(12-09-2009, 01:49 PM)أبو خليل كتب: عزيزي العلماني, اتفق معك في معظم ما ذهبت اليه, الا انه لي بعض الملاحظات...
برأيي ان الانتاجات العلمية و الابداعات الفكرية و الانجازات الحضارية هي بشكل عام ملك للبشرية و الحضارة الانسانية جمعاء , لا يمكن لبلد ما ان يدعي الفضل على سائر البشرية بها,
ما قيمة ان انسانا ما ولد في بقعة جغرافية معينة فكان ما اخترعه فضل لتك البقعة على سائر العالم؟
الى من تعزو انجازات ألبرت آينشتاين مثلا؟ الى البلد الذي ولد فيه,ام تربى فيه, ام درس فيه, ام عمل فيه ام هاجر اليه؟ ام الى العرق الذي انتمى اليه؟ ام الى الدين الذي تحدر منه؟ ام المعتقد الذي كان يعتنقه وقت انجازاته (ممكن مثلا ان يتغير من سنة لاخرى) ايمكن عزو ذلك مثلا الى لون بشرته؟ ام الى كونه ذكرا؟
نابليون بونابارت ولد في جزيرة كورسيكا في آخر عام قبل ان تستقل عن فرنسا , و لو اختار والد نابليون ان يتأخر في نكاح زوجته بضعة اشهر, لكان نابليون ربما مجرد صياد سمك على شواطئ كورسيكا المتوسطية...
العلماء و الادباء و المفكرين الذين اشرت اليهم , معظمهم ولد في مكان و عاش في مكان و نتاجه الادبي توزع بين عدة بلدان... الى ايها يعود الفضل؟
هل تعود ابداعات طه حسين لفضل مصر عليه ام فترة عيشه في فرنسا؟ هل للازهر ايضا فضل؟ ام لكونه اعمى؟ ام لانه ذكي.... لو ولد طه حسين في فرنسا او انكلترا, الم يكن ليكون اهم ابداعا و ابتكارا و تقديرا و شهرة و عالمية؟ الن يكون بلده الحقيقي مصر (و الحالة هذه) عاملا مثبطا؟
ثم هناك مسألة الفرد المبدع مفسه, مالذي دفعه لكي يبدع؟ الرفع اسم بلده عاليا؟ ام مجرد لدوافع شخصية و حياتية و معيشية مادية بحتة؟
برأيي لغة (الفضل) و (المشاعل) و (المنارات) و (العطاءات) بين الدول تنتمي الى عصر القوميات البائد و يجب ان نبتعد عنها باسثناء مدارس الصفوف الابتدائية لتنمية حب الاوطان لدى الاطفال...
يا عيني عليك يا أبو خليل، فلقد فتحت الموضوع لحوار عميق أرجو أن يكون مثمراً !!!
شوف يا سندي .... أعتقد بأن للمكان أثراً كبيراً في تكوين الشخص، نابغة كان أم من المغمورين!! بل لعلي أرجع العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية إلى عناصر أربعة أساسية: الشخص نفسه، المجتمع، المكان والزمان. ولعل أي تغير في هذه العناصر ينتج لدينا، عند المثقفين المنتجين، اختلافاً في انتاجهم إن على صعيد الكمية أم الجودة.
هنا لن أتوقف عند جميع هذه العناصر، ولكني سوف آخذ، في هذه العجالة، عنصر "المكان" فقط وأحاول أن أستشرف مدى تأثيره في صنع "العظيم" عامة أو "النابغة" على وجه الخصوص. ونحن لو أخذنا مثاليك اللذين أتيت بهما؛ أعني "نابليون بونابرت" و"طه حسين"، فلسوف نجد ارتباطهما بهذه العناصر الأربعة التي تحدثت عنها أعلاه متيناً جداً (الشخص، مجتمعه، مكانه، وزمانه)، ولو أخذنا "تأثير المكان" فقط لقلنا أن ارتباط نابليون بفرنسا – تلك الفترة – وثيق جداً، بل لعله شرط لا يمكن القفز عنه في استعراض تاريخ نابليون. فهذا الكورسيكي الطموح الصغير، وجد نفسه – بين ليلة وضحاها – فوق عرش أكبر دولة في أوروبا في ذلك الوقت؛ دولة لديها امكانيات اقتصادية وبشرية كبيرة جداً بمقاييس الدول في ذلك العصر. وفي نفس الوقت وجد نفسه في دولة أحدثت نقلة نوعية في المفاهيم السياسية وأنظمة الحكم وهي تهدم "النظام القديم" تحت أنقاض سجن "الباستيل". هنا، ماذا فعل نابليون باختصار؟
استغل هيبة فرنسا، وموارد فرنسا، وثورة فرنسا على وجه الخصوص، وصنع مجده الشخصي تحت الانجاز الفرنسي الذي تم التعبير عنه سنة 1789 بالشعار المشهور: حرية، إخاء، مساواة. هنا، بأمانة، لا نستطيع أن نرى نابليون إلا تحت الإنجازات الفرنسية السابقة له، ولو لم يكن مكانه "فرنسا" لتغير تاريخه وتغير تاريخ القارة الأوروبية بأجمعه.
لنفترض الآن أن الثورة الفرنسية لم تحدث مطلقاً، أو أن نابليون كان جندياً في إحدى الدول الأفريقية وقتها، فهل كان سوف يحدث ما أحدثه؟ لا أعتقد.
لننتقل الآن إلى عميدنا "طه حسين". ولنتساءل: أليس "طه حسين" هو انتاج "للحراك الثقافي المصري في عصر النهضة"؟ أليس "الدكتور العميد" تجسيداً لهذه النار الثقافية التي اشتعلت في "المحروسة" في بداية القرن العشرين؟ ألا يعبّر طه حسين عن بلده "مصر" في حقبة من حقبها؟
تصور معي مثلاً لو كان "طه حسين" قد ولد في جزيرة العرب وقتها، وانبئني بالإمكانيات التي يستطيع تحقيقها ضرير مثله في مجتمع قبلي وهابي متزمت؟
أعتقد بأن "المكان" لعب دوراً كبيراً في حياة "طه حسين"، فالنقلة النوعية الخطيرة في حياة "الفتى" (كما يلقب نفسه في "الأيام") هي تعرفه على "الجامعة" عندما كان في سنيه الأخيرة في الأزهر. "فالجامعة" هي التي فتحت عيون "طه حسين" ودفعته إلى فرنسا، والجامعة هي التي تركته ينظر شزراً إلى الأزهر، والجامعة هي التي عبثت برأسه وجعلته يقدم على الانتقاد. و"مصر أوائل القرن العشرين" هي التي فتحت الباب له للعمل في "صحافة متعددة".
هنا لنتذكر: ما كانت الجامعة المصرية لتقوم لولا جهود الدولة المصرية (منذ محمد علي) خلفها في البداية، ولولا جهود المصريين عموماً منذ الثورة العرابية ودخولهم في "فترة غليان ثقافي" خطير منذ أيام "الخديوي اسماعيل". لذلك فليس غريباً، عندما نريد تحية "طه حسين"، أن نحيي معه مصر، فنعيد التذكير بالأصل الذي خرج منه الفرع.
لا شك بأن "فرنسا" وآدابها وثقافاتها المختلفة لعبت دوراً خطيراً في فكر "طه حسين" وفي حياته بعدها، ولا شك بأن تكوين "الفتى" واستعداده الفطري وعناده وعقله وخياراته كان لها تأثيراً حاسماً على اسمه وشهرته وذيوع صيته. ومع هذا فإن لمصر، بإمكانياتها الثقافية في ذلك الوقت، دوراً حاسماً خطيراً في تنشئة "طه حسين" وإتاحة الفرصة له للوصول إلى حيث وصل.
لنأخذ الآن مثال "الشوام" الذين هاجروا إلى "مصر" وكانت لهم "مصر" حاضنة من نوع فريد. ففي أحضان "المحروسة" استطاعوا أن يحلقوا بجوانح لا تعرف الكلل، فمنهم من أسس الصحف (بشارة وسليم تقلا) ومنهم من أسس دور النشر (دار المعارف) ومنهم، مثل "جرجي زيدان"، من ذهب بعيداً في جميع هذا فأسس داراً عظيمة للثقافة (دار الهلال) رفدها صباح مساء بعصارة قلمه. بل راح بين هذا وذاك، مدفوعاً بجو عالمه إلى وضع الكتب الأولى المنهجية في التاريخ العام والتاريخ الأدبي العربي الإسلامي. فهل علينا من حرج لو شكرنا "لبنان" على هؤلاء الأبناء النجباء، ولو شكرنا "مصر" التي كفلتهم وفتحت لهم آفاق المجد كي يحلقوا بجوانح مصرية عربية؟
هل تظن يا "أبا خليل" بأن "جبران" من شأنه أن يكتب ما يكتب بأسلوبه الذي يعتمد الصورة والأطياف والأخيلة لو لم يولد في "بشري" ولم يشرب من "وادي قاديشا"؟ هل تظنه مثلاً بأنه سوف يأتي بما أتى به لو كانت "كاملة رحمة" (أمه) من سكان "نجد" أو "الصحراء الكبرى"؟
خذ مثالاً أكثر التصاقاً "بالمكان" من جميع ما تقدم. إنه مثال "نجيب محفوظ"، الأب الأكبر للرواية العربية. فهذا الرجل العظيم قد تضيع كل كتاباته لو قمت بحذف "القاهرة" منها. هل تعتقد بأن "نجيب محفوظ" كان يستطيع أن يكتب "اللص والكلاب" و"زقاق المدق" و"خان الخليلي" بل والثلاثية جميعها دون أحياء القاهرة وحياتها في النصف الأول من القرن العشرين؟ هل كان يستطيع أن يباشر رائعته "ملحمة الحرافيش" لو لم يعش أجواء "الفتوات"؟ وهل "الفتوات" إلا وجهاً من وجوه القاهرة في ذلك الوقت؟
طبعاً، نستطيع أن نقول أن "نجيب محفوظ" كان سوف يبدع في مكان آخر، ولكنه لن يكون "نجيب محفوظ" الذي نعرفه لو لم يعش وينمو ويكبر في "مصر". فهل علينا أن نلوم أنفسنا لو شكرنا "مصر" على مساهمتها في وضع انتاج "نجيب محفوظ" الأدبي في إطاره الحالي؟
عندما كتب "نجيب محفوظ" "ميرامار"، فإنه أخذ الإسم من "مقهى" على طريق الإسكندرية. واستوحى أحوال "الفندق" في الرواية من "فندق" صغير لسيدة ألمانية على شاطيء البحر. بل انك مع الصفحة الأولى لميرامار تجد نفسك في "شتاء سكندراني دافيء" وجو ما كان للكاتب أن ينسجه كما هو إلا من خلال ما قدمته "مصر" له.
لن ننته يا "أبو خليل" لو استطردنا عن علاقة وتأثير المكان على الانتاج الثقافي، فالإنسان كما أسلفنا إن هو إلا صنيعة "المكان والزمان والمجتمع والذات". ولكن لعلك، لو تأملت في "العتابا" و"الدلعونا" و"الأغنية الجبلية اللبنانية"، تجد ما أعنيه من تأثير "المكان" على الابداع الفني والثقافي. فـ"وديع الصافي" مثلاً هو "غابت الشمس وبردت النسمات"، وصوت "الصافي" و"زجل أسعد السبعلي" هذا وجميع ما جاء في "غابت الشمس" ليس إلا "لبنان" منظوماً ومغنّى.
هذا باختصار ...
واسلم لي
العلماني