إن الأديان تتبنى مجموعة ضيقة من قواعد السلوك ، التي ليس لها علاقة بسعادة البشر.
...........................................................
الأخلاق العلمانية .
( 1 من 2 )
رغم كل المصاعب و الإنتكاسات التي أصابت العلمانية و تعرضنا لها في مداخلات سابقة ، تبقى هناك حقيقة أساسية ساطعة في عالم اليوم هي أن العلمانية تكسب أرضا جديدة باستمرار ، و هذا واضح بشكل خاص في أوروبا ، التي يمكننا أن نقول أنها تعيش عصر ما بعد الدين أو عصر ما بعد المسيحية ، أريج العلمانية الدافق يعبق أيضا أجواء آسيا خاصة الصين و الهند ، و باستثناء المسلمين فلا يوجد مكان انحسرت فيه العلمانية سوى الولايات المتحدة الأمريكية ، التي تعادل في دينيتها religiosity الدول النامية في العالم الثالث بأكثر مما تشبه دول الغرب الديمقراطية المتطورة ، و ذلك نتيجة لأسباب متعددة أبرزها ليل الأصولية الإفانجليكانية evangelical fundamentalism الطويل الذي جثم على صدر أمريكا ، هذه الأصولية التي لا تتوقف عن ترديد مقولتها الدعائية الفجة بأنه لا توجد أخلاق بعيدا عن الآلهة !، رغم كل الجهود المستميتة تلك التي بذلها الأصوليون الكنسيون فالعلمانية تعود بقوة من جديد إلى أمريكا ، وفي آخر إستطلاعات الرأي العام هناك 16% من الأمريكيين خارج أي جماعة دينية ، بينما 25% من الشباب لا دنيين ،و بالطبع لا يفوتنا الاعتراف الواضح باللادينيين في أمريكا على قدم المساواة مع المسيحيين و غيرهم ، كما جاء في خطاب تنصيب باراك اوباما .
هذا يقودنا إلى سؤال يتردد كثيرا في مواجهة العلمانيين ،و هو أنه طالما كان العلمانيون لا يهتدون أخلاقيا بتعاليم دين بعينه ، فما هي مصادر إلهامهم الأخلاقي ؟. حسنا .. العلماني في معناه الشامل قد لا يكون ملحدا و لكنه لا ديني ، بمعنى أنه لا يؤمن بالمرجعية المعرفية أو الأخلاقية لدين معين ، و لكن هذا لا ينفي أو حتى لا يقلل من حقيقة كونه مواطنا صالحا و والدا محبا لأسرته ، و إنسانا مهذبا حلو الشمائل ، و لكنه في ذلك كله يستلهم العلم و الفنون العلمانية و الآداب و ليس الدين . إن الأخلاقيات العلمانية تستمد جذورها من بدايات الحضارة الغربية اليونانية و الرومانية ، من عصور النهضة و التنوير ، من الثورات العلمية و الديموقراطية للعالم الحديث ، و تؤكد القيم العلمانية الهيومانية على مساواة البشر في الكرامة و على تثمين الحرية ، إن فضائل الديمقراطية هي بالأساس علمانية ، لأنها تؤكد على التسامح و على قبول مختلف المعتقدات و أنماط الحياة و الثقافافت المختلفة بل و المتناقضة .
في المقابل يعتقد العلمانيون أن الدين لم يكن أبدا وسيلة لأخلاق متماسكة وقويمة ، فأفظع الجرائم ارتكبت باسم الرب ، و كان رجال الدين دائما ضد القيم الأخلاقية التي طورت البشرية ، سنجد أنه كلما زاد يقين الناس و إيمانهم كلما كان الشر أكثر استحكاما ، ففي عصور الإيمان عندما كانت كل أوروبا مؤمنة بالمسيحية حرفيا ، ظهرت محاكم التفتيش بتعذيبها و إجرامها ، و أحرقت ملايين النساء المسكينات كساحرات !.إن المنظمات الدينية في العالم كانت دائما تعارض كل تطور لصالح البشرية ، و ترفض كل رقي في المشاعر و الأفكار ، و تقاوم كل إصلاح في القانون الجنائي ، و كل تقدم في حقوق الإنسان و المساواة بين البشر ، و تؤثم كل محاولات إيقاف و حصر الحروب ، وكل تقدم في حقوق المرأة و الأقليات و التسامح الديني .. كل المؤسسات الدينية كانت غالبا ضد رقي و تطور الإنسان .
إن الأديان تتبنى مجموعة ضيقة من قواعد السلوك ، التي ليس لها علاقة بسعادة البشر ، إن هدف الأخلاق الدينية ليس أن تجعل البشر سعداء ، بل تجعلهم خائفين و مطيعين لقادة الأديان .
إن الخوف هو أيضا الأب الشرعي للقسوة و العنف ، و نظرا لأن الخوف هو أساس الدين و أيضا منبع القسوة ، فالدين و القسوة توأمان و يسيران يدا بيد في هذا العالم . إن أسوأ ما في الأديان هو موقفها المؤثم للجنس ،و بينما تتبجح الأديان بأنها كرمت المرأة فهي التي أهانتها تاريخيا ، كيف تفعل هذا و أباء الكنيسة يرون المرأة مصدرا دائما للفتنة و المعصية ،وتؤمن المسيحية بضرورة حصار المتعة الجنسية في حدها الأدنى ، و يرون أن العذرية هي الحد الأمثل ، و إن لم يمكن فالزواج الأبدي ،و يقول القديس بول بوحشية :" الزواج أفضل من الحرق " .إن الأخلاق المسيحية مرتبطة بفكرة الخطيئة الأولى و التكفير ،وهي تسبب ضررا بالغا لأنها تنفس بشكل يبدوا أخلاقيا عن السادية .
يثير البعض تساؤلآ حول كيف يكون الإنسان أخلاقيا ولا يؤمن بإله ؟.و لكن هذا السؤال يتجاهل أن الفلاسفة نادوا بأن يكون الإنسان معتدلآ و كريما و متوازن و .. أي أن يكون أخلاقيا ،و ذلك قبل أن تظهر الأخلاق الدينية بزمن طويل .
علينا أن نعترف أن الإنسان يهتم بذاته و مصالحه الخاصة بشكل غريزي ، و لكن يمكننا أن نجعله مستنيرا خلال التعليم و التربية و الإرشاد الأخلاقي، بحيث أن يهتم أيضا بالآخرين و أن يحرز ملكة إدراك الصواب و الخطأ ، بالطبع ستكون هناك خلافات أحيانا في تعريف الصواب و الخطأ ، و سيكون من المستحيل أحيانا أن نوفر إجماعا حول الكثير من القضايا الأخلاقية ، و هنا سيكون ضروريا أن نتفاوض و نساوم للوصول إلى قوانين عادلة و موحدة لمجتمع تعددي حر .
هناك شواهد قوية مستمدة من علوم التطور البيولوجي على وجود موروث أخلاقي في الجنس البشري ، هذا الموروث له ارتباط وثيق بقانون الإنتخاب الطبيعي ، فالقبائل و الجماعات التي تعاونت بشكل جماعي قدر لها البقاء بينما فنيت الجماعات الأخرى ، هذا لا يعني أن وجود هذا الحس الأخلاقي بنفس القوة و النوعية بين جميع البشر ،و لكنه يتأثر بالعوامل الإجتماعية و البيئية ،و بالتالي فهناك أفراد لا يتطورون أخلاقيا مطلقا ،بينما هناك أفراد معاقون بل و مشوهون أخلاقيا ، و لهذا يحتاج المجتمع إلى القانون لحماية نفسه .
بالرغم من أن العلمانيون ( الهيومانيون ) يسلمون بوجود نسبية ثقافية ، إلا أنهم يرون أنه توجد هناك أيضا مجموعة من القيم الأخلاقية المشتركة بين الثقافات المختلفة ، مثل الأمانة و الرحمة و الصدق و الحفاظ على الوعود و تفادي القسوة و المسؤولية ... الخ ، و بمرور الوقت تصبح تلك القيم بمثابة رابطة بين الجميع ، و هكذا تنشأ روح الأخوة و التعاطف البشري ، هذا الشعور يتم تلقينه للصغار بواسطة التعليم ثم ينمو تدريجيا خلال الثقافة المجتمعية ، و هكذا تنشأ الأنظمة الأخلاقية المتحضرة ،و يدرك كل إنسان أنه يمكن أن يخدم أغراضه الخاصة و الأهداف العامة في نفس الوقت ،و يتعلم أيضا كيف يفعل هذا في ضوء الإرشادات التي تعدها أفضل العقول البشرية و أرقاها .
إن العلمانيين يقيمون المبادئ الأخلاقية ليس تبعا لقوة عرضها أو مصدرها ،و لكن و فقا لمستتبعاتها consequences ، و هم يقيمون أحكامهم العقلانية العادلة على الأخلاق ، موظفين في ذلك آلية النقد العقلاني rational inquiry ، و العلمانية تصدر في معاييرها الأخلاقية مستقلة تماما عن تعاليم الأديان ، والعلمانيون في نفس الوقت أيضا يقدرون أن هناك مبادئ لا يمكن التضحية بها من أجل أي غاية مهما عظمت .
إن ربط الأخلاق بطاعة الآلهة خوفا منها أو حبا فيها هو خطأ ، لأنه سيجعل الأخلاق الطيبة محصورة في جماعة دينية أو عرقية دون غيرها ، أي بين المؤمنين بإله محدد ، و لكن المبادئ الأخلاقية القويمة يجب ألا تكون نسبية و مجزئة ، بل يجب أن تكون متجذرة في داخل الإنسان و في صميم تكوينه و تشمل الجميع .
هناك عامل رئيسي تقوم عليها الأخلاق العلمانية و يميزها هو الإحساس بالمسؤولية الكونية ، وهذا يحتم ظهور نظام أخلاقي كوني واحد يتجاوز كل عداوات الماضي الدينية و العرقية و الجنسية و القومية ، هذه الأخلاق يجب أن تلبي الإحتياجات و الإهتمامات التي تفرضها رؤيتنا لعالم واحد متداخل ، أي أخلاقيات تلائم القرن 21 و مابعده من قرون .