ملامح النهضة في فكر شكري العسلي.. (1868 ـ 1916)
بقلم: د. فندي أبو فخر
ولد شكري العسلي في دمشق سنة 1868، وتربى في كنف أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى.
تعلم في مدارس دمشق الابتدائية والرشدية والبطريركية. ثمّ التحق بالمعهد الملكي بإستنبول، وعاد إلى دمشق عام 1902 حاملاً شهادة الحقوق. وهذا ما أهّله أن يشغل وظيفة قائمقام في مناطق متفرقة.
انتسب شكري العسلي إلى حلقة الشيخ طاهر الجزائري (1868-1920)، التي كانت أشبه بإطار فكري وثقافي وسياسي، وجمعت معظم مثقفي دمشق، وتطلعت لبناء مجتمع حديث، ودولة تستند إلى القوانين.
بعد انهيار حكم السلطان عبد الحميد عام 1909 أسهم العسلي في تأسيس حزب الأحرار المعتدلين الذين، كما قال: (سيبذلون دماءهم في حفظ الدستور والحرية والإنصاف، من أجل الوطن. فالزمان زمانهم والوطن وطنهم والأمة أهلهم وإخوانهم).
شارك العسلي في الحوارات التي كان ينظمها المنتدى العربي والجمعية القحطانية والجمعيات المختلفة، التي قامت في دمشق بعد الخلاص من حكم الاستبداد. كما أسهم العسلي في تأسيس حزب الحرية والائتلاف سنة 1912، الذي عمل، حسب قوله، على: (تقوية الدستور، وتأسيس روابط ائتلاف حقيقية بين العناصر). وكان العسلي من الوجوه الوطنية البارزة في دمشق والداعية إلى النهضة والتنوير. ولهذا كان العسلي في عداد شهداء السادس من أيار، الذين علّقهم جمال باشا السفاح على أعواد المشانق.
تمثلت أفكار العسلي الفكرية والنهضوية والتنويرية المنشورة في جريدة (المقتبس)، في النقاط التالية:
أولاً: محاربة الجهل والتخلف والفساد والاستبداد:
درس العسلي بعمق مظاهر الحياة الاجتماعية، وما فيها من تداعيات خطيرة في العلاقات السائدة في المجتمع. فكتب قائلاً: (فإذا انحطت الأخلاق، ونزلت الرذائل منزل الفضائل، انقرضت الأمم والشعوب، وخربت البلاد، ولعلكم أدركتم أن بطء رقينا من فساد أخلاقنا).
إن تحليله العميق وفهمه لأوضاع المجتمع، أديا به إلى معرفة الأسباب البعيدة للجهل والتخلف والفساد، إذ لم يبرئ الجناة ويدين الضحية. فرأى أن موظفي الدولة وكبار مسؤوليها (هم شركاء مهربي السلاح والدخان ومهربي المهاجرين إلى أمريكا، يأخذون الرشوة ويكذبون تحت تواقيعهم، ويخونون وطنهم وأمتهم). ويضيف: (إن تبعات الفساد هي من مقتبسات المأمورين. فهم أساتذة الفساد ومعلمو الشقاق.وهم علّموا الناس الكذب والمداهنة، وأكل الرشوة والخيانة، فانظر إلى البعيدين عنهم تجدهم محافظين على أخلاقهم الفطرية، ويكرهون كل ما يخالف الضمير).
لقد حدد العسلي مسؤولية الحكم العثماني، في كل ما آلت إليه الأحوال الاجتماعية، بسبب سياسة النهب المنظم والضرائب الباهظة وإفقار السكان وتخليفهم، وهضم حقوقهم كافة، قائلاً:
(لأننا معشر العرب المتعلمين كنا قد آخينا الاتحاديين يوم نودي بالدستور، وأعلنت الإدارة الدستورية وأصبحت الحكومة نيابية وعندما رأينا أعمال بعض الذين استولوا على منصة الحكم مغايرة لأحكام الدستور والحرية الشخصية ورأيناهم ساعين إلى تتريك العناصر وهضم الحقوق انشققنا عنهم وهجرناهم هجراً جميلاً).
ثانياً: الدعوة إلى الإصلاح الشامل
كتب العسلي مقالات رصينة تصدرت جريدتي (المقتبس) و(القبس)، داعياً إلى إصلاح مؤسسات الدولة كافة، وإقصاء المرتشين والمفسدين محدِداً فيها مفاهيمه النظرية والقابلة للتطبيق، بعناوين كيف تدار البلاد، وتولية ذوي الأصول، واستشارة ذوي العقول..إلخ. وفيما يلي بعض ما طالب به:
- طلب من المسؤول، إذا كان متديناً، أن يقلد النبي عليه السلام، والخلفاء الراشدين في خدمة الناس واحترامهم. وأما إذا كان الموظف مقلداً للغربيين، فيجب عليه أن يقلد رجال الغرب في احترام الشعب، ويدرك أنه من عبيد الشعب، لا من سادته.
- أوجب على المسؤول أن يستشير ذوي العقول، وأن يعتمد ذوي الأصول. ممن اشتهروا بالنزاهة والصدق والمبادرة لخدمة الناس، ومعرفة القوانين والأنظمة والتقيد بها.
- طالب باعتماد وسيلة العقاب والثواب. فالعقاب على قدر السبب من الذنوب، لا على قدر الغضب.
- نادى باحترام الرأي الآخر (وليس في وعد ولا وعيد نخالف القول على التأييد)، وبرفض سياسة الترغيب والترهيب.
- طالب بتطبيق القوانين على جميع الناس، وحفظ الحقوق العامة والخاصة.
- نادى بإصلاح القضاء، وتخليصه من هيمنة رجال الدين المتزمتين والمحافظين والمرتشين.
دعا إلى القضاء المدني، واعتماد القوانين الحديثة (البرجوازية). ويرى أن فساد القضاء يعني فساد مؤسسات الدولة كلها.
- دعا إلى حرية إصدار الصحف، وحرية الصحافة وتشكيل الأحزاب، وانتخاب المجالس، وأن تكون الحكومة نيابية.
ثالثاً: رؤيته الفكرية لدور رجال الدين في الإدارة ومجالس الإدارة
شنّ شكري العسلي هجوماً مستمراً على مجهّلي الناس من رجال الدين من المفتين، ومن أدعياء العلم، لانخراطهم في مجالس الإدارة. لأن وجودهم فيها يتناقض مع الشريعة والقوانين الوضعية ومما قاله: (أستغرب وجود المفتي في مجالس الإدارة. لأن القرارات والمضابط التي يقرّها المجلس قلما تنطبق على أحكام الدين وحتى القانون). وأدهش من ذلك، (رأيناهم، وقَّعوا على مضابط تقدير المسكرات، ولهذا أرى أن الشريعة المطهّرة، تأبى وجود المفتي عضواً في مجالس الإدارة. هذا من جهة الدين، أما من جهة الدنيا، فوجوده عضواً في المجالس، يدفعه إلى حب الجاه والفخفخة...وأغرب من هذا كله، أنه إذا غضب على أحد كفره...).
يوحي هذا النص بأن العسلي دعا إلى:
1- عودة رجل الدين إلى عمله الحقيقي، وعدم إدخال السياسة بالدين والدين بالسياسة.
2- رفض سلاح التكفير، وقمع الرأي المخالف، وتحريم كل ما يريد السلطان تحريمه.
3- نقد سطوة رجال الدين وهيمنتهم على الناس في الحياة .
وكثيراً ما انتقد سلوك رجال الدين. فـ (المفتي الذي، يعلم عرف الزمان، وأحوال الناس واحتياجاتهم إلى الجرائد، لا يفتي بتحريم الجرائد)، لذلك نرى أن قلمه لم يهدأ في كشف زيف هؤلاء: (الذين هجروا الدين، ومالوا إلى الدنيا، واستخفوا بالآخرة، واتبعوا الهوى، وأفتوا بما أرادوا لا كما يراد، وأكلوا الرشوة، وضبطوا أوقاف المسلمين، وأبدلوا التعليم والتدريس والمطالعة الزيارات والاجتماعات والمدح والفساد والمداهنة والأكاذيب، يطلق عليهم مفدي لا مفتي...).
كان العسلي يكتب المقالة تلو الأخرى، يعري فيها بأسلوبه الشائق وفكره الديني المستنير، الأفكار الضالة والظلامية. ففي مقالة كتبها بعنوان (رؤية الهلال) قال: (لا تزال مسألة رؤية الهلال من أشكل المشكلات.. على أن علم الحساب والفنون الرياضية جعلت هذه المسألة من أسهل الأمور.... ولعل القراء يعلمون قصة الذين يشهدون لدى قاضي دمشق.. حباً بالبخشيش). ثم يستهجن العسلي، كيف ترفض شهادة علماء الفلك؟ (الذين يعلمون أن مطالع الهلال تختلف باختلاف الأقطار والبلدان). ويختم مقالته بالتساؤل التالي: (أنبقى على جمودنا؟ أم نكون من الذين يستمعون القول، فينتقون أحسنه؟).
رابعاً - دعوته إلى العلم والمعرفة
اقتنع العسلي بأن تغيير الواقع لا يتم بالخطابات وبالشعارات، بل عبر البرامج الواضحة، والخطط القابلة للتنفيذ وبالعلم والمعرفة. وبعد أن طالب بجعل اللغة العربية لغة التعليم بدلاً من التركية، نادى:
1 ً- بتشكيل هيئة من أهل العلم والخبرة، لتأليف الكتب المدرسية، ووضع برامج الدروس للمدارس. (وتخصيص مكافآت لمن يحرز قصب السبق في تأليف الكتب المدرسية، وأظن أن هذه تكون أحسن خدمة لمن أراد أن يخدم وطنه وأمته).
2 ً- بالاحتكام إلى العقل والحكمة والمنطق، لمعرفة (كيف ننهض بالناشئة). وطالب بتوحيد مناهج التعليم الابتدائي، والتعاون بين فئات الشعب، لافتتاح المدارس. فنراه يلح على دور الشعب في هذا المضمار قائلاً: (إن إدراك السوريين لجهة الكمال في التعليم والتعلم أمر طبيعي، لأنهم عرضة بهذا المقدار للمؤثرات المدنية). ويتابع: (وأصبح الشغل الشاغل للشعب الدمشقي النبيه النظر في العموميات وطلب الكمال على الرغم من كسل أولي الأمر).
3ً- ولا يخفى على قارئ مقالات العسلي بين عامي 1909 و1914 هاجسه الوطني النبيل، في الدعوة إلى بناء دور العلم من مكتبات ومدارس ونوادٍ، وإرسال البعثات إلى أوربا، لتنهل من العلوم الحديثة في جامعاتها.
كما كان يدعو إلى توسيع قاعدة التعليم في المجتمع، لتشمل الفتاة وأبناء الفقراء. معلناً دون مواربة رأيه التالي: (ولا يخفى أن الفقراء أذكى وأسعى من الأغنياء، فالسوريون قد نهضوا من رقادهم وأصبحوا يقدرون نعمة المعارف. وعمّا قريب نرى إخواننا الدمشقيين، أصبحوا عائلة واحدة. يتعاضدون في تأسيس المدارس، وتعليم أبناء الفقراء).
خامساً: موقفه من المرأة
لم يتهاون العسلي مع أعداء حرية المرأة ونهضتها، فألح على ضرورة تعليمها، وتثقيفها كضرورة اجتماعية ووطنية، لاستحالة السير في دروب النهضة بنصف المجتمع. مما يدل على عمق الطابع الإنساني والفكري لثقافته. وللإمساك بمرتكزات النهضة والتقدم الاجتماعي، رفض بقاءها (ألعوبة بيد الرجال). وسخر من رؤية الظالمين والجهلة القائلين: (إن تعليم المرأة مضر، والجهل داء العفاف).
ولم يكتف برفض هذه المفاهيم، بل كان يعلن بجرأة تثير الدهشة والإعجاب، بثقافته الرفيعة في ذلك الزمن: (إن انتظام الهيئة الاجتماعية مبني على ارتباط الجنسين وائتلاف الزوجين... والمرأة كالرجل في الحقوق والواجبات... ولو نظرنا إلى الجنسين من حيث الطبيعة البشرية، لتحققنا أن كلاً منهما مخلوق بشري بعين الصفات وعين الكمالات).
لقد كان العسلي، العارف بأحوال المجتمع ومدى تخلفه، يدرك صعوبة تكوين رأي عام، مؤيد لحقوق المرأة، لذلك نراه يستعين في دعواته التنويرية بالتراث وكتب التاريخ ليكشف ببراعة مدى تقدم المرأة العربية، في حقول العلم والثقافة والأدب. (فأسلافنا الكرام زينوا صحائف التاريخ بالفاضلات النادرات)، وجاء بأمثلة كثيرة... ثم يبادر إلى القول: _ جئت بمقالتي هذه، لأطيّب قلوب السيدات وأشوّقهن إلى التعلُّم.. (ومن ثمَّ يذكر عدداً ) من الدمشقيات اللواتي كنّ يجلسن للتدريس في الجوامع). وينتقل بعد ذلك إلى المقارنة بين ماضي العرب وحاضرهم، ليحرك العقول، وينيرها، ويحفز الهمم. قائلاً: (فلو قال أحد اليوم: علموا بناتكم ليقفن على منابر الخطابة بين أترابهن، ويعظن رفيقاتهن الجاهلات، ويمثلن لهن كمال النساء. لغضب عليه المدّعون بالعلم وقالوا إنه مارق).
مفهومه الفكري للصراعات الدولية:
تمكن شكري العسلي، المثقف الدؤوب والمتابع للشؤون السياسية المحلية والعالمية، تمكن من فهم وكشف جوهر الصراعات الدولية، القائمة على المصالح الاقتصادية أولاً. وذلك لتحقيق جملة من الأهداف منها:
- الاستحواذ على ما تملكه آسيا وإفريقيا من مواد أولية وثروات ضخمة.
- جعل أسواقها أسواقاً لتصريف بضائع الدول الرأسمالية ومنتجاتها.
- السيطرة على التجارة العالمية .
وقد وصف وحلل بإسهاب ودقة، هذه السياسة الاستعمارية والتنافس والصراع بين دولها...
هذه مقتطفات من أفكار الوطني النهضوي التنويري ابن دمشق الشام، وشهيد العروبة والكلمة الجريئة. ونرى أن العودة إلى منطلقات شكري العسلي، في هذا الزمن، أمر ضروري لاستنهاض العقول وتحريرها من التحجر والجمود، ومناهضة (أهل الرجعة) حسب تعبير الشيخ التنويري عبد الحميد الزهراوي، الذي نال كالعسلي شرف الاستشهاد في السادس من أيار 1916.
+ ملخّص البحث المقدم لندوة: (مداخل جديدة عن تاريخ سورية ماضياً وحاضراً برلين 7 و8 /6/2006). تكريماً للمؤرخ الدكتور عبد الله حنا.
د. فندي أبو فخر
النور- 257 (9/8/2006)
---------------------------------
عن موقع (النور)
صحيفة يصدرها الحزب الشيوعي السوري
http://www.an-nour.com/index.php?option=...&Itemid=33