Our attachment to no nation upon earth should supplant our attachment to liberty" . Thomas Jefferson.
" عدم ارتباطنا بأية أمة على الأرض ، هي المقدمة لارتباطنا بالحرية " . توماس جيفرسون .
وجاء أوباما.
الآن نطرح السؤال .. ماذا بشأن باراك اوباما ..
مثل غيره من معظم الرؤوساء الأمريكيين ، كان لابد أن يصاب باراك أوباما بانقسام في الشخصية عند معالجتة للشؤون الخارجية ، في عالم دولي شديد التعقيد ، تلعب فيه الولايات المتحدة دور القوة الأكبر الوحيدة في العالم ، باراك أوباما بتكوينه رجل تراجيدي مركب الشخصية ، فهو في جانب منه سياسي واقعي بارد ، و لكنه في الجانب الآخر مفكر إنساني النزعة و مثالي متحمس ، هذه الإزدواجية قد تكون مفيدة في ظروف دولية أخرى ، بل كانت بالفعل كذلك في حالة رئيس مثل جون كيندي ، و لكن هذه الإزدواجية يمكن أن تطيح برئاسة باراك اوباما كما فعلت سابقا مع جيمي كارتر ، الرئيس الأمريكي الأكثر مثالية و الأقل نجاحا في القرن العشرين ، و الذي أمضى فترة رئاسية واحدة عاصفة ، لم ينجح فيها في شيء سوى في التوسط لتوقيع اتفاقية السلام بين مصر و إسرائيل .
جاء تردد أوباما الطويل حيال الموقف في أفغانستان نموذجا واضحا لحالة الشيزوفرانيا التي تميز سياسته الخارجية حتى الآن ، قضى اوباما 94 يوما في مناقشات داخلية مستمرة حول أفغانستان ،و في النهاية وافق على طلب جنرالاته بإرسال جنود إضافيين إلى هناك ، ففي الأكاديمية العسكرية الأمريكية ، أعلن باراك أوباما ؛ أول ديسمبر 2009 م عن إرسال 30000 جندي أمريكي إضافي إلى أفغانستان ، في نفس الوقت سعى أوباما لإرضاء قاعدته الليبرالية المعادية للحرب ، و ذلك بأن طلب أن تبدأ تلك القوات في العودة إلى الوطن بحلول شهر يوليو 2011 !. من الواضح أن ذلك القرار المتناقض هو محاولة للتوفيق compromise بين عاملين متعارضين ، الأول رؤيته ( الجيفرسونية ) للعالم من جانب ، و هي متصالحة تميل إلى خفض الإلتزامات الأمريكية في الخارج ، و المطالب الملحة لأوضاع معقدة ورثها عن سلفه المتهور من جانب آخر .
جاء باراك أوباما مثله مثل جيمي كارتر في السبعينات من جناح (جيفرسوني) تقليدي في الحزب الديموقراطي ، و لهذا كانت معارضته للحرب ضد العراق واضحة و معلنة منذ البداية ، بل كانت حجر الزاوية في حملته الخطابية الشهيرة و البليغة ضد سياسة بوش ، هذه السياسة التي أرعبت جميع الديمقراطين ، فلم يكن أشد المتشائمين يتصور أن تتورط أمريكا في فيتنام جديدة بعد حوالي 30عاما من انتهاء تلك الحرب الملعونة .
كغيرة من جناح جيفرسون في الحزب الديمقراطي ، يتبنى باراك اوباما سياسة تقليل حجم الإرتباطات الخارجية بقدر الإمكان ، وهو من مدرسة ترى أن أفضل تأثير يمكن للولايات المتحدة إحداثه في العالم يكون بالقدوة الداخلية ، مصحوبة بالإعتدال و الليونة الخارجية ، كما يعتقد هذا الجناح أن التوسع في الإلتزامات الخارجية يستنزف الثروة الأمريكية التي يمكن توجيهها لدعم الديمقراطية في الداخل ، يعتقد أنصار هذا الجناح أن التورط الخارجي سيدفع الولايات المتحدة للتحالف مع بعض الحكام الفاسدين و الطغاة في الخارج ، كذلك سيؤدي إلى إفساد داخلي يتمثل في لوبيات السلاح و المصالح الأجنبية .
كمثال واضح عن اختلاف باراك اوباما عن سلفه جورج بوش ، هو الموقف من تفجيرات 11 سبتمبر ، ففي حين كان بوش يرى ضرورة زيادة التدخل في منطقة الشرق الأوسط ، و فرض الديمقراطية على شعوب المنطقة ، على النقيض من ذلك تماما يرى أوباما أن أفضل وسيلة للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة هو تقليل التدخل الأمريكي في المنطقة ، و خفض و تيرة الدعم الأمريكي لإسرائيل الذي يسبب المزيد من غضب العرب و اشتعال المنطقة ، هذه الرؤية التصالحية تقود اوباما إلى سياسات خارجية لينة ، فهو يسحب القوات الأمريكية من حدود روسيا ، و يستخدم خطابا لينا مع كوبا ،و يتحاشى التصادم مع دول أمريكا الجنوبية المتمردة مثل فنويللا و افكوادور و بوليفيا .
يميل أوباما إلى المساهمة في صنع عالم أكثر هدوءا و سلاما ، و هذا يتيح له التركيز على القضايا الداخلية ، و توجيه إمكانيات الولايات المتحدة لتوفير حياة أفضل للشعب الأمريكي ، كذلك لنشر و دعم الديمقراطية عبر البلاد . يريد أوباما أن يقلل الإعتماد على القوة الأمريكية في حل النزاعات الدولية أو توفير الأمن للحلفاء ، لهذا يسعى إلى المزيد من اتفاقيات نزع السلاح ،و التوازانات العسكرية الإقليمية ، مع تقليل الإعتماد على القوة الأمريكية .
بينما ترى المدرسة الويلسونية أنه لا يمكن ضمان استقرار دائم مع وجود الديكتاتوريات ، على النقيض من ذلك ترى الحمائم من مدرسة جيفرسون - و التي ينتمي إليها باراك أوباما - أنه حتى الأنظمة الديكتاتورية يمكن أن تكون أعضاءا متوافقة مع النظام العالمي ، و هذا يمكن تحقيقه عن طرق خلق الحوافز المناسبة كي تفعل ذلك ، و بالتالي فلا يرى اوباما ضرورة معاداة أنظمة مثل إيران وسوريا أو دفعها دفعا إلى حظيرة الديمقراطية ،و لكن يمكن الوصول معها إلى اتفاقيات طويلة المدى ، تضمن مصالح تلك الدول ،و تضمن أيضا توقفها عن مناوئة السلام العالمي ،و معاداة المصالح الأمريكية ، ، نفس الأمر يمكن تحقيقه مع كوريا الشمالية ، فلا يرى باراك اوباما أن المشكلة تكمن في نظام الحكم في بيونج يانج ،و لكن في تصرفات حكام كوريا و أسلوب تعاملهم مع العالم الخارجي .
على المستوى الإستراتيجي تشبه سياسة أوباما الخارجية - إلى حد ما - السياسة التي تبناها نيكسون- كيسنجر في المسألة الفيتنامية ، أي انسحاب نهائي تحت ستار من السياسة الخارجية النشطة في المجالات الأخرى . في موقف مشابه يهدف أوباما إلى تخليص قواته من الحرب المكلفة في أفغانستان و العراق ، و بنفس الأسلوب الذي يمكن ان نطلق عليه سياسة الفيتنمة "Vietnamization" ، التي ميزت حكم نيكسون . هناك سابقة تاريخية لإنفتاح أمريكا الفجائي على أعدائها الألداء ، هي تجربة انفتاح نيكسون على الصين ، و تم ذلك بالفعل رغم سياسة الثورة الثقافية الراديكالية التي كان يقودها ماو تسي تونج ، مستنسخا تلك التجربة يحاول باراك أوباما الإنفتاح على إيران ، هذا الإنفتاح يتم بالرغم من كل الإختلافات الأيديولوجية بين البلدين ، و بالتالي فباراك أوباما لا يرى ما يمنع من وجود علاقات استراتيجية مستدامة بين البلدين ، بالرغم من الخلافات الأيديولوجية التي يجب ألا تعيق مثل تلك العلاقات .
هناك تشابه آخر بين نهج نيكسون و أوباما حيال الموقفين ، هو توفير الغطاء الدولي لحفظ ماء الوجه للولايات المتحدة ، كي تغطي إدارة نيكسون على تخليها عن الهند الصينية و انسحابها المهين من فيتنام ، قامت إدارة نيكسون بسلسلة من التحركات الدبلومايسية المبهرة ،و ضعت أمريكا في بؤرة السياسة الدولية ، في المقابل تسعى إدارة باراك اوباما إلى استغلال شعبيته الدولية الكبيرة لتوفير غطاء معنوي لإنسحابها الإستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط ، هذا الإنسحاب الذي يراه أوباما ضروريا كي يتجاوز الموقف الخطير الذي وجده في ميراث بوش الدامي .
خروج آمن و بأقل الخسائر من الشرق الأوسط ، يراها الديمقراطيون رؤية طموحة وواعدة أيضا ، فبهذه الترتيبات ستبقى الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم ، و لكنها ستجني مكاسب تلك القوة دون أن تتورط في النزاعات ،و بأقل التزامات خارجية ممكنة ، بينما يراها اليمينيون المتشددون كارثة .
بوصول أوباما إلى الحكم بدأ يكتشف مدى صعوبة تطبيق السياسة الإنعزالية ( الجيفرسونية ) في عالم القرن 21 ، هذه السياسة كانت ممكنة في القرن 19 ، عندما كانت الإمبراطورية البريطانية تقود العالم ،و توفر مناخا مستقرا للتجارة ، و هكذا أمكن للأمريكيين أن يبحروا خلال ذلك العالم الفسيح ،و أن يجنوا المميزات و المكاسب ، دون دفع الثمن الذي تدفعه الإمبراطورية البريطانية بالفعل ، هذه السياسة أصبحت مستحيلة في القرن 20 ، فمع اضمحلال الإمبراطورية البريطانية غرق العالم في الفوضى ، و تنازعته قوى متعددة و متصارعة ، و أصبح أمام السياسة اللأمريكية بديلين ، الأول استمرار السياسة الإنعزالية و تقبل المخاطر ، الناتجة عن الفوضى الدولية ،و البديل الثاني هو دخول الساحة الدولية كلاعب رئيس بديلآ عن بريطانيا ، مع ما يستتبع ذلك من التزامات و استنزاف اقتصادي . في البداية سادت المدرسة الإنعزالية ، و كان هذا هو الحال حتى حقبة العشرينات و الثلاثينات من القرن 20 ، و لكن النتيجة كانت أكبر مما يتحملها الأمريكيون و العالم ، حربتان عالميتان مدمرتان ،و مشروع سوفيتي ضخم لإنشاء إمبراطورية أوروبية – أسيوية ،و انتشار الأسلحة النووية ، و هكذا أصبحت الجيفرسونية في محنة ، فهي تواجه الإلتزامات المتعددة لأمريكا ، إلتزامات من كل نوع ، سياسية و اقتصادية و عسكرية و ثقافية ، و ظلت تلك المدرسة نشطة حتى في أثناء الحرب الباردة ،و لكن لم يكن ممكنا ولو نظريا تحديد أين يمكن أن تقطع الولايات المتحدة التزاماتها الدولية ،و ظل هذا الموقف سائدا ، حتى جاء باراك اوباما على امل إحياء الجيفرسونية من جديد .
هناك بقية .
(01-10-2010, 01:12 AM)مجدي نصر كتب: تحية طيبة أستاذ بهجت
بدايةً لك خالص الشكر والتحية والتقدير على ما تطرحه من موضوعات جادة
.......................
ومن هنا تأتي أهمية التناول العلمي الواقعي الملموس، ما دام يعمل في إطار الرؤية الجدلية العامة للواقع، فلا ينفصل عنها ساقطاً في الوضعية حبيسة الحالة القائمة، حيث يمكن من خلاله معرفة كيفية تفاعل العوامل المؤثرة، في الحالات الخاصة والمُحددة، وهو ذاته ما يهمني هنا من متابعة هكذا موضوع، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بسياسة أميركا العدو الأول حسبما أرى.
تحيـــــــــــاتي أســـتاذنا الكــــــــريم،،،
تحية طيبة .
يا صديقي الكريم .
أتمنى ان تشاركنا هذا الشريط ،و أن تعبر عن أفكارك بكل حرية .
سيسعدني كما سيسعد الأخوة الجادين ان نستمع لمختلف وجهات النظر ، فلا يملك احدا الحقيقة الكاملة ، فهي توجد في مكان ما بيننا جميعا ،و لن يمكننا البحث عنها لو اعتقدنا اننا نمتلكها بالفعل .
خالص التقدير