حسيب كيالي وأدب النكتة
طباعة أرسل لصديق
خطيب بدلة- البعث
30/ 05/ 2010
اتصل بي محرر شاب يعمل في أحد المواقع الإلكترونية، وطلب مني، بتهذيب حقيقي، أن أرسل إليه موضوعاً عن (حسيب كيالي وأدب النكتة)، فاستجبت له، وأرسلت إليه مقالة طويلة عن الموضوع المطلوب، معتقداً أنه سينشرها كما هي، وإذا به ينشر، بعد أيام، ما يشبه التحقيق الصحفي، مقتطفاً من مقالتي بعض العبارات، بعد أن فهمها على نحو معكوس تماماً!
ومما نشره، حرفياً، على سبيل المثال:
(لقد أبدع الراحل حسيب كيالي في فن النكتة، وعن ذلك يحدثنا الأديب "خطيب بدلة" فيقول: كان أستاذُنا حسيب كيّالي يعتبرُ نفسَه مجردَ كاتب يبحث عن النكتة!)
وورد في المقالة أيضاً مقتطَفٌ منسوب إلى أحد الزملاء الأدباء يقول ما معناه إن حسيب كيالي كان يعتز بلقب "حكواتي".. ويرى فيه مرتبة فنية لا تقل عن شهادة دكتوراه فخرية!
الحقيقة أن هذا الشاب الطموح لديه نوايا حسنة جداً تجاه حسيب كيالي، ولكنه، وعلى الرغم من هذه النوايا، قدم لنا تحقيقاً صحفياً على قدر كبير من السوء. وفي الوقت نفسه وضع أمامنا قضية أدبية إشكالية تستحق المناقشة.
تبدأ هذه الإشكالية من السؤال التالي:
- هل تصلح النكتة موضوعاً للأدب؟ وهل يوجد شيء اسمه "أدب النكتة"؟
لقد ألف الباحث الفذ الراحل بو علي ياسين كتاباً يحمل عنوان "أدب النكتة في سورية" أورد فيه عدداً لا يستهان به من النكات المتداولة في سورية وقد استخرجها من صفحات المجلات والضاحكة، ومن الكتب، إضافة إلى نكات سماعية مما يتداوله الناس في مجالسهم. وفيما بعد أعد كتاباً قريباً في محتواه من كتاب أدب النكتة أسماه "شمسات شباطية- ديوان المفارقات العربية المعاصرة".. يضم حوالي خمسمئة طرفة معاصرة.
ومع ذلك فإنه لا يمكننا أن نتحدث عن أدب اسمه "أدب النكتة".. ولعل أول من نبه إلى ذلك هو المرحوم حسيب كيالي نفسه الذي كتب إلي في إحدى رسائله يراهنني على أن نكتة ما، تسمعها صباح هذا اليوم في إدلب، تسمعها، مساءً، في الدار البيضاء بمراكش، والعكس صحيح!.. ولهذا فإن النكتة المحفوظة ليس لها- برأيه- أية قيمة أدبية أو إبداعية.
إن العدو رقم واحد للنكتة، الذي يمنعها من أن تنتمي للأدب، بحسب رأي حسيب كيالي، هو الشيوع. بمعنى آخر: إذا أراد كاتبٌ ما أن يكتب قصة قصيرة قوامها النكتة سيصطدم بكون المتلقي يعرفُها، ويعرف تفاصيلها، ويعرف قفلتها، وبالتالي فإن الكاتب الذي صاغها أدبياً سوف يخسر عنصر المفاجأة منذ الكلمة الأولى والسطر الأول في قصته، وسيكون عمله ضرباً من ضروب (علك الهواء)!
بيد أن الحديث عن استخدام مصطلح أدب النكتة في بعض الأحيان يُقصد به شيء آخر هو الطرافة، والسخرية الفنية الرائعة، والإمتاع، والمؤانسة، وهذا بالضبط ما قصده الأديب الراحل سعيد حورانية حينما تحدث (في حوار لمجلة دراسات اشتراكية سنة 1987) ينتقد نفسَه وأبناءَ جيله من الأدباء الذين كانوا متجهمين ومتخمين بالآيديولوجية، فقال:
"كنا نبحث عن قصة تزن أربع قنابل ذرية، وأما حسيب كيالي فكان يتابع تفاصيل الحياة اليومية بحثاً عن النكتة"!
ما حصل هو أنني أرسلت إلى الأستاذ حسيب كيالي الذي كان يقيم في دبي نسخة فوتوكوبي من هذا الحوار، فأجابني في أول رسالة قادمة يقول مستنكراً:
-"الله يعطي العافية لأخي وصديقي سعيد حورانية، أأنا مجرد كاتب يبحث عن النكتة"؟!
نصل هنا إلى البند الآخر الذي ورد في مقالة الشاب الطموح، وهو القول بأن حسيب كان يعتز بلقب حكواتي.. ويعتبره بمنزلة الدكتوراه الفخرية.
(ملاحظة عابرة: حسيب كان يسخر من حملة الدكتوراة الفخرية التي لا تقوم على العلم ويسمي الواحد منهم دال نقطة!).
أقول: يا سيدي الكريم، حسيب كيالي أبعد ما يكون عن مفهوم (الحكواتي)، فهو قاص حداثي لا يشق له غبار، وهو من كبار المجددين في القصة السورية، يتجلى تجديده في أمور عديدة، أولها اللغة التي ابتكرها بنفسه وتقوم على كتابة الفصيحة بمنطق العامية، وتعمتد على استخدام الكلمات أو التراكيب الفصيحة التي هجرها الأدباء الآخرون لاعتقادهم بأنها عامية..
مثال. تقول العامة: الله يجيب العواقب سليمة.
وهي عبارة، في لغة حسيب كيالي، فصيحة، ويمكن إعرابُها كما يأتي: الله (مبتدأ) يجي (أصلها يجيء، فعل مضارع، ويجوز في الكلام الفصيح تخفيف الهمزة) بالعواقب (جار ومجرور) سليمة (حال منصوبة).
الأمر المهم الثاني عند حسيب هو واقعيته، وبحثه، كما ذكر لي في حوار أجريته معه سنة 1989، عن الجانب الملحمي في حياة الناس البسطاء التي يرى فيها ما هو أعظم من أخيل وزيوس وأغاممنون وكل الملاحم التي تمجد الأبطال العظماء،.. والثالث صدقه الفني وإخلاصه للوطن والشعب.. بدليل ما قاله في الحوار نفسه:
(أؤثر أن أموت مغموراً مثل عصافير فرنسوا كوبييه على أن أقول ما لا أعتقده حقيقة).
القصة العظيمة، برأي حسيب كيالي- لاحظوا هذا التشبيه الرائع- كالنبع، تنظر إلى سطح الماء فترى الحصى يتلألأ في قاعه، وتحسب أن القاع قريباً من متناول يدك.. وأنت تمد يدك لتأخذ بعض الحصى، فتفاجأ بأن القاع بعيد جداً!