استغفال الشعب المصري
السفير أمين يسري
عندما يكون لوزارة الخارجية متحدث رسمى باسمها وبدرجة سفير فإن عليه واجبًا أن يزن كلماته بميزان ذهب.. لأكثر من سبب.. من أول هذه الأسباب أن المتحدث بدرجة سفير وهو أمر يفرض عليه ـ كما على أى سفير ـ ألا يلقى الكلام على عواهنه، خاصة إذا كان يتحدث للإعلام لأن حديثه ليس شخصيا إنما هو منسوب إلى وزارة سيادية تختص بالشئون الخارجية.. وثانى هذه الأسباب أن وزارة الخارجية لا تضع السياسة الخارجية لـ«مصر» إنما هى فقط تتقدم بمقترحات أو خطة للمسئول طبقًا للدستور القائم عن السياسة الخارجية، وهو رئيس الجمهورية..
فالمتحدث باسم وزارة الخارجية يجب أن يدرك وهو يدلى بحديث أو تصريح أنه لا يعبر عن وزارة الخارجية إنما عن آراء رئيس الجمهورية.. أى عن الدولة المصرية.
وحديث المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية الذى تصدر الصفحة الأولى لـ «الأهرام» يوم الأربعاء الماضى 23 ديسمبر الجارى تضمن مغالطات ترقى إلى حد الاستهزاء بفعل الشعب المصرى وبمواقفه التاريخية تجاه القضية الفلسطينية كما تضمن فهمًا خاطئًا عن الأمن القومى المصرى الذى لا يتحقق أبدًا بما اسماه أعمالاً هندسية!!.. وكان يقصد الجدار الفولاذى الذى يقوم العمال المصريون تحت إشراف المهندسين الأمريكيين ـ وربما بتمويل من الولايات المتحدة ـ بإقامته على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة.. إنه يقوله هذا يبرر لـ«إسرائيل» إقامتها لجدار الفصل العنصرى الذى أقامته ـ وتواصل إقامة ما تبقى منه ـ فى الضفة الغربية فهو ـ أى جدار الفصل العنصرى ـ يدخل ضمن إطار الأعمال الهندسية!!
بل تستطيع إسرائيل ـ وفقًا لمنطق المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية المصرية ـ الاعتماد على هذا التصريح لتضرب عرض الحائط ـ وقد فعلت عمليا وتحت سمعنا وبصرنا ـ بحكم محكمة العدل الدولية فى لاهاى الصادر فى عام 2004، وشارك فى إصداره قاض مصرى هو الدكتور نبيل العربى الذى قضى بأغلبية أربعة عشر صوتًا (قاضيا) ضد صوت واحد بأن تشييد الجدار الذى تقوم إسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال ببنائه فى الأرض الفلسطينية المحتلة بما فى ذلك القدس الشرقية وما حولها والنظام المرتبط به يتعارض مع أحكام القانون الدولي، والقانون الإنسانى الدولي، فهذا الجدار هو أعمال هندسية!!.. الذى قاله السفير المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية كما جاء نصًا فى صدر الصفحة الأولى من «أهرام» يوم الأربعاء الماضى قوله لا فض فوه.. «إن الخوض فى أمر بناء مصر بعض الإنشاءات!! على الحدود مع قطاع غزة يعتبر مساسًا بالأمن القومى المصري» (!!)!! (وألف علامة تعجب)... وأضاف قائلاً «إن تسمية بعض الإنشاءات المصرية بالجدار غير صحيح فهى أعمال هندسية!!!! وأن الإعلام مملوء بتسميات (وصحتها مسميات) لا تمت للحقيقة بصلة!!» ولم يقل لنا ما الحقيقة؟؟.. ما الحقيقة لو سمحت؟؟ ولم يقل لنا سعادة السفير ما طبيعة وشكل هذه الإنشاءات والغرض من إقامتها!! ومن الذى يتحمل تكاليف إقامتها؟ أمريكا أم إسرائيل أم مصر؟ بل الأدهى والأمر قوله.. إن الخوض فى أمر بناء مصر بعض الإنشاءات على الحدود مع قطاع غزة يعتبر مساسًا بالأمن القومى المصري!! (ومليون علامة تعجب).
أى أن مجرد الخوض والحديث عن هذه الإنشاءات «يعتبر مساسًا بالأمن القومى المصري»!!.. أى ممنوع على كاتب مثلى أو مثل أى صحفى فالأستاذ فهمى هويدى أو الإعلامى الكبير حمدى قنديل أن يخوض أو يتحدث أو يكتب عن هذه الإنشاءات (التى هى الجدار الفولاذى على طول حدودنا مع غزة) لأن فى هذا مساس بالأمن القومى المصري!!.. علمًا بأن الذى بدأ بالكشف عن هذه الإنشاءات (الجدار اللاإنسانى مع غزة) هو صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية.
التى فى وجودها ـ إسرائيل ـ خطر كل الخطر على الأمن القومى المصرى والعربي.. ولست أعرف من أى كلية جامعية تخرج سيادة المتحدث الرسمى ومع ذلك فإن أى إنسان على قدر من الثقافة العامة حتى ولو كان يحمل فقط شهادة الابتدائية أو شهادة الإعدادية يعلم أن الأمن القومى المصرى لا يعنى أبدًا الحدود السياسية!!.. وأن الأمن القومى المصرى يبدأ من جبال طوروس فى سوريا.. فـ«نابليون» عندما احتل مصر أدرك أن لا يمكن له الاحتفاظ بـ«مصر» كمستعمرة فرنسية إلا إذا احتل بلاد الشام (سوريا ولبنان) ومن هنا قام بغزو فلسطين وبدأ بمدينة عكا.. فلما استعصى عليه احتلال مدينة عكا فإنه عاد إلى مصر ومنها عاد إلى فرنسا.. وبعده محمد على (باشا) الذى أدرك ذلك بحسه الفطرى العسكرى ضرورة احتلال الشام للاحتفاظ بـ«مصر».. بل إن عمرو بن العاص الذى كان قائدًا عسكريا فذًا بالفطرة أدرك ذلك أيضًا إلى حد أنه بعث برسالة إلى الخليفة عمر بن الخطاب قائلا له إما أن نفتح بلاد الشام أو ننسحب من مصر.
أيهم أخطر على الأمن القومى المصري.. إسرائيل التى لديها رابع جيش فى العالم مزود بأحدث الأسلحة وفيها مائتا قنبلة ذرية أم مليون ونصف المليون فلسطينى ـ سكان غزة ـ بما فى ذلك النساء والأطفال والشيوخ هم جميعًا يفتقدون الطعام والدواء والمسكن بعد أن هدمت إسرائيل مساكنهم ويعيش ثُلثهم فى العراء فى هذا الشتاء القارص.. أيهم أخطر على الأمن القومى المصري؟؟.. هل تعرف سعادة السفير أن سكان غزة لم يقدموا الأضحية فى عيد الأضحى لأنه لا توجد لديهم ماشية.. هل قرأت فى ذات صحيفة «الأهرام» التى نشرت تصريحاتك نداء استغاثة لإرسال معلبات تحتوى على لحوم إلى سكان قطاع غزة الذين لم يأكلوا لحومًا منذ عدة شهور ولا حتى خضراوات لأن الفلاح فى غزة لا يستطيع الاقتراب من أرضه الزراعية لأن جنود الاحتلال الإسرائيليين يطلقون النيران على أى فلسطينى فى غزة يقترب من أرضه الزراعية لقربها من الحدود.
«الإنشاءات» التى أشرت إليها سعادة السفير والتى اعتبرت أن الحديث أو الكتابة عنها ممنوع، لأن فى ذلك مساسًا بالأمن القومى المصرى هى كما قالت «هاآرتس» عبارة عن جدار فولاذى تحت الأرض لمنع التهريب.. تهريب ماذا؟.. الطعام والدواء.. بل وربما السلاح.. ولماذا لا؟ أليست غزة تحت الاحتلال ومن حق سكان غزة المقاومة طبقًا لأحكام القانون الدولى وقرارات الجمعية العامة للأمم لمتحدة.
نفترض سعادة السفير أنه عندما كنت طفلاً صغير السن وغادرت أسرتك المسكن وغابت طويلاً.. وشعرت أنت بالجوع، فهل لو كنت قد قمت بطرق باب أحد جيرانك وطالبته بطعام لأنك جائع هل فى هذا عدوان على هذا الجار ومساس بأمنه القومي؟
قارن سعادة السفير بين حاجة سكان غزة للطعام والدواء والمسكن ومنعك وصول كل هذا لهم وشاركت مع إسرائيل فى حصارهم وبين إمدادك ـ أى مصر ـ لـ«إسرائيل» بالغاز وبسعر بخس.. أيهم أولى بالمعونة إسرائيل أم سكان قطاع غزة العرب المسلمين؟.. أيهم أولى إنارة محطة كهرباء تل أبيب بالغاز المصرى وبسعر بخس أم إغاثة طفل من غزة يكاد يموت من الجوع ومن المرض وليس عنده طعام ولا دواء؟
وبعد.. عفوًا سعادة السفير فما كنت أعنيك شخصيا.. بل اللوم على النظام الذى منذ أيام السادات اعتبر أن كل ما بين مصر وإسرائيل هو مجرد حاجز نفسي!!.. ووضع 99% من الأوراق فى يد أمريكا حامى حمى إسرائيل.. واختار إسرائيل كموصل جيد للوصول إلى قلب الحبيب الأمريكي!!.. وأصبح الحاجز النفسى بين أشقاء لنا فى الدين واللغة والأرض والتاريخ.. اللوم على نظام نسى موقف الشعب المصرى من قضية فلسطين.. نسى أو تناسى أو لم يقرأ أصلاً موقف نواب البرلمان المصرى (النواب والشيوخ) من قضية فلسطين.. نسى قول مصطفى النحاس باشا أن مصر ليست أقل تألمًا مما أصاب اليهود فى أوروبا من الويلات ولكن لا يجب أن نحل مسألة يهود أوروبا بظلم يقع على عرب فلسطين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم.. نسى أو تناسى أنه فى يناير 1946 زار العاهل السعودى مصر واجتمع بالملك فاروق وتباحث فى قضية فلسطين وأصدرا معًا بيانًا أعلنا فيه «مشاركتهم العرب والمسلمين فى أبحاثهم بأن فلسطين بلد عرب وأن من حق أهلها وحق المسلمين والعرب أن تبقى عربية ومستقلة».. نسى أو تناسى تصريح واصف غالى باشا وزير خارجية مصر أيام عصبة الأمم أن مصر لا تأمن قيام دولة يهودية مصطنعة من خليط جنسيات مختلفة بجوارها.
عفوًا سعادة السفير، فما قصدتك شخصيا.. فما تشرفت بلقائك يومًا ولا بينى وبينك عداوة من أى نوع كان.. ولكن عدائى هو لـ«إسرائيل» ومن يسير فى فلكها وتفوق على السادات وأصبح يقيم جدارًا عازلاً لا إنسانيا يحول بين طفل جائع ولقمة للعيش وكوب ماء يروى ظمأه ومسكن يأويه، ويعتبر ذلك عملاً وطنيا لدواعى وصالح الأمن القومى المصري!!
http://al-araby.com/docs/1188/vision/art...83261.html