http://www.arabicstory.net/index.php?p=author&aid=259
i like all story from this woman
جائع التبغ ... بقلم : نجوى نجاتي النابلسي
مساهمات القراء
شارك
الساعة قرابة الثانية عشر ظهراً، انتهى الدوام الصباحي في المدرسة .. وبحركات سريعة أعاد الصبي دفاتره وكتبه إلى الحقيبة .. حملها على ظهره ولباسه الخاكي يبدو قصيراً لطول قامته .. صبي لم يتجاوز العاشرة أو ربما تجاوزها بقليل.. حث الخطى إلى منزله واتخذ طريقاً ترابية عفرت قدميه ..
وأخذ يضرب الحصى الصغيرة وهو يسير .. شعره الفاحم قد طال والمدرس أنّبه اليوم بشدة.. لا بأس في أول الشهر مـر بالمقبرة الصغيرة فوق التل وتوقف قليلا ليقرأ الفاتحة لجده الذي رحل منذ مدة وتذكر جنازته .. بضعة رجال يحملون نعشاً عارياً مطأطئ الرؤوس بلا حزن فالجد كان كبيراً ومريضاً منذ مدة .. تابع سيره متذكراً تجاعيد الجد المتراكبة فوق وجهه وعينيه المنطفئتين ويديه المرتجفتين .. جلده الجاف وكفيه المعروقتين وتذكر كلمات والدته ( ارتاح) تراه استراح فعلاً الآن ؟.. من يدري لم يعد أحد من ذلك المجهول .. تنهد.. لابد أنه استراح على الأقل من طلباته التي لا تنفذ.. وصل المنزل .. منزل ذو باب ونوافذ ، منفرد كأكثر البيوت في هذه المنطقة.. قوالب الجص ظاهرة فيه لم تطلَ ونوافذه حديدية.. نادى بصوت طفولي.. أماه لقد عدت .. لم يتلق رداً، بحث بعينيه عن أخته وأمه .. أخته نائمة على فراش مهترىء أيقظها بحركة فظة.. أين أمي؟ أجابت لا أدري لعلها خرجت تبتاع شيئاً للطعام . إذاً لا طعام جاهز بعد .. أحس بالجوع فتوجه إلى الركن المستخدم للطبخ ورفع غطاء أحد الأوعية .. تناول شيئاً بارداً منها وابتلعه .. ثم مزه .. لم يكن جيد المذاق.. أزاح الحقيبة عن كتفه ورمى بلباسه المدرسيّ فوق الكرسي.. وبقدمه سحب صندوقاً تحته وأخرج منه علبة كرتونية عدّ ما فيها من علب التبغ حملها ومضى …. غادر المنزل واتجه نحو الشارع الرئيسي..
دخان .. دخان .. كان ينادي .. والمارة من حوله بين لا مبال ولا مستمع .. حث الخطى إلى حيث تقوده قدماه .. وبين الفينة والأخرى كان ينادي .. دخان .. مالبورو.. دخان.. بعض العلب بين يديه وبعضها مندس تحت قميصه.. لا بد أن يعود مبكراً اليوم فالامتحانات على الأبواب وهو لا يريد الرسوب هذا العام يجب أن يجتاز المرحلة الابتدائية .. في العام القادم سيصبح في المرحلة الإعدادية.. ذلك رائع سأصبح شاباً قريباً .. سأدرس لن أكسل عن الدراسة ربما.. ربما استطعت أن أكون شيئاً محترماً غداً.. مدّرساً أو مهندساً أو ربما طبيباً .. من يدري.. لن أكسل عن متابعة دراستي.. رغم تقصيري الآن .. ولكني لا أريد أن أبقى هكذا.. هكذا مثل والدي.. والدي حلم طويلاً أن يكون شيئاً محترماً ولكنه لم يستطع .. قال لي جدي مرة أنه أراد أن يكون شيئاً وقد حاول ولكنه اضطر للعمل لمساعدته بعد أن أقعده المرض.. ومع ذلك لم يفقد تفاؤله وتعلم الحدادة وعمل بها.. لكنه لم يستطع أن يمتلك محلاً.. بقي عاملاً في محل يقبض راتباً صغيرا ودائماً كان يحلم أنه سيستطيع أن يمتلك يوما ما أراد .. ثم أحب والدتك ( هكذا قال جدي) كانت تقطن المنزل المجاور .. صبية حلوة.. أحبها وأراد الزواج منها .. وحلم أنه سيصبح يوماً معلماً في محل خاص به وأنه سيغادر هذا الحي الفقير ويبني معها عائلته الصغيرة .. وحلمت معه أن يتحقق هذا الحلم .. وسنة وراء سنة أدركت أمك أن هذا الحلم لن يتحقق.
ابتعد الصبي عن المنزل كثيراً .. ولكنه لم يخف .. فهو يعلم جيداً هذه الدروب وكيف يعود منها .. اشتدت الشمس وبدأ العرق يتصبب منه.. لم تنفذ بعد علب التبغ كلها.. بين الحين والآخر كان يتوقف ليبيع علبة إلى عابر ما.. ويقبض ثمنها ثم يدسه في جيب سرواله ويتحسسها بين الحين والآخر خوفاً أن تضيع منه.. هذه الليرات القليلة ستشتري لنا بعض الطعام وحين أعود مساء ستفرح أمي بها .. لا لن تفرح .. أعلم أنها لن تفرح فهي لم تفرح من زمن بعيد .. بل لم أرها فرحة أبداً .. السخط كان دائماً في عينيها ليتني أستطيع إسعادها ولو قليلاً .. إن نجحت في بيع كل ما معي سأشتري لها تفاحاً فهي تحب التفاح مسكينة أمي.. كثيراً ما سمعتها في الليل تكتم بكائها فأنكمش في سريري.. وأنا أسمع صوت أبي يصرخ بها : أخرجي ما معك من مال .. لعبة واحدة فقط سأضرب بها وأعود والمال كثير بين يديّ.. وكانت تعلم أنه سيخسره كما يحدث دائماً.. وأنها ستضطر حينها للخروج بحثاً عن بيت تنظفه وتتلقى منه بعض المال والطعام.. ولكنها مع ذلك تخرج ما معها من مال وتقدمه له.. لماذا لا أدري .. هل تخافه كما أخافه أنا .. لا شك في ذلك فهو رجل قوي وهي امرأة ضعيفة كما أنه قاسٍ معها .. ليس قاسٍ بل مسكين هو أيضاً.. كان يحلم بالسعادة والثراء وعاماً بعد عام كان يعمل بكد دون فائدة.. فالراتب الذي كان يتقاضاه قليل دوماً.. وكل شيء غال .. هكذا سمعه مرة يقول لجده .. كل الأسعار ترتفع دوماً وما كنت قادراً على توفيره لم أعد بعد الآن قادر عليه .. مسكين أبي .. لقد يأس من تحقيق أحلامه وأدرك أنه لا فائدة من الكد والتعب وأنه سيبقى هكذا فقيراً يقطن غرفة واحدة مع زوجه وأبيه وطفليه .. ولذلك أصبح يخرج كل يوم مساء ليلعب الورق مع أصدقائه فيخسر كثيراً ويربح القليل ودائماً لديه الأمل أنه مرة سيربح كثيراً.. وبعد ذلك أصبح يلعب بلا أمل.. لكنه يلعب باستمرار .. تراه لماذا يستمر باللعب دائماً ما دام لا فائدة .. لا أدري..
شعر الصبي بالجوع .. فعض على شفتيه.. أيشتري شيئاً يأكله استوقفه محل بيع اللحم .. رائحته الواخزة الشهية أسالت لعابه.. مسح شفتيه بلسانه.. لذيذ طعم اللحم الساخن.. ثمنها عشر ليرات على الأقل.. عشر ليرات يستطيع أن يشتري بها أقراص فلافل ساخنة تكفيهم جميعاً.. لا بأس سأحتمل الجوع قليلاً بعد.. الفلافل واللحم سواء كلها لذيذ.. تابع سيره.. وقفت سيارة عابرة بقربه.. ومد رجل هزيل شديد السمرة يده إليه .. تعال أيها الصبي ..هل معك دخان .. نعم.. مد العلبة إليه فخطفها الرجل وانطلق عادياً بسيارته الفارهة .. عدى وراءه ساخطاً متفوهاً بسباب وكلمات بذيئة .. أيها الكلب .. أيها الكلب .. وكاد يبكي.. أيها الكلب إن ثمنها باهظ.. فكيف أعوض ثمنها .. والتاجر يعدّها بالواحدة ويحسب ثمنها بالقروش.. أيها الكلب .
مرّ بأحد محلات الألعاب فتوقف لعلّه يرفه عن نفسه .. تأمل الألعاب الجميلة وراء زجاج المحل.. ولمح دمية شقراء في ثوب رائع.. ليتني أستطيع شراءها ..أختي لم تمتلك أبداً دمية جميلة كهذه .. ولا دميمة أيضاً.. الفتيات تحببن الدمى وتهوين اللعب بها .. الصبية لا يلعبون بالدمى.. رأيتها مرة تعانق وسادة وتداعبها كأنها دمية .. تلفها بقماش قديم وتهدهدها كطفل .. مضحكات الفتيات .. عندما أكبر لن أفكر بإنجاب أولاد ما دمت غير قادر على شراء دمى جميلة لهم .. بل لن أفكر بالزواج أبداً لا أريد أن أكون تعيساً كأبي .. لا أريد أن أستسلم للفشل مثله .. لا أريد أن أتحول إلى إنسان قاسٍ مثله .. أبي ليس قاسياً أبداً .. كم من مرة عانقني وبكى.. مرات قليلة .. لكنه كان يفعل ذلك أحياناً.. وإن كنت أجهل السبب .. تابع الصغير السير .. تاركاً محل الدمى خلفه.. سأدرس .. اقسم أني سأبذل جهدي وأدرس لن أدع كلباً مثل ذاك الرجل يسخر مني دائماً.. سأتعلم وأصبح شيئاً آخر..
نسمات لطيفة هبت .. الوقت أصبح مساء .. وسيخرج الناس قريباً من منازلهم للتنزه .. سيكثر البيع حينها.. ثم أعود إلى البيت .. فأنا جائع جداً.. ضرب كيساً ظنه فارغاً بقدمه .. ولكنه لم يكن فارغ .. مد يده في داخله بعد أن تناوله عن الأرض.. خبز ولحم داخله.. قربه من أنفه.. شمه.. كان بارداً.. ولكن رائحته ليست سيئة كثيراً.. تذوقه.. لقمة واحدة .. لكن الجوع كان قوياً فأكل الشطيرة كلها.. وصل ساحة عامة مكسوة بالعشب الأخضر.. بعض المتنزهين بدؤوا بالتوافد .. عبّ ماء من نافورة تسقي العشب وتدور كرشاش ممطر .. بلل وجهه وشعره .. حارة أمسيات الصيف.. لكنها جميلة دائماً أحببت الصيف وانطلاقا ته الحرة .. العمل متعب في الشتاء أكثر .. تحت المطر.. وخلال العواصف الهوائية والناس في منازلهم قرب المدفأة قليل البيع في الشتاء .. الصيف شيء آخر.. جلس على العشب يرتاح.. ورفع عينيه إلى الأفق الأحمر .. السماء زرقاء صافية وأسراب العصافير تغدو إلى أعشاشها.. ما أسعدها.. سأكون يوماً حراً مثلها .. سأجوب البلاد مثلها أسافر أحب السفر والترحال.. أقابل وجوهاً فرحة .. غداً أكبر وأصبح رجلاً متعلماً.. أسافر وأعمل وأعود بسيارة جميلة كسيارة ذلك الكلب الذي سرقني لكني لن أسرق أطفالاً فقراء أبداً.. وبها سأصطحب أمي وأختي وأبي .. سأشتري لأختي أثواباً جميلة ولأمي عقداً مثل ذلك العقد الذي ترتديه تلك المرأة .. عقد جميل وأمي صبية حلوة.. سيبدو العقد عليها جميلاً.. سأعود بعد تلك السنوات إلى هنا وأستريح فوق هذا العشب .. حينها لن تكون هذه الأيام القاسية إلا ذكريات .. ليت الأيام تعجل وتمر سراعاً .
تكاثر المتنزهون في الساحة سيارات كبيرة وصغيرة .. رجال ونساء وأطفال يلهون فوق العشب بمرح.. تابع صبية يطاردون كرة و ودّ الانضمام إليهم فهو يتقن لعبة الكرة .. كثيراً ما لعبها مع صغار الحي من رفاقه في الساحة الترابية حيث يرفعون عارضات خشبية كمرمى لهم.. ويتصايحون ويركضون ويسجلون الأهداف .. أحس بشوق إلى حيّه وأصحابه يوم الجمعة قريب.. الآن سأنهض من جديد فأدور بين السيارات .. قفز واقفاً وبيديه الصغيرتين نفض رذاذ الماء والغبار عن سرواله .. أخرج من تحت قميصه ما دسّه من علب وبدأ يصيح دخان .. مالبورو.. دخان وبسرعة باع ما لديه.. ووقف يحصي ما جمع .. دسّه في جيبه واتخذ طريق العودة.. الحمد لله نفذ الدخان كله.. لولا ذلك الوغد لكان الربح جيداً اليوم .. لا بأس يعوض الله .. حث الخطى وأسرع نحو بيته .. توقف عند بائع الفاكهة واشترى كمية من التفاح الأحمر .. قرض واحدة منها متابعاً السير..
في الغرفة الفقيرة كانت الأم تعد الطعام والأخت تساعد في تنظيف الأواني .. أخرج ما لديه من مال واقترب منها.. أمسكت بيده.. ألست متعباً ؟ تعال يا صغيري .. قبلته بحنان .. انظري يا أمي جلبت لك تفاحاً أحمر .. تحبينه .. أعلم ذلك .. في عينيها التمع حب قوي آسر .. والحزن ابتسامة صغيرة على الشفاه.. سلّم الله يديك .. ألن تأكل.. لا أشعر بالجوع أكلت شطيرة وجدنها وتفاحة من هذه .. ألم يعد أبي بعد .. هزت رأسها بأسى فهم أنه لا بد مع أصحابه .. يقامر ويلعب .. لا بأس يا أمي .. لا عليك .. ألست رجلك المفضل.. ابتسمت له ..
استيقظ ليلاً .. ألم شديد في الأمعاء .. شعور بالغثيان .. ركض خارج الدار فأخرج ما في أمعائه .. إقياء .. أماه إني متعب .. اندّس قربها وهو يرتجف .. احتضنته بذراعيها .. لا بأس لا بد أن لفحة هواء وتعب أصابك .. استرح بين ذراعيّ.. ألم شديد يا أمي .. إقياء آخر .. وأمعاؤه تتقلص وتنقبض.. والأم تمسك بيديه وتغسل وجهه .. ثم .. لم يعد يع شيئاً .. لم يعد قادراً على الإقياء أو حتى فتح عينيه .. كان يسمع صوت أمه المرتجف أسرعي يا ابنتي .. أسرعي وابحثي عن أبيك .. وكان الفجر قد أشرق.. وبدأت العصافير تغادر أعشاشها من جديد باحثة عن رزقها .. مزقزقة فرحة بالصباح الجديد .. وصوت سيارة الإسعاف يزعق في الحي.. والصغير مسجّى على يديّ والده.. فتح عينيه بصعوبة .. نظر في عينيه .. وحاول الابتسام