مصر، بالطبع، صاحبة فضل على جميع البلاد العربية، وذلك بالرغم مما قاله "ابراهيم عيسى". ذلك لأن "ابراهيم عيسى" نسي الأمر الأهم وهو يوجه سهام نقده لبلده. فهو نسي "الوعي الجمعي العربي" الذي تشكل على أيدي أبناء الأمة العربية جميعاً من المحيط الذي كان يهدر إلى الخليج الذي كان يثور.

"الوعي الجمعي العربي" هذا هو "جماع ما استقر في ذهن العربي المعاصر من ثقافة"، هذه الثقافة التي هي نتاج الأدمغة النابهة في عالمنا العربي في القرنين الأخيرين، كان المصريون في أساسها وطناً وأفرادا. كيف؟
منذ استقرار حكم "محمد علي" شكلت مصر "ملجأ وحضانة للطاقات الثقافية المتنوعة" التي نمت وترعرعت فيها من ناحية، والتي قدمت إليها من الدول العربية المختلفة من ناحية أخرى. "فالشوام" الذين أتوا إلى مصر وتعاونوا مع إخوانهم المصريين فيها كي يرسوا دعائم ثقافة ممتازة في ذلك الوقت، لمصر فضل عليهم، هو فضل الحضانة والملجأ و"منصة الإقلاع". من ناحية أخرى، فالأدمغة المصرية ساهمت في تأسيس الثقافة العربية في "عصر النهضة" بل كانت من دعائمها العظيمة على جميع الأصعدة. فمصر المحروسة، أرض الكنانة، ليست وجه "ابن ست البرين" الذي قال فيه "المتنبي" يوماً ما قال، ولكنها أيضاً "محمد عبده" و"قاسم أمين" والبارودي" و"شوقي" و"حافظ ابراهيم". هي مصر "طه حسين" و"العقاد" و"أبو شادي" و"المازني" و"ابراهيم ناجي"، وهي مصر "علي عبدالرازق" و"نجيب محفوظ" و"يوسف إدريس" و"إحسان عبدالقدوس"، وهي مصر "اسماعيل أدهم" و"سلامة موسى" و"لويس عوض"، وهي مصر "سيد درويش" و"محمد عبدالوهاب" و"أم كلثوم" و"عبدالحليم حافظ"، كما أنها - وللأسف في هذه الحالة - هي مصر "رشيد رضا" و"حسن البنا الساعاتي" و"سيد قطب".

"فضل مصر" هو فضل عطاءات هؤلاء الأساتذة جميعاً وغيرهم الكثير بعد وانجازاتهم وتأثيراتهم على عقلنا ووعينا ومعارفنا بين المحيط والخليج. فإن كان "ابراهيم عيسى" يريد أن يصادر "فضل مصر" من خلال مقال يرى ما يراه "الجمل الأعور" فقط، فإن عليه أن يصادر إنتاج هؤلاء الفطاحل جميعاً، وليخبرنا بعد ذلك ما الذي يبقى من "ثقافتنا وعقلنا الجمعي" في القرون الأخيرة.

واسلموا لي
العلماني