شباب اليورو في مواجهة شيخوخة الدولار وعجزه
خالص جلبي
ما زلت أتذكر جنون الذهب عام 1980 حينما قفز سعر الأونصة فوق 800 دولار. كما لا أنسى مذبحة العملات بسيف الدولار حينما تردى المارك إلى 107 هللات من الريال السعودي عام 1984م. ولكن كما قال الاقتصادي الكابلي في مقالة له يومها ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع. فقد خر الدولار على أنفه ونزل من قيمة 3.6 للمارك إلى 1.3 بعد عشر سنوات؟. وجاء الدور الآن على تحطيم الدولار مرة أخرى بعد أن سلخ المارك الألماني جلده فارتدى ثوبا أبهى من اليورو. فمع نهاية نوفمبر 2003م تجاوز اليورو حاجز 1.2 من الدولار بعد أن كان عام 2000م في الحضيض بقيمة 86% من قيمة الدولار. وحسب تحليل (جيم أو نايل) من بنك جولدمان ساكس الاستثماري فقد يعادل اليورو 1.3 من الدولار بل قد يصل إلى 1.4 في المدى المتوسط.
مع هذا فليس كل ما يقوله الاقتصاديون يقينا. فهم مثل عرافات دلفي في كل واد يهيمون. وأن أفضل المتنبئين هو أكبر الكذابين. وأن ما يحكم السوق ليس القوانين الموضوعية بل أهواء الناس وجنون المضاربات والميل للربح السريع على الطريقة الأمريكية.
ورحلة تعثر الدولار قديمة منذ عام 1949 م ويومها عادل الدولار 4.2 مارك ليصل في 27 أكتوبر عام 1969م إلى 3.66. وبعد توديع اتفاقية «بريتون وودز» Bretton Woods وإطلاق قيمة الدولار بعيدا عن الذهب في 19 سبتمبر عام 1973م تزحلق إلى قيمة 2.82 أمام المارك الألماني الغربي. ومع اتفاقية «اللوفر»Louvre في 22 فبراير من عام 1987م لتحديد أسعار العملات وصلت قيمة الدولار إلى 1.83 من المارك. ولكن هذا لم يمنع أن يسقط الدولار إلى الحضيض في 8 مارس 1995 إلى حواف 1.35 من المارك.
وبين ولادة اليورو في عام 2000 وديسمبر 2003 خسر الدولار أكثر من30 % من قوته. وأعظم احتياطي للدولار ليس في أمريكا بل اليابان التي تملك 462.3 مليار دولار والصين 270.6 مليار دولارمقابل 80.4 في أمريكا. وهذا يعني أن دم أمريكا ليس في أمريكا بل في الشرق الأقصى. وفي الحين الذي تضطرب الثقة في الدولار فيتخلصون من الدولار فإن السقف سوف يخر على رأس أمريكا.
ومن الغريب أن صدام المصدوم قام ببيع بتروله باليورو حتى لا يتعامل بعملة البلد العدو ولكن هذا لم يفعل شيئا لأن مبيعات العراق لم تتجاوز ثلاثين مليون دولار في اليوم مقابل 1200 مليار دولار يتم التعامل فيها بالدولار على مساحة الكرة الأرضية. ولكن الويل لأمريكا لو اعتمدت منظمة الاوبيك بيع البترول بالدولار. ومعظم نفط الأرض في الأرض الإسلامية ولكن المسلمين غثاء كغثاء السيل. ورخص البترول من رخصهم.
ويقول المؤرخ الأمريكي ويليام كلاركWilliam Clark في تحليل له نشر عبر الانترنيت إن هجوم أمريكا على العراق لم تكن دوافعه البحث عن أسلحة الدمار الشامل فضلا عن التخلص من الديكتاتورية فغابة العربان مليئة بهم. وأمريكا التي دمرت البعث العراقي تتعاون في الخفاء مع توأمه السيامي. لقد كانت الحرب بكلمة أدق من أجل استمرار بيع النفط بالدولار والمحافظة على استمرار البيع بالدولار; فرفاهية أمريكا تعتمد على عرق وتعب الآخرين. وكل مال البترول يرجع فيتدفق في شرايين الدولار. فيأكل الأمريكيون ويشقى العالم.
وانتبه مهاتير الماليزي إلى هذا المقتل في كعب أخيل الأمريكي فهو يدعو إلى بيع النفط باليورو. ولكن هذا سيجر كارثة على رأس أمريكا في حال حصوله. وكما يقول فيم دوزنبيرجWim Duisenberg رئيس البنك المركزي الأوربي إن رفاهية أمريكا في قسم كبير منها يرجع إلى الضخ المالي للدولار من الخارج الذي يسند قصورا مضاعفا double deicit من عجز في (الميزانية) و(ميزان التبادل التجاري) على حدٍ سواء. فقد تسلم بوش الوضع والميزانية فوق حد السواء بحوالي 140 مليار دولار لتنخسف إلى أكثر من 400 مليار دولار سلبا. مما حدا حاليا الكثير من الدول لملء مدخراتها المالية من اليورو. وروسيا مثلاً رفعت مدخراتها من اليورو من 10% إلى 20% وتايوان من 20% إلى 35% وجعلت سنغافورة ثلث احتياطاتها من اليورو. وحذت كندا نفس الحذو. أما ألمانيا فقد عبأت خزائنها بمزيد من الذهب. وفي الوقت الذي كان احتياطي البنوك العالمية من الدولار مقابل اليورو في مطلع 99 يصل إلى 5.8 مرة فقد نزل إلى 4.6 مع عام 2003م. كما فكت نفسها الأرجنتين والبرازيل من الارتباط الوثيق بالدولار وقلبت إيران نصف مدخراتها البالغة سبعة مليارات دولار من الدولار إلى اليورو. والعاقل من اشترى اليورو عام 2000م حينما هوى أمام الدولار إلى 85% من سعره. ولكن هذا لا ينطبق على من ليس في جيبه يورو أو دولار.
ويأتي العجز الأمريكي من تمويل الحروب وتخفيض الضرائب من الداخل ما جعل بوش يمد يده إلى أموال المودعين فيأخذ 380 مليار دولار ما يعادل 4% من الناتج القومي. تضاف إليه القروض الخارجية بمبلغ 500 مليار دولار وهو ما يعادل أيضا 5% من الناتج القومي. وهو أمر تعلق عليه مجلة در شبيجل الألمانية (15/ 03) أن نمور آسيا لم تتحمله فهوت تحت ثقله.
والمشكلة مضاعفة فالشعب الأمريكي لا يعرف قيمة الادخار وينفق كأن خزائن الأرض مفتوحة أمامه ولكن ما عندكم ينفد وما عند الله باق. أما عجز أمريكا في ميزان التبادل التجاري فهي اليوم تدفع قيمة الواردات من جيب فارغ. وما يحافظ على قوة (ميزان التبادل) الاستثمارات في الأسهم الأمريكية وهي ليست في يد الأمريكيين فقد استثمر الصينيون 102 مليار دولار في الأسهم الأمريكية واليابانيون 363 مليار دولار. لذا وجهت مجلة النيوز ويك قراءها إلى «أم المعارك» أنها ليست في العراق ولا النزاع الأطلسي بل جبهة انهيار الدولار؟
ومشكلة ارتجاج الأسواق مع التلاعب بالدولار يبدو أن لا حل لها بالأفق بسبب سمك القرش العالمي أمثال زورو الهنغاري الذي مد يده في يوم فسرق من جيب كل بريطاني سنتا واحدا وهو يضحك.
كما أن انهيار الدولار يخفي داءً دوياً شديد الخفاء في الاقتصاد الأمريكي. وهو مؤشر أن أجل الأمم يأتيها من حيث لا تحتسب. وأمريكا اليوم الأعظم عسكريا ولكنها ليست كذلك اقتصاديا. ونفس ابنها المؤرخ (باول كينيدي) يرى أنها أصيبت بالترهل الإمبراطوري ويتوقع لها في كتابه (الاستعداد للقرن الواحد والعشرين) انكماشا في إجمالي الإنتاج العالمي من 40% إلى 16%. وهذا لا يعني أن أمريكا سوف تصبح مثل سوريا أو الصومال بل ستتراجع كما تراجعت كل الإمبراطوريات في التاريخ فلا تشكل استثناءً. سنة الله في خلقه.
كما أن الانهيار المالي لا ينتهي بنزهة جميلة في العادة فهناك حوت التضخم المالي وينقل لنا التاريخ قصصاً مرعبة، ففي عهد الأباطرة الرومان الثلاثة (كاليجولا وكلاوديوس ونيرون) «نضبت الأموال في الخزينة بسبب قيام هؤلاء الحكام بصرفها على إقامة الأعياد والاحتفالات وبناء البيوت الفخمة ورشوة الجيش والحرس الخاص من أجل ضمان ولائهم. ولما جفت الأموال قاموا بفرض الضرائب المرتفعة والاستيلاء على أموال الميسورين وضرب عملة جديدة» ونتيجة لهذه الممارسات الخاطئة مرت البلاد بأزمة حادة من التضخم فارتفع سعر القمح بمقدار 100000% (مائة ألف بالمائة) وقبيل انهيار روما «كان الاقتصاد الروماني قد دُمر تماماً» وسرى نفس الشيء على الإمبراطورية الأسبانية فلم تعد الواردات تغطي سوى نصف النفقات الحكومية وفقدت العملة قيمتها وبدأ التضخم ودمرت الضرائب المرتفعة اقتصاد الدولة ومواردها الزراعية وأدى فقر البلاد إلى فقدان نفوذها فانكمشت رقعة الإمبراطورية إلى حدودها الأصلية.
كذلك الحال بعد الحرب العالمية الأولى لكل من النمسا وألمانيا حيث وصل سعر رغيف الخبز في ألمانيا في نهاية عام 1923 م إلى 428 مليار مارك؟!. فكانت عربة كاملة من النقد لا تساوي لقمة خبز؟
وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا. لنفتنهم فيه؟
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=206110&issueno=9138