فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان
إليكما البديل من كلامه /
الطبيعة البشرية :
تتسم الطبيعة البشرية في تصورنا بثنائية أساسية لا يمكن تصفيتها ( هي صدى للثنائية الحاكمة الكبرى , ثنائية الخالق والمخلوق , والمتجاوز والحالّ الكامن ) وهي ثنائية الجانب الطبيعي / المادي في مقابل الجانب غير المادي , أي الروحي أو الثقافي أو المعنوي . فثمة احتياجات طبيعية / مادية , مثل حاجة البشر الى الطعام والهواء والنوم والتناسل وتلبية كل ما يتعلق بتركيبهم العضوي ( بغض النظر عن أماكن إقامتهم أو نمط الحضارة الذي ينتمون اليه ) فالإنسان هنا هو موجود مادي متجسد يشارك بقية الكائنات في بعض الصفات , فمن حيث هو جسم , يخضع الانسان للقوانين الطبيعية وضرورات الحياة العضوية إذ تسري عليه وعلى بقية الكائنات مجموعة من الاليات والحتميات . ولذا يمكن رصد هذا الجانب من وجوده من خلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية (ويعبر عن نفسه فيما نسميه النزعة الجنينية ) . والفلسفات المادية . منطلقة من مرجعيتها المادية ومن إيمانها بأسبقية الطبيعة / المادة على الانسان , تركز على هذا الجانب من الوجود الانساني وترد كل جوانبه الاخرى عليه .
ولكن هناك جانبا آخر للطبيعة البشرية متجاوزا للطبيعة/ المادة وغير خاضع لقوانينها ومقصورا على عالم الانسان ومرتبطا بانسانيته وهويعبر عن نفسه من خلال مظاهر عديدة من بينها نشاط الانسان الحضاري ( الاجتماع الانساني - الحس الخلقي - الحس الجمالي - الحس الديني ) ومن المظاهر الأخرى لهذا الجانب أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عما يسمى العلل الاولى وهو لايكتفي ابدا بما هو كائن وبما هو معطى ولا يرضى بسطح الاشياء فهو دائب النظر والتدبر والبحث , يغوص وراء الظواهر ليصل الى المعاني الكلية الكامنة ورائها والتي ينسبها اليها وهو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون . وكلها تساؤلات تجد أصلها في البنية النفسية والعقلية للكائن البشري , ولذا سمي الانسان الحيوان الميتافيزيقي .
والانسان كائن واع بذاته والكون وقادر على تجاوز ذاته الطبيعية / المادية وعالم الطبيعة / المادة , وهو عاقل قادر على استخدام عقله ولذا فهو قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب رؤيته .
وهو كائن صاحب إرادة حره على الرغم من الحدود الطبيعية والتاريخية التي تحده . والحرية قائمة في نسيج الوجود البشري ذاته , فإن الانسان له تاريخ يروي تجاوزه لذاته ( وتعثره وفشله في محاولاته ) . فالتاريخ تعبير عن إثبات الانسان لحريته وفعله في الزمان والمكان .
وهو كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي / المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية وغرائزه , وهو قادر على التزام بها وخرقها , وهو الكائن الوحيد الذي طوّر نسقا من المعاني الداخلية والرموز التي يدرك من خلالها الواقع .
وهو أخيرا , النوع الوحيد الذي يتميز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها او تجاهلها , فالافراد ليسوا نسخا متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعا للقوالب التفسيرية نفسها , فكل فرد وجود غير مكتمل , مشروع يتحقق في المستقبل , واستمرار للماضي , ولذا فزمن الانسان هو زمن العقل والابداع والتغيير والمأساة والملهاة والسقوط وهوالمجال الذي يرتكب فيه الانسان الخطيئة والذنوب , وهو أيضا الذي يمكنه فيه التوبة والعودة , وهو المجال الذي يعبر فيه عن نبله وخساسته وبهيميته , فالزمان الانساني ليس مثل الزمان الحيواني الخاضع لدورات الطبيعة الرتيبة فهو زمان التكرار والدورات التي لا تنتهي و (( العود الابدي)) ولكل هذا فإن ممارسات الانسان ليست انعكاسا بسيطا او مركبا لقوانين الطبيعة / المادة , فهو مختلف كليا وجوهريا عنها .
فهو ظاهرة متعددة الابعاد ومركبة غاية التركيب ولا يمكن اختزاله في بعد من ابعاده او في وظيفة من وظائفه البيولوجية او حتى في كل هذه الوظائف . ولا توجد اعضاء تشريحية او غدد او احماض امينية تشكل الاساس المادي لهذا لهذا الجانب الروحي في وجود الانسان وسلوكه لهذا فهو يشكل ثغرة معرفية كبرى في النسق الطبيعي / المادي فهو ليس جزءا لا يتجزأ من الطبيعة وانما هو جزء تتجزأ منها , يوجد فيها , ويعيش عليها , ويتصل بها , وينفصل عنها . قد يقترب منها ويشاركها بعض السمات ولكنه لايرد في كليته اليها باية حال , فهو دائما قادر على تجاوزها وهو لهذا مركز الكون وسيد المخلوقات , وهو لهذا كله لا يمكن رصده من خلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية ,
وبرغم ان كل انسان فرد فريد الا اننا نطرح ما نسميه مفهوم الانسانية المشتركة في مقابل الانسانية الواحدة فنحن نذهب الى انه لا يمكن ادراك الانسان في كل تركيبته الا من خلال النموذج التوليدي , فنرى ان عقله مبدع خلاق , ولذا فهو يتمتع بقدر من الاستقلال عن الطبيعة ولا يخضع لحتمياتها في بعض جوانب وجوده . وفي هذا الاطار , نذهب الى ان ادعاء اصحاب النماذج التراكمية الآلية المادية بان هناك انسانية واحدة تُرصد كما تُرصد الظواهر الاخرى وبان الناس كيان واحد وانسانية واحدة خاضعة لبرنامج بيولوجي ووراثي واحد عام, هو أمر يتنافى مع العقل ومع التجربة الانسانية ومع احساسنا بتركيبتنا وتنوعنا الانساني .
أما النموذج التوليدي فهو ينطلق من الايمان بانسانية مشتركة ( طبيعة بشرية ) تأخذ شكل امكانية وطاقةانسانية كامنة لا يمكن رصدها او ردها الى قوانين مادية . هذه الطاقة لا يمكنها ان تتحقق في فرد بعينه او شعب بعينه او في جنس بعينه وانما يتحقق بعض منها تحت ظروف وملابسات معينه ومن خلال جهد انساني معين , ولذا فإن ما يتحقق لن يكون أشكالا حضارية عامة وانما أشكالا حضارية متنوعة بتنوع الظروف والجهد الانساني , لأن تحقق جزء يعني عدم تحقق الأجزاء الأخرى التي تحققت من خلال شعوب أخرى , وتحت ظروف وملابسات مختلفة ومن خلال درجات من الجهد الانساني الذي يزيد وينقص من شعب لآخر ومن جماعة لأخرى .
ومما يزيد التنوع أن الإنسان - كما اسلفنا - قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب وعيه الحر وحسب ما يتوصل اليه من معرفة من خلال تجاربه .
هذه الاشكال الحضارية تفصل الانسان عن الطبيعة / المادة , وتؤكد انسانيتنا المشتركة , فهي تعبير عن الامكانية الانسانية , دون ان تلغي الخصوصيات الحضارية المختلفة . لكن الفرادة لا تعني انه لايوجد أنماط تجعل المعرفة ممكنة , والحرية لا تعني ان كل الامور متساوية نسبية .
فالانسانية المشتركة , تلك الامكانية الكامنة فينا , هذا العنصر الرباني الذي فطره الله فينا ( ودعمه بما ارسله لنا من رسل ورسائل ) تشكل معيارا وبُعدا نهائيا وكليا .
تقبلوا تحياتي
|