(7)

"إدمان رَقَمي"

لم يعد يحتمل صوت المنبّه. لقد إحتمله لدقائق على حساب إستجداء حلم كي يعود، لكنه لم يعد يحتمل مطارق المنبّه بجمجمته. فتح فيسي عينيه بتعب، كأنه لم ينم لعشر ساعات، و رفس الغطاء عنه و سار بسرواله الأحمر نحو الحمام. وقف أمام المرآة بعيون نصف مغلقة و ساوره شعور بأن هناك رمل يَجرَح عينيه. تأمل بطنه المفلطحة كأنه يكتشفها لأول مرّة، ثم فطُنَ للون سرواله الذي يستنكف الشباب من إعتماده كلون لسراويلهم. أحمر؟ اللعنة، أحمر؟ فكر لذاته بسخرية ثم عاد يفكر ببطنه الأشبه بظهر سلحفاة كبيرة. فكر بأنه يحتاج للتمرين إلا أن الفكرة زاولته فورا وسط ذكريات مرعبة، و شعر بأن مؤخرته تتهاوى ذلا فجلس على المرحاض بصمت مُنكسِر. قرر أن يستحم و لكنه لم يعد متحمسا للحمام بعد نفاد صابون الشعر الأجنبي، و عليه الآن أن يستخدم "شامبو سيم" الأجرب. زفر بضيق ثم بدأ يستحم بينما تهادى لمسمعه صراخ أمه على أخيه الأصغر بغرفته كي يستفيق. و فور إنتهائه و بدئه بالتنشيف سمع طرقات قاسية على الباب و صوت والده الجاف المُختنق، كأنه يتكلم و دخان سيجارته بفمه، طالبا منه الخروج. لقد إعتاد أن يوقّت له الأب حمامه، إذ أنه لا يتجاوز الخمسِ دقائق. لم يكن السبب عصيّا على الفهم. جلس خلف مكتبه المتهالك و فتح حاسوبه بشوق متوجها للمنتدى الأليكتروني. بدأ يقرأ "جديد المنتدى" بسرعة و قد أستوقفته عناوين "مهمة". قرر أن يبدأ بقراءة ثلاثة مواضيع قبل تناوله فطوره، و كنّ "لماذا لا تأكل البطاريق الدببة؟" و "سوريا رومانيّة" و "كنت بالسوق فغازلتني الشحّاذة فضربتها برأس الخس". حك رأسه و بدأ بقراءة موضوع رومانية سوريا و لفت إنتباهه كلام كاتبه: "سوريا بلد روماني لأنو الرومان بنو بسوريا بس العرب ما بنو و بالتالي فهي من حق الرومان و يجب طرد و قتل العرب كلهم و إعتماد الأنقليزية كلغة رسمية و نشر الدين المسيحي".

هزّ رأسه متفهما و متفقا و لكنه إستغرب القاف لكلمة إنكليزية و أستبعد "الحمرنة" عن كاتبها لكونه قد كتب "الدُرر" التي قرأها بالموضوع. قرأ أكثر بالموضوع و أكتشف ردا لغريمه القومي الكريه الذي ظهر و كأنه يسخر، كعادته، من صاحب الموضوع. لم يكن يطيقه لعشرات الأسباب، فلجانب أفكاره اللعينة المقرفة فإن فيسي لا يطيق تكبّر الأخير و تعاليه بمحاورته مع الأغلبية. من يظن نفسه؟ عبقري؟ هه، صرماية عتيقة أحسن. قالها ضاحكا و كتب ردّا لذاك العروبي، ثم مضى ليشرب الشاي. هناك حدثته والدته عن ضرورة تزلفه أكثر لسرحان بغية نيل عمل ما، فقبل على مضض و عاد ليكتشف أن العروبي قد وضع ردّا عليه. كان ردّا أشبه بصفعة. لم يصدق أولا نوع المعلومات التي أوردها العروبي، و لكنها بدت منطقية جدا. ثم أنه أعاد قراءة السُخرية و الإستهزاء بآخر الرد مع نصيحة الكاتب له بأن يتثقف أو يعمل ماسحا للأحذية من الطراز العاشر، مخافة أن يكون هناك ماسح أحذية مثقف و أهل للإحترام. إشتعل سخطا و أرسل ردا كله شتائم للعروبي، ثم إرتدى ملابسه و خرج للشارع. مرّ أمام "فلافل أبو فايز" بقرف، لكنه تذكّر طعم الفلافل المقلي مع البقدونس و الثوم، و الملفوف بشطيرة خبز مصنوع مع الحليب و بها المخلل الزهري، الطماطم، الخس، اللبن، الطحينية، الفلفل الأحمر بمرقته، و قليل من المسبّحة. كل هذا مع كأس شاي حلو و ذو نكهة لا ترحم بسحرها. تحلّب فمه و قرر شراء شطيرة، ثم أنه جلس يأكلها بهمهمات حيوانية حتى أتى عليها كلها. مرّ قربه ماسح أحذية من عمره فناداه. كان الشاب ينتظر أوامرا له بالعمل، إلا أن فيسي رمقه بضيق و سأله عن مرحلته الدراسية. فقال بأنه أنهى الأول الإعدادي و ترك الدراسة بعدها. أبتسم فيسي ثم سأله عن ثقافته، فأجابه الماسح بسؤال آخر: خيو.. بدك تمسحو لصباطك و لا شو؟ خلصني عاد.. اشو جايَ تحقق معي و لّا تعمل لقاء صحفي يا بخشوان؟ إرتجف فيسي من الإهانة و قال بتعالي: لك باب يسد ما يرد.. هذا فوق ما عم بعملك قيمة و احكي معك؟ رمقه الماسح للحظة ثم تمتم بهدوء: سيدي.. شغلتك فارطة و خلينا نتسبب.. يا عزيــــــــــز.. ألف ليرة إنكليــــــــــــز. تبسم فيسي بسخرية و فكر بأنه سطحي لدرجة أنه تأثر بشخصية أبو غالب من مسلسل "باب الحارة". كان سيتركه يمضي بلا كلام إلا أنه قال: خليك هيك لأنو أبو غالب بيكون أشرف من العكيد أبو شهاب. إلتفت له الماسح بسخط و أبتدره بصفعة، ثم وضع الصباغ على فرشاته بخفة و صبغ وجه و ملابس فيسي. حاول فيسي النهوض فرفسه الماسح ثم ألوى هاربا بعد أن أتى من يريد تخليص فيسي منه. عاد فيسي لمنزله على هذه الحالة، و من بعيد سمع ضحكات بعض الساخرين و عفاطهم. فتح المنتدى، تجاهل العروبي، و كتب مؤكدا: سوريا رومانيّة و الموت للعرب الذين لم يبنوا شيئا.

تابع

(8)

"مازوخية متحضّرة"

حسنا، أنه اليوم الرابع و الستين و مازال قيد منزله معتاشا على الخيار و اللبن و قليل من الخبز. نظر فيسي لجسده على المرآة فألفى هيكلا عظميا أثار إعجابه. فتح خزانته ليرى العشرين ألف ليرة للمرة العاشرة لهذا اليوم، ثم أغمض عينيه و أرخى مؤخرته بسلام إلتقت به الروح بالمؤخرة لأول مرّة. كان سرحان قد ثمل أخيرا بلا حساب و كافأه بمبلغ سخي قبل مضيه للإمارات، و الآن سيمضي للقصاع كي يبتاع ملابسا تليق به. سار أولا بشارع الناصِرة متمهلا و هو يتأمل الحسناوات على ضفتيه، ثم أنه أبتاع ما يحتاجه و ركب أجرة لمنطقة القصور حيث حديقة ابن الهيثم. كانت الحديقة تصدح بلحن غيتار سبعيني لسانتانا مما أثار إرتياحه أكثر و تمشى بدلال مريح. هناك، رمق شاب يتبول على شجرة. تأمله الشاب و فسّر موقفه بينما يغلق سحاب بنطاله: أنا صديق البيئة. ابتسم فيسي بدهشة و قال لا أراديا: بالشخاخ؟ إنتفض الشاب بدافع الكرامة قائلا بترفّع: طبعا بالشخاخ.. لك شو أنتة مستحقر الشخاخ يا ديني؟ إمتقع وجه فيسي للإتهام الخطير و أراد الدفاع عن نفسه، و لكن الأخير لم يمهله بل أكمل هجومه: نعم الشخاخ به أملاح معدنية و لازم نستغله بالسقاية حتى يبقى عالمنا أخضر و جميل. شعر فيسي بأنه أمام عملاق حقيقي و أراد أن يمتدحه، إلا أنه لم يقل سوى شطر بيت فصيح: بورِكت أيدٍ صنعت مجد. نظر له الشخاخ بشزر واضح و قال: تضرب شو لوح و عم تحكي لغة المحتلين كمان؟ بصق عليه رمزيا و مضى. بقي فيسي مكانه محاولا الفهم، ثم أنه ركض بسرعة للشارع راكبا أول أجرة، و متجها لمكان يعرفه.

توقفت السيارة قرب مكتب طبي قرب حديقة الأرسوزي و قفز من السيارة مع أكياسه، بينما سمع صاحب الأجرة يعلّق: هدّي يا مصدّي. لم يلتفت له عند صعوده لمكتب الطبيب النفسي. كانت الردهة الأولى هي غرفة الإنتظار أيضا، و خلف مكتبها جلست سكرتيرة شابة من عمره. كانت عاجية البشرة بفم ناري مدوّر و أسنان صغيرة تبرز كلما لاكت علكها الزهري. نظاراتها شفافة الإطار و نظرتها هادئة. حاول أن يحييها إلا أنها أخذت إتصالا سريعا و أوقفته بإشارة واحدة من إصبعها الشفاف الصغير. إبتسم بهدوء و عندما أرادت أن تغلق الهاتف قالت بجفاء لمحدثها: هذا كل اللي عندي و إذا ما عجبك فبحفظ صرمايتي. ثم أغلقت الهاتف بقوة و نظرت له و نهرته: شو بدّك؟ تلعثم و أراد أن يحييها و يفسر لها سبب قدومه و يروي لها إعجابه بذات الوقت، فقال: "صباح الصرمايـ.. قصدي الخير و أنا..." فقاطعته بجفاء: صباح الصرامي كلّياتها من الخليج للمحيط.. شو بدك من على دين هالصبح؟ بلع ريقه بصعوبه و أوضح: الطبيب آلكسيان هواويني موجود؟ لم تجبه بل فتحت له الباب، و لما دلف كان الطبيب قد جلس لتوه خلف مكتبه. أصلع، بدين، حليق الوجه، و صوت تنفسه مسموع من أنفه. "أهلا أهلا يا ابني.. تفضل تفضل". جلس فيسي على كرسي طويل المسند و قال متفجعا: "أنا مازوخي يا دكتور". وضع الطبيب القلم بسخط و قال بصوت عامل باطون: "أيوااا.. شو يا خال صايرلي خبير؟ لشو جايني لكان حبيبي؟ ها؟ لشوووو؟". مسح فيسي دموعه المتأثرة إستعدادا لروي قصته و بدأ يقص عليه حياته التي لا تخلو من إهانة أو ضرب بشكل يومي. ثم تحدث عن أحلامه، عن أفكاره المعادية للمجتمع، كرهه للعرب و المسلمين، عن رغباته المادية القميئة و عن شهواته و أفكاره الأليكترونية. أراد أن يكمل إلا أنه سمع صوت ملعقة الشاي و هي تدور لاهثة داخل قدح الطبيب. "عمّا تعمل شاي"؟ سأله فيسي مستنكرا بينما عاد الآخر متجاهلا السؤال، جالسا بشكل محترم و ملقيا لجملته القاصمة: "يا أبني أنته مريض بالمازوخية". صرخ فيسي: "لك شو عم ناكل خرا من الصبح؟" نظر له الطبيب بقرف ثم خلع نظارته و أعطاه نظرة مجازها أن "كيف تجرؤ يا شلِك". نهض و كتب "راشيته" بخطوط غامضة و قال بتعالي: "حبتين كل يوم بعد الأكل.. وحدة الصبح و التانية المسا.. و من تطلع إدفعلك ستميت ليرة للجلسة". شكره فيسي بمذلة ثم حكّ مؤخرته و تذكر أنه سهى عمدا (بلا إرادية) أمر مايز، إلا أنه لم ينبس بكلمة. كانت السكرتيرة تمازح شاب يعمل بمحل تسجيلات مجاور، و لقد غاظه الأمر بشدة. القى المال على الطاولة و خرج بعنف فسمع الشاب يتمتم: باب يسدّ ما يرد. عندما أشترى الدواء من الصيدلية و أخذ حبة العلاج الأولى، شعر بأنه يتقيأ أفكاره و أنه لا يجد السطل المناسب. هرع للمنتدى الذي يزاول الكتابة به و كتب مواضيع "مهمة" كثيرة. أحدها كان ببساطة على إنقراض وحيد القرن. أكد له عضو أن الحيوان "المومأ" إليه لم ينقرض بعد، إلا أن فيسي أصرَّ على أنه أنقرض، و أن سبب جهلنا بالأمر يعود لسيطرة العروبة و الإسلام علينا. ثم أكدّ الأمر بالكلمة "علينا". دخل حليف له و ناصره بأمر وحيد القرن و أشار (بذكاء) "لحقيقة" أن الدجاج على وشك الإنقراض أيضا، و أن اللحم ضروري و لذا يجب أن نعتاش على الخنازير فقط. لكن، أكدّ النصير غاضبا، العروبة و الإسلام سوف تقف عرضة بوجه ذوقنا الخنزيري مما سيدفعنا لأكل الطيور أكثر، و لا عزاء للدجاج. دخل عضو ثالث متحمس و قال مؤكدا بلغة "حوزويّة" ورعة: الحقيقة أن العروبة و الإسلام ليستا ما يقف بوجه تعويض الدجاج فحسب، بل كل فكر "مؤدلج" أو "أدلوجي" كما يؤكد عضو رابع غير موجود الآن. أخيرا، دخلت عضوة متفجعة أن أكل الدجاج على قدم و ساق و أننا أمة لا شفاء منها أو دواء لها، فنحن مازلنا نلتهم الدجاج و لن نغيّر للخنازير و بهذا فإننا أعداء للبيئة. شكر ردودهم بحرارة و نزل لأكل شطيرة شاورما من "أبو مستو".

شكرا للمتابعة

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	تجربة أولى لميترو دمشق...	بسام الخوري	1	1,130	03-06-2011, 02:46 PM آخر رد: بسام الخوري
	Communislamic's الشيوعإسلامية " نقد ساخر"	caveman	15	3,635	10-16-2008, 12:08 PM آخر رد: caveman
	مغامرات سيستاني في جزائر الحرب الاهلية	سيستاني	14	3,785	08-18-2008, 01:31 PM آخر رد: Jugurtha
	محمد حمشو .. "سوبرمان" الاقتصاد!!	بسام الخوري	2	2,598	08-19-2007, 08:32 PM آخر رد: ماجن
	مواطن "سعودي" يقاضي نفر من الجن .....أنصفوا الرجل يا علماء النكاح	arfan	1	1,409	06-09-2007, 07:06 PM آخر رد: arfan