نعم صحيح

وهذا المنقول


قبل أربعة وتسعين عاماً، وفي مثل هذا اليوم، ولدت واحدة من أهم فنانات مصر، إنها تحية كاريوكا التي عاشت حياة مليئة بالحياة والفن والسياسة.. حياة خلدتها أيقونة ترمز لكل ما هو صادق وعفوي وحيوي.. واليوم نحتفي نحن بعيد ميلادها الرابع والتسعين ليس فقط لأنها الفنانة تحية كاريوكا.. ولكن لأنها أحد أهم الأشخاص الذين جسدت حيواتهم جزءا كبيرا ومهما من تاريخ مصر الحديث.. وليسمح لنا المفكر الكبير الراحل إدوارد سعيد بأن نستعير عنوان مقاله عنها «تحية إلي تحية».


جسد من خيال شاهق، يقارب المعجزة، يوحي بالعطاء لكنه لايفعل، جسد مراوغ، سيوحي إليك بأنه يعطيك كل شيء، لكنك تكتشف أنك لم تأخذ، أنت فقط وقفت علي حجرة باب موصد تختبيء خلفه آلاف الأسرار.

جسد يعي كبرياءه، ولايخجل من عريه، موهبة تحية كاريوكا الحقيقية لم تكمن في جسدها المعجز، لكن في إدراكها الخاص به، ترقص بعينين ضاحكتين، تتحدي سكر الجالسين في كازينو بديعة، تمنح عريها الهيبة وتثنيها خشوعا، وفي واقعة شهيرة، جلس أحد الأشخاص علي طاولته في كازينو بديعة، بهرته رقصة تحية، لكنه أخطأ عندما استهزأ بتقديرها لما تمنحه فتطاول عليها، فصفعته وعندما نهرها الأصدقاء قائلين: "هذا أمير من الأسرة المالكة " فردت متحدية " وأنا رقاصة من الأسرة الراقصة: " وانصرفت في ثقة فقد كانت تري أن للرقص مكانة لاتقل عن أي مهنة.

تحية التي بدأت حياتها بتحدي القهر،بالهرب من والدها السعودي المزواج الذي أراد إجبارها علي خدمة زوجته الأجنبية، كانت رمزاً لمجتمع كامل يمارس سلطة القهر علي نسائه،تبرع أحدهم بثمن تذكرة القطار لتسافر تحية من الإسماعيلية إلي القاهرة لتكتشفها محاسن لتطلق عليها اسم "تحية " بدلا من اسمها الأصلي " بدوية محمد كريم " ثم أنها كانت الراقصة الوحيدة التي تعلمت الرقصة البرازيلية " كاريوكا " ليكتمل الاسم الأسطورة " تحية كاريوكا "

بدأت نجومية تحية كاريوكا في الصعود بشكل سريع منذ عام 1940 معتمدة علي إعادة إنتاج هارمونية الرقص الشرقي وكان بداية أفلامها السينمائية فيلم "لعبة الست" مع نجيب الريحاني، والذي دشن نجوميتها كراقصة تجيد التمثيل بنضج لم تعرفه السينما المصرية من قبل فتوالت عليها العروض لتقدم في الأربعينيات "أفلام ابن للإيجار وعاشق الروح وعلي كيفك"، وقد وصفها أحد المتخصصين بأنها ترقص كأنها تمارس الرسم.

الراقصة التي رقصت للملك فاروق في عابدين علي أنغام "غنيلي شوي شوي لأم كلثوم " ورقصت له في الأوبرج لم تكن مجرد راقصة عادية بل كانت قريبة من المثقفين والسياسيين وعندما جاءت الثورة قالت تحية جملتها الشهيرة " ذهب فاروق وهايجي بعده فواريق" في إشارة إلي استمرارية الاستبداد السياسي وهي الجملة التي دفعت ثمنها 100يوم حبسا بعد أن اتهمت مع زوجها مصطفي كمال صدقي بالانخراط في تنظيم سياسي يساري معاد للثورة فأودعت تحية كاريوكا في سجن الاستئناف، وعندما تردد عليها المخرج حلمي رفلة لزيارتها تم القبض عليه

وكان صلاح حافظ الصحفي الكبير مطاردا من المباحث العامة في الخمسينات لانتمائه اليساري فخبأته تحية كاريوكا في بيتها في مخبأ سري، يروي صلاح حافظ لعادل حمودة قائلا : وقعت في هوي تحية ودفعني ذلك إلي طلب يدها لكنها ابتسمت لي ابتسامتها الساحرة وهي تقول : اذهب يابني إلي أصحابك، الدنيا أمامك، لاتلتفت إلي الوراء.

وفي بدايات عبد الحليم كانت تحية كاريوكا تعمل في نفس المسرح بجواره وعندما غني أغنية لم تعجب الجمهور قام بقذفه بالطماطم فنهره صاحب المسرح وهدده بالطرد، لكن تحية صرخت في وجههه قائلة " لو عبد الحليم خرج هاخرج معاه " فاكتفي صاحب المسرح بالصمت، ثم أعطت عبدالحليم نقودا ليشتري «بدلة جديدة» بعد أن أتلف الجمهور «بدلته» بالطماطم.

لعبت تحية دورا في مناهضة الاحتلال الأجنبي والمقاومة الشعبية بالإسماعيلية وتعاطفت مع محمد نجيب في التوترات التي مرت بها علاقته مع جمال عبد الناصر وتدربت علي حمل السلاح واستعماله في 56 أثناء العدوان الثلاثي وكانت تحمل السلاح إلي الفدائيين وجمعت تبرعات عديدة للفلسطينيين.

تزوجت تحية كاريوكا 13 مرة أولاها من انطون عيسي ثم تزوجت ستة أشهر فقط من ثري مصري يدعي محمد سلطان ثم من ضابط أمريكي يدعي جلبرت ليفي والذي أسلم من أجلها ثم المخرج فطين عبد الوهاب ثم أحمد سالم الذي انفصلت عنه لعلاقته مع أسمهان ثم رشدي أباظة لمدة 3 سنوات ثم مصطفي كامل صدقي والمطرب محمد فؤاد وعبد الله الخاد وأحمد ذو الفقار ثم حسن عاكف وأخيرا تزوجت من فايز حلاوة الذي استمر ارتباطها به 23 عاما وكونت معه فرقة مسرحية قدمت ما يسمي الكباريه السياسي وقدمت 18 مسرحية منها "حضرة صاحب العمارة- يحيا الوفد- شفيقة القبطية" وهي مسرحيات ناقشت العلاقة بين المواطن والسلطة في إطار نقدي ساخر، وكانت تحية تقول عن زيجاتها المتعددة " الراجل اللي يعجبني كنت بتجوزه لأني ماكانش ممكن أسلم له جسمي من غير جواز".

كانت تحية كاريوكا قارئة نهمة وكان في بيتها مكتبة ضخمة لم تكن للديكور، بل كانت مليئة بأسماء كبار الكتاب المصريين والعالميين.

في عرض فيلم شباب امرأة في مهرجان "كان" سحبت تحية البساط من تحت قدمي نجمات هوليوود عندما ارتدت «الملاية اللف» لترمز إلي الفتاة الشعبية المصرية فتسابقت عدسات المصورين لالتقاط صور لها.

وفي المهرجان نفسه تلفظت "سوزان هيوارد " بألفاظ مسيئة لمصر والعرب، فانقلبت تحية كاريوكا من المرأة المرحة إلي امرأة أخري لتتشاجر مع سوزان هيوارت التي فرت هاربة.

في الخمسين قررت تحية كاريوكا اعتزال الرقص، تخلي عنها جمال جسدها، الذي تميز بالتناسق والطول، لكن نجوميتها لم تتخل عنها، لأن وجهها ظل مليئا بالسحر والطيبة، فقدمت أدوارا أكثر جمالا ونضجا كأم العروسة ودور الأم في خلّي بالك من زوزو فأثبتت أن موهبتها في التمثيل لا تقل بأي حال من الأحوال عن موهبتها في الرقص بل رغم تقدم عمرها شاركت في إضراب نقابة المهن الفنية وأضربت عن الطعام رغم تدهور صحتها.

المنعطفات في حياة تحية كاريوكا تحكي مراحل تاريخ تطور مصر في 50 عاما كما يقول د.جلال أمين