عندما يكثر الناس ويتجمعوا على لا أساس، ينظم تجمعه تلقائيا غريزة البقاء متمثلة بالمظهر القطيعي.
والقطيع عادة كما وصفه الإمام علي عليه سلام الله، همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح.
ونقول أن هذا طبيعي، إذ إن الغريزة تعجز عن التحليق فوق الواقع لتراه كما هو، فضلا عن أن ترى غيره أفضل منه. ألا ترون كيف أن الجاموس في قطيع جواميس هائج لا يفكر إلا بكيف يبقى مع القطيع؟ ولو ألقى القطيع نفسه بالوادي!

وحين إرادة تغيير واقع الناس من منجتمع مبني على المظهر الغريزي القطيعي، لا بد من إيجاد فكرة أساسية تصلح أن تربط بها معالجات الحياة المختلفةضمن نسق معقول ومنظم. عندها ينسجم الناس مع هذه الفكرة، ويتأطرون بها طبيعيا، وتصبح نظرتهم للحياة ومعالجتهم لها متسقة بين أفراد المجتمع، فيحرك المجتمع من الوضع الغرائزي البحت، إلى الوضع العقلاني الذي يسعى تلقائيا إلى النمو والكمال.
ولا يمكن أن تفرض الفكرة الساس على الناس، بل لا بد أن تبرز من بينهم ومن بيئتهم وتعالج مشاكلهم، ويقتنعوا بها طبيعيا، أو يوجد لها رأي عام يتسم بالرضا بين أفراد المجتمع، غذ قل من يدرس فكرة حق دراستها ولو كانت لتنظيم حياته.
وتوجد الفكرة من ضمن بيئة المجتمع عند أفراد علا حسهم، ونضجت الملكة العقلية عندهم طبيعيا أو بالتعب والبحث والتنقيب، وتشكلت لديهم ملكة الاستشراف والتطلع إلى مستقبل في واقع غير المعاش، فضلا عن رؤيتهم المجتمع من خارج عيون القطيع.
وهذا مرهف الإحساس، إما أن يكتم ما وصل إليه، ويعيش مع الناس كأحدهم، يظهر خلاف ما يخفيه، حتى يموت كمدا وقهرا مما يعانيه من تناقض. أو أن يهرب إلى مجتمع قد يتقبل فكرته بخير مما يتقبله وطنه(لا كرامة لنبي في وطنه)، أو أن يبرز سيف الكلمة، ويجالد الناس ويتحداهم في كل ما يظنونه صوابا من غرائز قطيعية تجعل الشوافات* هي المسيطرة على العقل لا الأفكار، وتجعل الأمثلة الانحطاطية السخيفة هي المرجع لحياة الناس بدلا من أفكار النهضة، وخذوا مثال:
"حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس"
"إن لقيت ناس تعبد العجل حش واطعمه"
"المركب الماشي أعطيه دفشة"
"يللي بوخذ إمي بكون عمي"
"بوس الكلب على ثمه لتقضي حاجتك منه"
"الكف ما بتناطح المخرز"
"امش الحيط الحيط وقول يا رب الستيرة"
الله لا يستر على يللي قال هلأمثال، وريتها عليه نار وشحار بجاه العزيز الجبار.
ما علينا، نرجع لموضوعنا.

هناك ملاحظة قبل أن اختم، وهي الانبعاج الحاصل ضد الإسلام(السياسي) عند فريق ممن دعا إلى التلبس بالنهضة، فهؤلاء قد اتخذوا خصما غير موجود، وتركوا خصما آخر. ذلك أنهم مع إدراكهم(إن كانوا لا يدركون فالمصيبة أكبر) أن الإسلام كمشروع سياسي قد خرج أو أخرج من الساحة السياسية العملية مبكرا جدا. والموجودون في سدة الحكم أو الأنظمة القائمة لا علاقة لهم به أو لا علاقة له بهم. لذا فإن من نافلة القول ذكر أن التلهي بالبرامج التنظيرية لما يسمى بالحركات الإسلامية، وترك العمل الحقيقي بين الناس ومعها ضد الخصم الحقيقي والذي هو خلو الجماهير من الفكرة المؤثرة، إنما هو مضيعة لوقت من دعا للنهضة على أساس عالماني. بل وأزيد عليه قد يكون من أسباب الفشل المريب لديهم.

أما لماذا كان من أسباب الفشل، فهذه سأتركها إذا سألني أحدكم، لعلنا نشخص المرض سوية.