القسم الثاني:
إستيلاء الإله الاب على عرش حواء
اسطورة حواء هي جزء من قصة استيلاء الاله الاب على عرش ومكانة الربة الام، تماما بذات منطق الاية القرآنية التي تقول: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا" (الاسرى، 44).
كلا الاسمين حواء ويهوه* ماخوذين من احد اشكال الفعل العبري " الوجود"، الامر الذي يدل على اصل مشترك لكليهما. معنى كلمة حواء هو " الحياة" او " هي التي تمنح الحياة"، ليصبح آدم نتاجاً وسجل لكل مايخرج من حياة عنها. صورة حواء (المخلوقة) لازالت تحمل مضمون وظيفتها السابقة ، بحيث ان هبوط مكانتها من خالقة الى مخلوقة، يمكن رؤية تدرجاته بوضوح في جميع مراحل صورها. إن عملية تجريد الالهة من الاسطرة هي عملية دقيقة، حيث ماكان يعود لها في الماضي يصعد من جديد الى السطح بعد ان جرى الباسه الى شخصية اخرى، في هذه الحالة ليهوه و الله. في ذات الوقت تصبح حواء عكس ماكانت عليه، ليست مانحة للحياة وانما سبباً لنشوء الموت. ومن حيث انها كانت في السابق ليست الحياة وحدها بل حتى الطبيعة ذاتها فإن عملية خلع الاسطرة عن شخصيتها لابد ان يشمل حتى الطبيعة، التي ، تماما كحواء، تصاب ايضا بلعنة الموت والسقوط. بناء على ذلك، الموت الذي كان في السابق مجرد مرحلة من مراحل دورة طبيعية لها وجهان لاينتهيان من خلال العودة الى رحم الربة الام لإعادة البعث ، يصبح في الاسطورة الابراهيمية، مرحلة منفصلة خاصة بذاتها، نهاية وليس جزء من دورة، بل عقوبة على ضعف جلبته على نسلها الطبيعة الناقصة للربة الام بعد تجريدها من رببويتها وإنزالها الى العالم الارضي. ومن المذهل ان الغضب على الارباب وتجريدهم من رببويتهم هو ايضا ذو مصادر سومرية، فنحن نرى ان الرب انليل غضب على الربة ايغيغي وذبحها ليجعل دمها هو الروح الذي ينفخ الحياة في صلصال آدم. لدينا ايضا قصة اينانا عندما زارت مملكة اختها في العالم الاسفل. لقد ارتكبت خطيئة المسارعة الى الجلوس على عرض الاخت، ليقوم الثالوث المقدس انوناكي بمحاكمتها والحكم عليها بالموت صلباً على مسمار. راجع تفاصيل القصة هنا
بالعودة الى السؤال الذي وضعه Campbell عن اسباب تناقض الرؤية مابين القلب والعقل، ينعكس ذلك بسهولة في اشارة يهوه الى انه خلق حواء من ضلع آدم ، في حين ان ذلك يتناقض مع المعلوم فطرياً من ان الولادة هي صفة للانثى الطبيعي، وكان ينبغي ان يكون آدم ناتجا عن الانثى. إن قصة "الضلع" كانت تملك في الماضي مضمونا معكوساً، كجزء من اسطورة الام خالقة الحياة بالفيض في ذاتها(وليس بالكلمة خارج ذاتها)، إذ خلف اسم حواء والطريقة التي ولدت بها توجد قصة سومرية تربطهم ببعض.
الكلمة السومرية للحياة كانت TI والتي تعني في ذات الوقت " ضلع". ربة الخصب السومرية Ninhursag قامت بتحقيق شفاء ضلع اينكي، وهو اله المياه العذبة، من خلال خلقها لربة Nin-ti, ولادة الاطفال (5)، التي قامت بتصليح الضلع مستخدمة ضلع طفل من رحمها. اسم Nin-ti السومري يمكن ان يعني " السيدة التي تعطي الحياة" وهو اللقب الرسمي للربة او يصح ان يعني ايضا " الربة ذات الضلع". (راجع الحاشية السادسة) مؤلف النموذج التوراتي لقصة الخلق 2 و 3، لابد انه كان واعي لهذا المعنى الثنائي، إذ ان السيناريو الذي ابتدعه بقي مخلصا لفكرة استخدام الضلع في ولادة إعجازية. غير ان القصة السومرية تستخدم الوحدة بين الام والطفل لتقدم إمكانية منطقية لإعطاء الاضلاع كجزء من الولادة، في حين ان السيناريو التوراتي يجري التضحية بالطبيعة والمنطقية والربة الام لصالح بناء قدرات إعجازية لدى الاله الاب يهوه. (يجب الاشارة ال ان الاسطورة الاغريقية عن ولادة اثينا من رأس زيوس تملك ايضا نقاط مشابهة). إضافة الى ذلك الكلمة العبرية للضلع تسيلا tsela, تعني " العثرة" الامر الذي يحمل القصة مضامين اخلاقية اضافية، خصوصا انها تحصل على اسمها مباشرة بعد ان " تعثرت" في مهمتها، لتكون العثرة الاولى وليست السقوط الاخير للانثى. في السرد الاسلامي يضاف على الدوام تعبير " الاعوج" الى كلمة الضلع لتصبح " الضلع الاعوج"، تحقيقا للحديث الشريف، الامر الذي يعزز انطباعات التصغير السائدة في حق المرأة (راجع الحاشية رقم اربعة).
وفي التوراة نجد " وآدم اسمى زوجته حواء، لانها ام جميع البشر"، بهذا يجري تقليص دورها واهميتها من ام لجميع الاحياء، حسب الاسطورة الاصلية، الى ام للبشر فقط، حسب الاسطورة التوراتية. وبذلك، بعد ان كانت في حضارة الاولين تملك اهمية قصوى وطاغية تجعلها في دور مانحة الاسماء كلها، جرى اختصار دورها الى ظل الرجل، لاتملك حتى تسمية نفسها، وقيمتها لاتزيد عن ضلع منه، وحتى بوجودها مدينة له إذ انها خُلقت لتأمين حاجاته تحديداً. بهذا تسقط حواء الربة الخالقة ليُعاد بعثها ثانوية تابعة موصومة بالخطيئة ومهانة.
في الاصل كان اسم المراة بالعبرية هو ishshah وتعني " الخارجة من الرجل" (6). وحتى الكلمة الانكليزية wo-man تعني زوجة الرجل، الامر الذي يصور تدرج الاهمية الاجتماعية. إستخدام آدم لاسم الربة القديمة بهذا الشكل جرى فقط بعد صدور لعنة يهوة، لتخدم نقل اللعنة من حواء الى جميع الامهات اللواتي تعيش حواء فيهن، ليصبح مافعلته مبرر لجعلها " خالقة الموت" إذ قبل خطيئتها لم يكن هناك موت، وبذنبها وحدها ظهر الموت والالم. بهذا يكون انتقام يهوه من منافٍسته على العرش، كاملاً.
في قصة الضلع والحية ، يرى البعض انه ليس من الغرابة ان تختار الحية الاقتراب من حواء اولا، بعد ان جرى تجريدها من اغلب رموزها السامية القديمة التي تمنحها الحكمة والرفعة. كون المرأة جرى تصنيعها من مجرد ضلع من آدم الذي شرفه يهوه بخلقه بيديه الالهيتيين، يقلل من إحتمال نجاح حواء بطاعة امر يهوه بعدم آكل الثمرة المحرمة، بالذات بسبب نقص في طبيعتها التي خلقها يهوة عليها واعياً. هذا المعنى نجده شائعا في تعليقات المسيحيين واليهود وحتى المسلمين، إذ ان المراة ثانوية الخلق، لمعالجة ملل آدم، جرى انتاجها من مواد اقل جودة وشكلها ابعد عن صورة يهوة الذي خلق الذكر على صورته، ولذلك تملك " المراة" خيارات اخلاقية اقل من آدم.
علينا ان نتذكر انه في الاسطورة الاصلية، وبالتعبير اللغوي المتتداول وثقافة تلك الايام، كان آدم ابن حواء قبل ان يصبح زوجها، في حين ان يهوة (الذي كان الها سومريا يحمل قرون ثور، انظر الصورة العاشرة) كان في البدء ابنها ليتحول الى اباً (7). في الطرح الاسلامي يشار الى الله على انه المثيل المباشر ليهوه، بل ويشير القرآن الى انه هو ذاته إلا السومري.. يذكر القرآن: " كيف وإن يظهروا عليكم لايرقبوا فيكم إلا ولا ذمة". (التوبة، 8). يقول تفسير ابن كثير "الإل الله". (راجع رابط موضوع " هل كان ايل الوثني هو الله") هذا على الرغم من ان تعبير الله ليس مذكوراً في الكتب السماوية السابقة للقرآن وانما متتداولا بين العرب الوثنيين تحديدا، على الاغلب على إعتباره الاله الاكبر او الاب وهو الإله القمر. (راجع رابط موضوع " هل الله هو الاله القمر")
وحتى صور توراتية مبكرة لحواء نراها معكوسة حسب التقاليد القديمة في طبيعة الربة الام، في حين ان القصة السردية لكيفية نشوئها واين عاشت وكيف تفكر وماذا تقول كانت تظهرها لنا على انها بشر. ولكن الامر ليس بهذه البساطة. حواء في شكلها الجديد جرى تجريدها من الرببوية، ليلصق بها ظهور الموت كنهاية وعقوبة ، غير ان هذا الدور ليس جديدا تماما، انه فقط تعديل في السيناريو القديم. حواء الربة مانحة الحياة كانت هي نفسها التي تسبب الموت على إعتبار ان الموت هو جزء من الدورة ذاتها، ولاينفصل عن عملية منح الحياة، وبالتالي فهي الام التي تقوم بالوظيفتين. في السيناريو الجديد تصبح حواء مجرد وعاء لانتاج الحياة الممنوحة من الخالق الذكر المنتصر، كما تصبح المسؤولة عن ظهور الموت كنتيجة نهائية ومغلقة، الامر الذي يجعل بالامكان تحويل الخلود الى جزرة يلوح بها الاله الجديد. لقد جرى تجزئة ادوارها السابقة، لتصبح على مرحلتين، الولادة لاعلاقة لها بالخلق، والموت قائم بذاته بخطيئة حواء، بعد ان كان كلا العمليتين يمران بجسد الربة. ولكن الدور الاهم لحواء البشرية هو إثارة الارتباك وتشتيت الذهن او مايسمى الغواية لآدم الابن المدلل للاله الجديد. وعلى الرغم من تسرب انطباعات من شخصية حواء الالهة، فإن حواء الجديدة جرى اغراقها بالعديد من الحكايا في محاولة لاغراق صورتها القديمة بالنسيان، وبعث حواء الجديدة مصدر الخطيئة والفساد التي يتوجب تحجيبها وسوقها.
في اسطورة الخلق كانت الالهة الخالدة المسؤولة عن منح الحياة في حين الغير خالدين هم من يسبب الموت. هنا وقف الخلود ضد الموت، الابدية ضدالزمن، قبل ان يجري فهم العلاقة الداخلية التي توحدهم. في الخلق لدى الاله الاب نجد ان يهوه (والله) يخلق من خلال الكلمة، اي بدون حاجة للاهتمام بعلاقة داخلية تتحكم بوحدة المتناقضات، كلاهما مرتبطان بالذات الالهية. في حين ان الموت سببته الام الفانية بسبب عدم طاعتها لكلمة يهوة. بهذا تفهم العملية على ان الانسانبة خطائة، وان الخطيئة جزء من طبيعة البشرية، ومع ذلك على البشرية ان تدفع الثمن. لهذا السبب نجد القرآن يحذر بني آدم ان لايفتنهم الشيطان كما فتن ابويهم (الاعراف 27) على إعتبار ان الخطيئة كانت هي بداية الدورة، بل التي اطلقت الدورة
في كتاب جون فيليب، حواء: تاريخ من الافكار، يقول:" قصة حواء تبدأ من يهوة عوضا عن ان تبدأ من ام الحياة وجميع الاحياء. هذا التغيير في مركز القوة يتضمن تغير اساسي في العلاقة مابين الانسان والاله. العالم والاله، البشرية والاله وحتى بين الرجال والنساء." (8)
ينهي فيليب كتابه بالتساؤل التالي: ماهو المراد الوصول اليه في الاسطورة الجديدة؟ ويجيب: بالدرجة الاولى اسقاط الانثى كوحدة مقدسة. (9).
يتبع..