الوجه الآخــر .. لكل عملة وجهـان . وللبطولة أيضا وجه آخر .
الشيطان بطلا
أكد الجورجيون بحماس أنه جورجي ، و أما الروس فاعتبروه فخرا لروسيا كلها ، في حين أصر الصينيون أنه بطل أممي وطنه الوحيد هي طبقة البروليتاريا ، ثم عكف الجميع على إقامه تماثيله في كل الميادين ، كل هذا عندما كان البطل و الزعيم حيا و منتصرا ، أما عندما مات الزعيم ، فقد وصفه الصينيون بأنه روسي، في حين أنكره الروس لأنه جورجي ، أما الجورجيون فقالوا أنه شيطان أممي لا وطن له ، وراح الجميع يحطمون تماثيله التي أقاموها له من قبل بنفس الحماس الثوري ، إنه البطل الشيطان (جوزيف ستالين).
في الفترة من 1929 حتى وفاته في 5 مارس 1953 عن 74 عاما ، تربع ستالين على قمة الاتحاد السوفيتي السابق ، مرتكبا من الجرائم ما يجعل الشيطان ذاته يبدوا وديعا طيب القلب ، فخلال ربع قرن أعدم الملايين من شعبه ، بما في ذلك ثلاث أرباع قيادات الدولة . لم يقبل ستالين بما دون الطاعة المطلقة ، وحصل عليها من الجميع.!.
إن هذا الرجل الذي خضع له الروس كما لم يفعلوا لأحد قط ، لم يكن روسيا ولا حتى سلافيا ، بل أتى من أحد الأقاليــم البعيدة (جورجيا) ، وظل حتى نهاية حياته يتحدث الروسية بلكنة غريبة واضحة ، بينما أصبحت كلماته كتابا مقدسا ، يجب ترديدها بخشوع عقائدي لمن أراد الاستمرار في هذه الحياة الفانية ، كان من الممكن أن يظل ستالين مجرد ديكتاتور دموي لا يحفل به التاريخ ، و لكن الأقدار كانت تدخر له دورا آخر ، وإن لم يكن أقل دموية .. إنه البطل الفولاذي الذي تصدى لهتلر ، وحطم آلته الحربية الجبارة ، والمنتصر الأكبر في أشد حروب التاريخ ضراوة ، الحرب العالمية الثانية .
عندما بدأ هتلر عملية (بارباروسا) في 22 يونيو 1941 اندفعت 121 فرقة ألمانية ، على مواجهة 3200 كيلومتر ، في ضربة صاعقة على الاتحاد السوفيتي ، وخلال 18 يوما تقدمت القوات الألمانية إلى عمق 640 كيلومتر . في عام ونصف اكتسحت هذه القوات كل أوربا. و لم يتبق أمامها سوى هذا البلد المتخلف (الاتحاد السوفيتي) لكي تنهى الحرب بشروطها الخاصة . عندما وصلت الأنباء إلى ستالين في الكرملين ، كان هناك 5.5 مليون ألماني يطاردون 4.5 مليون روسي ، في أعنف صراع وحشي شهده الجنس البشرى في تاريخه الدموي الطويل ، لم يكن هناك أقل من معجزة لإنقاذ الاتحاد السوفيتي من التحول إلى مزرعة خاصة للجنس الآري المتفوق ، كانت الجبهة تتهايل في كل القطاعات ،الاحتياطات تتبخر دون أن تحقق شيئا ، القواعد الخلفية تسحقها الدبابات ،والقادة يذهبون في مهانة إلى معسكرات الأسر . أما ستالين فلم يعلق بشيء ..لقد انهار ، واختفى عن الأنظار لعدة أيام ، ولكنه يعود من جديد ليدير الحرب بحزم ومقدرة خارقة ، ويظل ممسكا بزمام الجواد الجامح حتى النهاية الظافرة!!.
ليس هناك إنسان له قلب يمكن أن يحب هذا الرجل ، ولكن أيضا لا يوجد إنسان له عقل لا يدرك أن المعجزة آلتي أنقذت روسيا ودمرت هتلر كانت ستالين نفسه . لقد أظهر هذا الدكتاتور الذي لم ينل أي قدر من التعليم العسكري النظامي أنه يمتلك عقلية استراتيجية فذة، وإمكانيات تنظيمية باهرة ، وقدرات تحليلية لا نظير لها! . لقد أدان السوفيت ستالين عقب موته بسنوات قليلة و حرقوا جثمانه ، ورغم ذلك فقد أجمع كل المارشالات السوفيت ، أنه لم يكن ممكنا أن تكسب الحرب لولاه ! . . لقد تميز ستالين عن جميع الزعماء الآخرين أنه كان يدير الحرب يوما بيوم بالمعنى الحرفي ، وأنه دون جميع زعماء الحرب العالمية الثانية كان يمتلك عبقرية عسكرية حقيقية .
كان ستالين يعمل خلال الحرب بشكل شديد الغرابة ، إنه لا ينام خلال الليل قط ، ولا يذهب إلى مخدعه سوى في الصباح ، ليعود إلى مكتبه مرة أخرى عقب الظهيرة ويبدأ 18 ساعة أخرى من العمل . كان موقف العمليات يعرض عليه مرتين يوميا على خرائط كبيرة الحجم بواسطة هيئة الأركان العامة ، بينما يتحرك حولها ببطء حاملا في يده غليونه الخالي من التبغ ! . كان قادرا على معرفة الموقف بنظرة سريعة وبدقة ، هذا الموقف كان يعنى ببساطة معاركا تمتد لآلاف الكيلومترات ، يتقاتل خلالها ما يزيد عن 10 مليون جندي !.. لقد امتلك ستالين القدرات التي ميزت جميع القادة العظام ..العقل النشط المدرب ، التفكير المنهجي الموضوعي ، النظر إلى الحقيقة في عينها مباشرة بلا أوهام ، النفاذ إلى جوهر الصراع ، ثم أخيرا الحدس الغامض لإدراك أين توجد المعارك الحاسمة و ما هي احتمالاتها المستقبلية ؟
كان ستالين يبدأ اجتماعاته بتحية مقتضبة للجميع ثم يدخل مباشرة إلى جوهر الموضوع ، لم يكن يطيق العبارات المبهمة أو شديدة العمومية ، كان يطلب الحقائق المجردة بلا مبالغة ، وهو في كل الأحيان يطلب رأى الآخرين قبل إعلان قراره ، وعلى عكس الشائع عنه كان يقبل الرأي المخالف ، لقد حدث مرات عديدة أن اختلف مع قادته إلى درجة الحدة ، ولكنه لم يلق بهم إلى الجحيم ! . حدث هذا مع زوكوف بشأن الانسحاب من كييف ، مما أدى إلى استقالة زوكوف من رئاسة الأركان العامة ، ولكن ستالين وضعه بعد ذلك على رأس القوات السوفيتية في جميع المعارك الحاسمة ..موسكو ، ستالينجراد ، برلين ، لأنه رغم خلافهما كان يراه أكفأ مار شالات الحرب العالمية على الإطلاق .
لم يكن ستالين بالذي تأسره أفكار الماضي ، ولكنه كان متجدد الفكر بشكل مبهر . لم يكن مجرد واجهة لتمرير أفكار الأخريين ، ولكنه أسهم بشكل شديد الفاعلية والتأثير في صياغة استراتيجية الحرب ، وإدارة المعارك الكبرى حتى النصر . أدرك ستالين أهمية العلم العسكري المتطور في الحرب الحديثة ، ولهذا دفع إلى المقدمة مجموعة من القادة الأصغر سنا ، والأكثر علما وكفاءة ، وبهذا قدم للعالم أفضل مجموعة من القادة الكبار شهدتها الحرب أمثال ( زوكوف ، فاسيليفسكى ، روكوسوفسكى ، كونييف ، مالينوفسكى ، فاتوتين ، يريمينكو ، و.......).
في نهاية 1941 أصبح الألمان على أبواب موسكو ، بينما كان ستالين لا يجد مكانا آمنا لقيادته سوى إحدى محطات مترو الأنفاق ، أما الوزارات وأجهزة الدولة فقد تم إخلائها بعيدا . لقد وعد ستالين شعبه أن العيد سيأتي إلى شوارعهم أيضا ، ولكن يبدوا أن هذا العيد سيكون ألمانيا ، فقد شرع هتلر في إعداد بطاقات الدعوة للاحتفال القادم في موسكو بمناسبة النصر الألماني . ولكن العم (جو) كان في جعبته بعض المفاجآت ، ففي اللحظات الأخيرة ، دفع زوكوف على رأس مجموعة جيوش لم يشعر بها الألمان مطلقا إلا عندما بدأت تعصف بهم في هجوم مضاد صاعق دفع بهم بعيدا ، بعد ذلك لم ير الألمان موسكو إلا كأسرى حرب !.
لم تكن معركة موسكو نهاية الحرب ولكنها أول هزيمة يمنى بها الجيش الألماني الذي لا يقهر ، لقد تكررت معركة موسكو بعد ذلك في ستالينجراد ، و ليننجراد ، و كورسك حتى أصبحت علامة مميزة لإستراتيجية ستالين ..(دفاع صلب إلى آخر مدافع روسي ثم هجوم مضاد صاعق حتى آخر مهاجم ألماني ) !!
في بداية الحرب تم أسر( فاسيلى) ابن ستالين ، وحاول الألمان استغلال هذا الموقف للتأثير عليه ، بتمرير المعلومات عن تعذيب ابنه ، ولكنه لم يثر هذا الموضوع مع أحد قط ، وعندما حاول الألمان مبادلة ابنه بأحد الجنرالات الأسرى أجاب بأسلوبه المقتضب الشهير: (إننا لا نبادل الجنرالات بالجنود) . لم يقدر لهذا الابن أن يعود من الأسر، وعندما علم ستالين بإعدامه فإنه لم يتوقف عن عمله اليومي المعتاد . ففي الحروب لا وقت للدموع!.
عندما بدأ جوزيف ستالين يمارس عمله بصفته القائد العام الأعلى للقوات المسلحة ، كان الألمان على مشارف موسكو ، وعقب أربع سنوات دخل الجيش السوفيتي برلين ، خلال هذه السنوات ، كان الجميع يعلمون أنه يوجد في الكريملين رجل فولاذي لا ينكسر ، وأن هذا الرجل قادر على إحراز النصر ، لأنه كان قادرا على تحمل الهزيمة !!.
لقد أدان التاريخ ستالين ، أما إمبراطوريته التي صنعها بعبقريته العسكرية ، فقد أضاعها خلفاؤه بالقهر والجمود . كل ذلك لا يعنينا .. الشيء الوحيد الذي نهتم به هنا هو الجانب العسكري لهذا الرجل ، وفى هذا المجال لم يكن ستالين أقل من بطل كبير ، ربما كان ستالين من أكثر القادة شرا ولكنه بالقطع ليس أقلهم بطولة ، ثم علينا أن نتذكر أن التاريخ العسكري هو بشكل ما تاريخ للأشرار ، فالقديسون لا يحاربون. وهكذا نجد أنه حتى الشيطان لا يخلو من فائدة ، إنه على الأقل قادر على مواجهة الشياطين الآخرين ! .
منقول من مشاركة لـ بهجت