كونه تم ذكر الخلافة، فلا بد من التنويه لأمر هام...

الخلافة حكم شرعي، يستنبط من أدلة الأحكام الشرعية ومصادرها، وليس من أفعال الناس وتاريخ المسلمين..

الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد من حيث الاقتضاء والتخيير والوضع، والشارع هو الله ورسوله فحسب وليس عثمان ولا معاوية ولا مروان وأولاده.

الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى الشرع، كما أن الملك هو حمل الكافة على مقتضى الهوى، والحكم يكون خلافة أو ملكا لا ثالث لهما، سيان ملك الفرد أم ملك الجماعة، ملك الأقلية أم ملك الأكثرية، فليس ما يحمل الناس على رأي الأكثرية هو صواب رأيهم، بقدر أنه الرأي الذي تهواه الأكثرية. ملك الحزب أم ملك الطائفة أم ملك القبيلة، أم ملك العرق. سيان أكان الملك شخصا بعينه يعرف، أم حزبا، أم أصحاب رأس مال خلف الكواليس.

الخلافة حين يستدل عليها من ذهب أنها حكم شرعي، يستدلون عليها من مصادر الأحكام، وليس من أفعال الناس، سواء أكانوا من السنة أم الشيعة أم الخوارج أم المعتزلة، وحين يريد رافضوا الخلافة في القرن العشرين نقض النظرية الشرعية، فإننا نجدهم غالبا ما يلجؤون إلى تاريخ المسلمين "الدامي" بينهم، ليدللوا على فساد النظرية.

قد يكون قولهم صوابا لو أن الدليل قام على الأسبقيات القانونية، لكنه لم يقم، أو أننا ينبغي أن نحكم على التجربة الديمقراطية من أفعال الدول الديمقراطية، مثلا الثورة الفرنسية وأكلها للأخضر واليابس في فرنسا وتمخضها عن امبراطورية استعمارية، أم الثورة الأمريكية وتحولها قريبا إلى حرب أهلية أكل فيها الأخ أخاه، ثم قام المنتصر والمهزوم بأكل العالم الجديد معا، ثم انبريا إلى العالم القديم ليأكلا أخضره ويابسه؟ أم الثورة الشيوعية التي ادعت أيضا أنها ديمقراطية، والتي أخرجت أسوء نماذج الاستبداد، طبعا مع المرور بالتصفيات الداخلية، والصراع الستاليني التروتسكي، والذي لولا أن ستالين كان مبادرا فيه سريعا لاخرج لنا حربا أهلية روسية تضاءلت أمامها الحروب الأهلية في القديم والحديث!

الخلافة حكم شرعي، وحين تناقش، ينبغي النظر إلى أدلة من رأى شرعية حكمها، وهي من القرآن والسنة، مع لفت النظر أننا هنا نبرز الناحية التشريعية للقرآن والسنة كمصادر دستورية، ولا يعنينا في هذه العجالة إثبات مصدريتهما الإلهية، ذلك أمر مغاير لما نبحث هنا. هل دلل القرآن والسنة على مشروعية الخلافة أم سكتا عنها؟ هل أقام مدعو شرعية الخلافة الدليل على أقوالهم من سوابق قانونية أم من أصول شرعية؟

قد يقول قائل هذه مصادر قديمة، ترجع إلى 1400 سنة،نقول هنا بغض النظر عن المصدر الإلهي للأحكام الشرعية، أولا تكون مجلة شرائع جستنيان مصدرا للقانون المدني في العديد من الدول؟ مصدرا ليس بالوحيد لكنه مصدر محترم على أية حال، رغم قدمها... فلا يعاب القانون بقدم ولا يستحسن بحداثة، بل بنظر لمدى استقرار هذا القانون في نفوس المحكومين فيه، فرب سلطان غير مرئي لقانون مقنع للعامة والخاصة والرأي العام أجل في النفوس من شرطي وسيف ونطع وجلاد وسوط ومدفع وبسطار.

ثم قد يقول غيره، الأولى عالمانية القوانين، هروبا من الخلاف بين الأديان والمذاهب، لهذا نقول ألا قد أخطأت الخطأ البين، حين أردت عمرا وأراد الله خارجة، أولا ترى عزيزي المناظر أنك قد زدت الأديان والمذاهب دينا ومذهبا؟ وحين رفض السني الاحتكام للشيعي وبالعكس، فلم سيقبلان كلاهما أن يحتكما للعالماني، وهو في أحسن أحواله عندهما ضال لغة واصطلاحا، إلا ما ندر.. أم أننا نريد أن ننزل العالمانية منازل الناس قهرا وقسرا واستبدادا كما قد صنع أشياعها منذ أن غزانا الغرب عام 1918 وحتى يومنا هذا.

هلموا وأخرجوا لنا نهضة عالمانية في المشرق لنرى وترون، ولن تكون نهضة بمعزل عن الناس، ولن يكون الأمر إلا بحوار حر بين الأفكار على العلن وليس على هذه الصفحات، وقد علمنا حرية الإسلاميين في طرح أفكارهم في الخمسينات والستينات، ونظرنا البأس الشديد المانع من الحوار من غير الإسلاميين حتى عدوا بطرق الغير ونشب فيهم المتطرفين، ثم ليموا على ما لم يكون فيه إلا ذنبا، أعني الاستبداد في الطرح وقمع الآخر المختلف..