الأخ الكريم طيف .
أشكر لك على المداخلة .
يا صديقي ..
الواقعة التي ذكرتها في المقدمة لم أهدف بها أن أربط بين التقدم العلمي و عدم الإيمان ،و لكني فقط أردت أن أوضح التناقض الكبير بين التقدم العلمي و علمية الثقافة السائدة ، هذا لا يحدث فقط في المجتمعات الطرفية المستهلكة للحضارة ،و لكن أيضا في مركز هذه الحضارة ، ففي دولة مثل الولايات المتحدة يوجد بها أفضل العقليات العلمية على الإطلاق ، 90% من هذه العقليات لا تؤمن بالآلهة ،و لكن 56% من الشعب يؤمنون بإله ما ، بشكل أو آخر ، و هو في حالتنا الرب يسوع المسيح ، هذه النسبة هي الأعلى بين الدول المتقدمة ، فلا تتجاوز 25% في فرنسا ،و 17% في السويد و الدانيمارك . مما يزيد الصورة قتامة أن هناك ولايات مثل ولاية ميسيسبي يصل فيها المؤمنون إلى نسبة 85 % وهي نسبة تزيد عن نظيرتها في إيران ، كما يوجد حوالي 60 مليون أصولي من الأفانجليكان في الولايات المتحدة ، وهؤلاء يؤمنون بالكتب الدينية كالعهد القديم حرفيا ، ربما يعتقد البعض أننا في سجال الإسلام مقابل المسيحية ،و سيلقون في وجوهنا بأن هناك دول تصل فيها نسبة المتدينيين إلى 100% تقريبا مثل مصر و إندونسيا و المغرب و الإمارات .... الخ ،و لكن هذه الدول لا تساهم في الحضارة العلمية بشيء يذكر ،ولا تعبر عن مسار العقلانية في عالم اليوم .
يا صديقي .. أتفق معك حول دور العلماء المسلمين في تطور العلوم ، و تأثيرهم على بعث الروح العلمية التي أوروبا من جديد بعد أن دمرتها المسيحية ، و لكني أريد أن نتعمق قليلآ في بنية الثورات العلمية . هناك كتاب هام هو ( بنية الثورات العلمية ) تأليف توماس كون (Thomas Kuhn)، وهو مترجم إلى العربية في أكثر من ترجمة ، و يشرح فيه كون كيف يتطور العلم ، العلم لا يتطور على هيئة خطوط مستقيمة ، و لكنه يتطور بشكل ثوري على هيئة وثبات ، بين كل مرحلة و الأخرى قطيعة معرفية ،و كل مرحلة تدور حول نموذج قياسي أو براديم خاص ، و بالتالي لا يمكن مقارنة العلوم السائدة في زمن ما مثل العصور الوسطى التي برز فيها العلماء المسلمون ، بتلك السائدة في عصر نيوتن أو حتى مقارنة علوم عصر نيوتن بعصر الكوانتم و هكذا ، بالقطع النظرية أكثر تعقيدا من أن نتناولها في سطرين أو ثلاث ،و لكنها تلقي ضوءا على جانب نغفله دائما عندما نتناول فضل العلماء المسلمين على العلم . في الخلاصة أن البشرية مدينة للعلماء المسلمين كما هي مدينة لغيرهم من العلماء القدامى مثل الهنود و الصينيين و اليونانيين و المصريين و ... و ... ، و لكن هؤلاء ينتسبون لماضي العلم و ليس لحاضره ، الحضارة المعاصرة صنعت خلال ال 300 عام الأخيرة فقط ، ولن تجد منتجا فكريا أو ماديا يذهب لما هو أبعد من ذلك ،و للأسف لم يكن هناك أي إسهام للمسلمين أو العرب في تلك الحضارة ، الثورة العلمية المعاصرة تدور حول نموذج بيولوجي ، تبلور نتيجة أبحاث طويلة في الشفرة الوراثية و الجينوم ، و هي ثورة تلاقي الرفض من الفقهاء المسلمين .
يا صديقي .. لو توقفنا عن الواقعة التي سردتها في المقدمة ، أتفق مع رأي هيربرت هوبتمان ، أنه لا يمكن لعالم حقيقي أن يكون مؤمنا بالإله ، على الأقل ليس نفس الإله الذي تبشر به الأديان الإيراهيمية ، فالإيمان بالإله يعني الإذعان بلا دليل ،و لكن العالم الحقيقي لا يقبل سوى الحقائق التي تدعمها الأدلة و المشاهدة و التجربة ،و هو بالأخص لن يقبل مالا يتفق مع المنطق ، إننا نعرف الان كيف تطور الفكر ،و كيف ظهرت الأديان ،و تكونت الأفكار التاسيسية بها ، و ننظر عميقا في العقل البشري و في لا شعوره و تراثه العقلي ، إن الأديان تلبي حاجات نفسية للإنسان في بعض مراحل تطوره العقلي ،و لكنها لا تعكس أي حقيقة أخرى .
هناك نقطة هامة أثرتها و اتفق معك حولها ، هي أنه لا يجب أن ندفع المجتمع دفعا إلى ما نراه صحيحا ،و أن خطوة واحدة ممكنة أفضل من طيران بلا أجنحة ، نعم حسبنا أن نقنع المجتمعات العربية بفصل الدين عن السياسة العامة ، أي بالعلمانية المتساهلة أو الرخوة ،و هذا بالتحديد كان موضوع مداخلة طويلة طرحتها في ملف العلمانية الذي طرحته في هذه الساحة مؤخرآ ، وسوف أقتبس هنا جزءا مما جاء في مداخلة طرحتها بعنوان ( العلمنة و الإلحاد )
كثير من فلاسفة العلمانية و مفكريها يرفضون الإلحاد السلبي بشكل مفتوح ، هذا الإلحاد السلبي يسعى لمجرد القضاء على الأديان بدون أي أجندة إيجابية بديلة ، إن العلمانية كما يمكن تصورها في إطار ما بعد الحداثة ( أو ما يمكن أن نطلق عليه التنوير الجديد) تعني 3 أشياء محددة .
1- فصل الدين عن الدولة .
2- أنسنة القيم التي يجب أن تتجه نحو إشباع إحتياجات الإنسان و اهتماماته الأساسية العميقة .
3- تقليص الممارسات و الأنشطة الدينية التي تهدف لقيام مدينة الله City of God على الأرض أو ما يقابلها من دولة الإسلام ، و ما يعادلهما من المشروعات الدينية ، و استبدالها بتلك التي تسعى لقيام مدينة الإنسان Human City ، أو الدولة المدنية الهيومانية .
لقد ظهرت العلمانية و تكرست تلبية لاحتياجات عملية برجماتية ، و لم تكن مذهبا أو فلسفة أو عقيدة ، هذه البرجماتية تحديدا مصدر قوة العلمانية ، فمن أسس للعلمانية و تطور بها لم يكن الجماعات المعادية للدين ، و لكنهم أفراد مستنيرون ، يسعون لحماية الحياة البشرية ، و يصونون العلم و الفكر من اضطهاد رجال الدين و تدخلهم العنيد في شؤون لا يعلمون عنها شيئا ، لهذا ليس مستغربا أن نجد أعدادآ كبيرة من المؤمنين في الغرب تدعم النظام العلماني نتيجة ذكرياتها عن الحروب الدينية المريرة ، كذلك نتيجة الويلات و الفظاعات التي عانتها الجماعات الدينية على يد جماعات دينية أخرى تشاركها نفس الحماس و لكن لأديان و مذاهب منافسة !.