوف يكتب مصطفى أمين فيما بعد، في ما يشبه المناجاة: (هذا هو سعيد فريحة صديق الشدة ورفيق المحنة، ما صادفت أزمة أو تعرضت لمتاعب حتى وجدت الأرض تنشق ويخرج منها سعيد فريحة; يتصدى للظلم الذي تعرضت له ولا يخاف غضب الظالمين. كان يطير من بيروت إلى القاهرة خصيصاً ليقابلني في السجن، وكان هذا اللقاء المتكرر يتم بعد جهود جبارة، وكان سعيد يهرب لي مقالاتي وقصصي التي كنت أنشرها بإمضاء الصحفي المصري (X)، وأذكر أن الرئيس عبد الناصر قال له إنه يقرأ هذه القصص لكنه لم يسأله عن كاتبها، وحدث أن سأله أمير الكويت عن كاتب القصص فقال إنه أكرم زعيتر الوزير الأردني والكاتب الكبير المعروف، وكانت الدولة قد حرمتني من الورق والقلم وسمحت لي أن أكتب لابنتي خطابين في الشهر شرط ألا يزيد حجم الكتاب عن نصف ورقة فولسكاب وبشرط أن أكتب الخطابات في غرفة ضابط عنبر السجن وتحت مراقبة). كان تقي الدين الصلح من أرقى رجالات الفكر والسياسة في لبنان، ومن أكثرهم ذكاء، ومن أكثرهم معرفة بأحوال العروبة وحال العرب، وعندما أراد الملك فاروق أخذ دروس في العروبة رأى في تقي الدين، الذي كان يقيم آنذاك في مصر، أعلم الأساتذة وأبلغهم وأكثرهم سماحاً.
عندما توفي سعيد فريحة العام 1978 لم يبق أحد إلا ورثاه، لكن تقي الدين الصلح قال عنه: (لم يفصل منذ انطلاقته الأولى بين نفسه ووطنه، فقد كان يصنع نفسه وهو يصنع حرية بلده، ويجعل من نفسه أديباً وهو يؤدب الطغاة، والنجوم الذين أطلقتهم صفوف النضال في بيروت ودمشق وحلب وحواضر العرب، كان بين ألمعهم هذا الشاب المشع على متن الجبل، ناقل مواهب أهله إلى أقصى البقاع، وحامل نفحاتهم وشمائلهم إلى كل مكان في أرض العرب).
(الشاب المشع) كان على نحو ما رفيقاً لآل الصلح بعد مقتل (الزعيم الخالد) الذي تجمع حوله عدد من الصحافيين الذين على استعداد لافتدائه، مثل سعيد وزهير عسيران، الذي سيصبح في ما بعد نقيباً للصحافة، وأصبح معشر الصبي اليتيم ملوك ورؤساء العرب وكبار شخصياته وفنانيه، وكان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز يطربون إلى جلسته بقدر ما يطرب إلى أصواتهم. وكان مستعداً لأن يقتل نفسه أو أن يقتل المير جميل شهاب، إذا خطر لأحد في حفل أم كلثوم أن يطوي ورقة أو أن يضع رجلاً على رجل. أحب الفن لدرجة أنه أسس أول وأهم مجلة فنية في لبنان (الشبكة)، كما أسس أول فرقة فولكلورية وسماها (الأنوار)، ولم يسند رئاسة تحرير (الشبكة) إلى صحافي خبير في الفن بل إلى خبير في الصحافة; ياسر هواري، الذي سيخرج من الدار ليؤسس (الأسبوع العربي)، وبعده جاء سليم نصار الذي لم يستطع الخروج من تكوينه السياسي طويلاً، فأسندت رئاسة التحرير إلى جورج إبراهيم الخوري الذي شهدت المجلة في عهده أهم نجاحاتها. كان سعيد فريحة أول من يخرج من شارع الصحافة، أي وسط بيروت، حيث كانت الصحف تطبع وتباع وتوزَّع: (النهار) و(الجريدة) و(الحياة) و(الأوريان) و(اللوسوار) و(الصفاء) و(لسان الحال) و(الشرق) و(بيروت المساء) وسواها، وكان الخروج من (فليت ستريت) إلى حقول الحازمية ومجاهلها العام 1954 مغامرة من المغامرات، لكن لم يكن ممكناً بناء دار بأربعمائة ألف ليرة إلا في الحازمية، بناها بقروض تحولت إلى مساعدات من الشيخ عبد الله الجابر ونجيب صالحة وإميل البستاني وعدد من القادرين الذين كانوا ينتظرون صباح الخميس لكي يقرأوا (الجعبة). وكان يفيهم ويكافئهم برواية حكاية القروض في (جعبته)، وقد بنى لهم ولكل من أحب صورة بهية أحبها الناس. ومسكين من غضب منه أو عليه; من المير جميل شهاب إلى خليل فريحة إلى حنا غصن، الصحافي الذي رسم له صورة النحس وطائر الغراب، وكان غصن يشكو من أن سعيد دمر حياته وجعل الناس تأباه وتتجنبه.
كانت (الجعبة) تبدو مثل مربعات سكاكر صُفَّت في دقائق، إلا أنها لم تكن كذلك، ففي سنواته الأخيرة فقد سعيد فريحة القدرة على الكتابة بيده بسبب مرض الارتجاف; ولذلك اضطر للاستعانة بمن توافر من المحررين، وإلى فترة كنت أحدهم. كان يملي (الجعبة) كأنه يملي خطاب القسم; يقول الجملة ثم يعيدها ثم يستعيدها ثم يقول لك: اقرأ! فينتشل الورقة من تحت يديك ويقول، فلنُعِد هذه ليست كتابة، هذه طق حنك! وغالباً ما كان، بعد نصف نهار من المحاولات، يرمي الأوراق في السلة القريبة ويقول، فلنحاول غداً، وكان إذا ما خطرت له جملة جميلة رقص بساعديه وهتف; (هيدي صحافة، هيدي جعبة).
جريدة الأنوار- 8/3/2008
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 11-15-2009, 04:08 PM بواسطة بسام الخوري.)
11-15-2009, 03:55 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
من جعبة "سعيد فريحة" !!! ... - بواسطة العلماني - 11-12-2009, 01:16 PM,
RE: من جعبة "سعيد فريحة" !!! ... - بواسطة بسام الخوري - 11-15-2009, 03:55 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  "هي دي مصر ياعبلة " طيف 8 3,074 03-06-2011, 09:37 PM
آخر رد: طيف
Star فريند الكتروني --- وكريسماس سعيد نيو فريند 6 1,728 12-20-2010, 02:23 AM
آخر رد: خالد
Star للعالم الاول فقط --- كريسماس سعيد فريند الكتروني 11 3,686 12-15-2010, 08:10 PM
آخر رد: خالد
  ماهو مضمون مفهوم " الحضارة"؟ طريف سردست 15 8,583 06-30-2009, 03:51 AM
آخر رد: tornado
  ومازالت مصر بالمقدمة : أوباما يختار "عالماً مصرياً بارزاً" ضمن مجلسه الاستشاري ابن نجد 63 16,131 05-13-2009, 08:21 PM
آخر رد: السلام الروحي

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS