الأخ الكريم إبراهيم .

الأخوة و الأصدقاء الكرام .

اسمحوا لي بمشاركة متواضعة .
أعدت اكتشاف اللغة العربية في حياتي المبكرة على يد أستاذ قروي لم يحصل سوى على شهادة الإبتدائية القديمة ، قضيت مع هذا الأستاذ نصف عام فقط في نهاية المرحلة الإعدادية ، فتحولت اللغة العربية من مادة دراسية غليظة القوام منفرة الملامح إلى عشق مقيم . هذا العشق مازال يهز كياني بتباريح الإبداع كلما قرأت نصا تفجر في روح شاعرة ، أو سمعت عبارة ممهورة بالبهاء . هذه التجربة علمتني أن البلاغة إحساس يسرى بين المحبين بلا تعمد ، بل بجاذبية خفية تستعصي عن الشرح و الإبانة .
يقدم لنا التراث العربي تعريفا للبلاغة كونها " مراعاة الكلام لمقتضى الحال " ، و أعتقد أن هذا القانون لا يسري فقط على الأدب العربي ، بل يشمل كل الآداب الإنسانية ، وهو يعني التناغم و التفاعل بين الشكل الفني و المضمون الفكري الذي ينقله للمتلقي . البلاغة ليست إذا صفة ملازمة للأسلوب أو السرد فقط ، بل هي خاصية شاملة للنص الأدبي كله ، و تسري في جميع أوصاله شكلا و مضمونا .
مفارقا لما يسود معتقدات الكثيرين أن البلاغة محصورة في اللغة أو الأسلوب ، أرى أن بلاغة الأسلوب مجرد عنصر من عناصر بلاغة العمل الأدبي ،و بالتالي فبلاغة الأسلوب هي بلغة المناطقة شرط لازم غير كافي ، فلا بلاغة بدون أسلوب بليغ ،و لكن هذا الأسلوب مهما كان مستوفيا لعناصر البلاغة الشكلية ، لا يغني عن بلاغة أخرى لا يمكن قياسها وفقا لقواعد ثابتة محددة ، رغم أننا ندركها شعوريا بالحس الأدبي ، و تسري في كيان النص الأدبي كله ، هي بلاغة العمل الأدبي الأشمل ، الكامنة في عناصره الجمالية و هندسته التشكيلية .
البلاغة إذا تتكون من شقين ؛ شق مرئي ملموس يتكون من عناصر يمكن دراستها منهجيا لطلاب الأدب ، وهي متعددة و يمكن تصنيفها ، و في اللغة العربية لدينا ثلاثة علوم هي : علم المعاني ، و علم البيان ،و علم البديع .
أما الشق الثاني فيشمل العناصر الخفية الغير مباشرة ،و هي لا تكاد تختلف من لغة لأخرى ،وهي العناصر التي تفرق بين الأدب و غيره من النصوص غير الأدبية ، لأنها تشكل القوى الخفية التي تكسب النص روحه الإبداعية و قدرته على الإلهام ، و من عناصرها : الخيال ، الإلهام ، الإيقاع ، المحاكاة ... الخ .من الواضح أن العناصر المرئية للبلاغة يمكن دراستها و يستخدمها كل من له دراية بها ، حتى لو لم يكن أديبا ، بينما لا يمكن تعلم العناصر الخفية من البلاغة ، لأنها جزء من البنية الثقافية الأساسية للأديب ، ولا يستطيع أن يوظفها غيره ، أي هي الرجل ( استخدم هذا التعبير بمعنى الإنسان بعيدا عن الجنس ) ذاته و ليست عناصر خارجية .