" بروفيسور ديوي ! أنت فيلسوف الحرية ،و أنا جندي الحرية " دوايت أيزنهاور .
هل تنتكس العلمانية ؟.
( 2 من 2 )
هل ستتغلب العلمانية على أزمتها الراهنة و تعود إلى دورها الواعد في التاريخ الإنساني ، بالرغم من الإنحسارات الملغزة التي حدثت في العقدين الآخيريين خاصة في الولايات المتحدة ؟.
لو عدنا بالتاريخ ل 50 عام سابقة ، سنجد أن قادة السياسة و الثقافة في العالم الغربي بما في ذلك الولايات المتحدة كانوا متعاطفين مع الإتجاهات الهيومانية و الإتجاهات العلمية الطبيعية scientific naturalism ، و يتذكر الكاتب الأمريكي العلماني المخضرم (بول كيرتز) بوضوح أنه كان هناك احتفال كبير في الولايات المتحدة عام 1948 م ، إحتفاءا بذكري ميلاد الفيلسوف الأمريكي ( جون ديوي ) الثمانين ، و كان ديوي في ذلك الوقت هو الفيلسوف الهيوماني الأبرز في أمريكا . ضمن أحد تلك فعاليات الإحتفالات حضر رئيس جامعة كولومبيا في ذلك الوقت ورئيس الولايات المتحدة لاحقا ( دوايت أيزنهاور ) ، و خاطب أيزنهاور ديوي بقوله :" بروفيسور ديوي ! أنت فيلسوف الحرية ،و أنا جندي الحرية "، فهل يمكن لنا أن نتصور أن يكون جورج بوش هو الذي يقول هذا الخطاب ، بالطبع لن يمكننا أن نتخيل هذا الموقف أبدا .
في ذلك الحين كانت هناك الآمال العظمى معقودة على أمريكا و الشعب الأمريكي ، آمال البشرية في تجاوز مآسي الحرب العالمية الثانية ،و في الإنتقال من مرحلة الوطنية إلى المجتمع العالمي ، عالم جديد بدستور موحد و قضاء عادل للمجتمع البشري كله ، عالم مفعم بالثقة في العلم و قدرته على فهم الطبيعة و حل مشاكل الجنس البشري ، مجتمع علماني هيوماني فاضل .
خلال تلك الفترة الذهبية لم يكن هناك من يرغب أو يقبل أن يعرف بكونه ثيوقراطي أو معادي للهيومانية antihumanist ، كل الفلسفات التي كانت ذائعة الشهرة مثل الطبيعية و الفينومينولوجية و الوجودية و الوضعية المنطقية و الفلسفات التحليلية naturalism, phenomenology, existentialism, logical) positivism, and analytic philosophy) و كل المدارس الإجتماعية و النفسية و كل التصريحات التي يصدرها القادة السياسيون كانت هيومانية ، حتى بابا روما ( بول السادس )أعلن أن الكاثوليكية الرومانية هي مسيحية هيومانية !.
لم تكن العلمانية الهيومانية مجرد نغمة عالية بين المثقفين بل أيضا بين السياسيين ، بما في ذلك مرشحين للرئاسة ، فسياسيون بوزن هيوبرت همفري و والتر مونديل و إدوارد كيندي و روكفللر كانوا لا يخفون موقفهم الهيوماني ، فهل هذا يمكن مقارنته بالمناخ السائد حاليا في أمريكا ، حيث تتعالى الأصوات الخاشعة كي تصبح أمريكا أكثر تدينا و أقرب للرب .
هذه التغيرات الدرامية ليست وليدة لحظة ،و لكنها بدأت منذ السبعينات و لكن على حياء للتسارع بعد ذلك بشدة خاصة بعد حوادث 11 سبتمبر ، و مع إصدار قانون الوطنية PATRIOT Act ،و التركيز الهستيري على قضية الأمن الوطني “Homeland Security,”، تفقد أمريكا باستمرار مكانتها السامية كنموذج يحتذى لإحترام و تثمين الحقوق المدنية .
إن الولايات المتحدة ليست دولة عادية بل هي القطب العالمي الأوحد ،و منها تصدر 70% من البحوث العلمية الهامة ،و تمر 40% من التجارة الدولية ، بينما تعادل ميزانية دفاعها الميزانيات المناظرة للعالم بأسره تقريبا ، لهذا لابد أن نهتم بأزمة العلمانية الهيومانية في هذا البلد لأن نواتج هذه الأزمة يتم تصديره للعالم كله ، و لهذا علينا أن نسأل أنفسنا ماذا حدث للقيم العلمانية العليا في الولايات المتحدة ، لماذا تضعف المثالية الأمريكية المنحازة إلى الديمقراطية و حقوق الإنسان ، أين اختفت القيم الليبرالية و التكريس الذي أبدته أجيال أمريكية متاعقبة للهيومانية ،و لماذا تخسر أمريكا الروح العلمانية لدستورها الفريد الذي صاغه الآباء المؤسسين ؟ ، كل ذلك يندثر لصالح شوفينية عسكرية !.
هناك مجموعة من الأسباب يمكن أن يعزى إليها أزمة العلمانية المعاصرة في أمريكا و أيضا في العالم كله ، هذه الأسباب ليست بنفس الأهمية من مجتمع لآخر ،و لكنها كلها تضافرت لتصنع أزمة العلمانية في أمريكا و في العالم .
1- إن الإنهيار المدوي – شبه النهائي - للماركسية أدى إلى توجيه ضربة موجعة للفكر العلماني المعادي للفكر الديني في العالم ، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن علمانية القرن 19 و 20 استندت بشكل هام و كبير على الأدبيات الماركسية و تأثيرها بين المثقفين حتى من الإتجاهات الفلسفية الأخرى ، و النتيجة أننا نلاحظ إختفاء ولو مؤقت لكافة الحركات الكبيرة المعادية للدين أو للكهنوت ، بالطبع كان هناك نفوذ محدود للماركسية في أمريكا ،و لكن هذا النفوذ كان قويا في أورويا و طاغيا في آسيا و العالم النامي بشكل خاص ، بل يمكن أن نقول أن العالم الثالث لم يعرفا نموذجا متماسكا للعلمانية سوى خلال الفكر الماركسي .
2- نمو الأصوليات الدينية و إزدهارها في الحياة الأمريكية العامة ، و في أمريكا نمى ما يسمى بالأغلبية الأخلاقية Moral Majority بسرعة من السبعينات إلى الثمانينات ، و قد حدث هذا أساسا على حساب العلمانية الهيومانية ، فقد راح دعاة الحقوق الدينية يطالبون باطراد بإسقاط العلمانية الهيومانية التي زعموا – يحق - أنها تهيمن البلاد ، و إبدالها بما يطلقون عليه الشفقة المسيحية ، و لعل مما يدعوا للتامل أن رجلآ كان ينظر إليه كمبشر لا وزن له مثل Billy Graham يصبح مستشارا confidante لعدد من الرؤوساء الأمريكيين ، هذا البعث الديني الأمريكي لم يصب فقط في صالح الأصوليين البروتستانت و لكنه يصب أيضا لصالح المحافظين الكاثوليك و اليهود الأورثوذكس . مع إطلالة القرن 21 أصبحت الحياة العامة الأمريكية محكومة بشكل كبير بالرؤية الدينية الربوبية ، و هناك أصوات متعالية في الفضاء الأمريكي تدين علمانية القرن 20 الذي تراه قرنا مرتبكا ، و تتنبأ بأن القرن 21 سيكون قرن القيم الدينية و الروحية و ليس العلمانية .
3- نمو و انتشار فكر ما بعد الحداثة ،وهو فكر معادي للتنوير و تطور العلم و الهيومانية ، و كما ذكرت سابقا فهذا الفكر يثير شكوكا قوية ضد كل الأبنية الأساسية التي أفرزتها العلمانية مثل الموضوعية العلمية و القيم الهيومانية .
4- ما يمكن أن نطلق عليه روح الإنتصارية الأمريكية American triumphalism ،و هي الروح المنبعثة في النخب الحاكمة الأمريكية نتيجة ما أحرزته أمريكا من تفوق ساحق بسبب إنهيار الإتحاد السوفيتي عدوها التقليدي و تفردها بقيادة العالم ، و ما استتبع ذلك من قيادة أمريكا لتحالف رأسمالي يهيمن على سوق حرة كونية واحدة ، و هكذا أخذ يداعب أمريكا حلم بأن تصنع سلاما خاصا بها يحاكي السلام الروماني الذي شمل العالم القديم ، و ليدخل العالم عصرا جديدا من السلام الأمريكي Pax Americana ، بمثل هذا الحلم الخطير ولد نوع جديد من الإمبريالية ، كما تبلورت مفاهيم عدوانية تقوم على ضرورة هيمنة أمريكا على العالم ، و توفير القوة العسكرية الأمريكية القادرة على تأديب ( الدول المارقة “rogue states” ) التي تتحدى السيطرة الأمريكية ، و هذا الطرح الأيديولوجي الشوفيني المنغلق ، تجسد داخليا في تحالف مفتوح بين المحافظين الجدد و القوى الدينية المحافظة و الأصولية الأنجليكانية evangelical في الداخل ، و صاحب ذلك كله ظهور أجندة كارثية ذات خطاب عسكري لحشد الملايين من أتباع الأصولية الأنجليكانية ، في حرب منتظرة ضد العلمانيين و اعتبارهم العدو الأول للمجتمع ، حتى ظهر الجهاديون المسلمون ليتصدروا اللائحة و لينقلوا العلمانيين إلى المرتية الثانية .
5- ظهور حركات و أفكار معادية للعلم pseudoscience, and antiscience و مولعة بالغيبيات و الظواهر غير الطبيعية paranormal مثل الأطباق الطائرة UFO و الأرواح و الأشباح ، مثل هذه الأجواء كانت مغرية لأجهزة الإعلام كما أنها لم تلق المقاومة الضرورية سواء خلال حركات علمية مضادة أو خلال تشريع ، هذه الظاهرة أدت إلى بروز قوى لا عقلانية تخرب نظرتنا العلمية الطبيعية naturalistic للعالم ،و تنتشر بسرعة كأي خرافة .
6- الأصولية الإسلامية العنيفة و المسلحة ، و هذا ما خلق ظاهرة الإرهاب الإسلامي و تفجر صراع الحضارات خاصة ضد الولايات المتحدة ، كل هذا وضع الأمريكيين تحت إحساس بالغ بالخطر ، هذه الأصولية الجهادية ليست منفصلة عن حالة تأسلم أصولية معادية في جوهرها للعلم و العلمانية ، تنتشر بين المسلمين في العالم كله ، بما في ذلك 5 مليون مسلم في فرنسا و 2 مليون في كل من بريطانيا و المانيا بالإضافة للمسلمين في أمريكا و كندا .
هذه الأصولية الإسلامية ليست كل شيء ، ففي المقابل هناك حركات تبشيرية مسيحية قوية ترتكز على الولايات المتحدة و تنتشر في العالم كله ، و تهدف إلى أنه بحلول عام 2025 سيكون ثلثي المسيحيين يعيشون في إفريقيا و آسيا ،و ستحتوي الصين على عدد من المسيحيين أكثر من أي دولة اخرى باستثناء 6 دول فقط ، هذا يحدث بالرغم أن أوروبا كلها معلمنة و بها أقليات لا دينية قوية و متزايدة ،و لكن و في الوقت ذاته تتدفق البعثات التبشيرية من أمريكا لتجتاح العالم كله ، و يقوم كل من الإنجليكيين و البنتيكوستاليين Pentecostals and evangelicals ، بحمل رسالة الرب للعالم ، و يقومون بإقحامها و بقوة في السياسة و النظم الأخلاقية .
و النتيجة أننا الآن نواجه حربا مستعرة بين التبشير المسيحي و الدعوة الإسلامية على إمتداد العالم الثالث الذي عاش ل20 او 30 عام يجتر الأفكار الماركسية المعادية للدين و يرددها بلا ملل !.
...................................................................
الأخ special .
تحياتي و تقديري .
وجدت مداخلتك بينما أضع مداخلتي ،و سيكون لي رد منفصل عليها .