{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
ضيف
Unregistered

 
مشاركة: #2
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
أفقت على أرتجاج جسدي المؤلمة جرٌاء نقلي بالعربة المعتادة, و بعد خمس دقائق توقفت فجأة و جَفلت لصرخة الحارس الأصلع تماما و هو يصرخ "حرٌك نفسك يا خنزير". رفعت طرف عيني إليه ببطء و تعجب و حاولت النطق لأحدثه عن جسدي الممزق بالسحجات, و لكني عجزت عن النطق حتى و بقيت أرنو إليه بعينين محتضرتين, الأمر الذي دفعه لقلب العربة بعنف و مناداة حارس آخر لكي ينقلونني. قيدوني للكرسي الحديدي ذاته, أو كرسي الملوك كما يلقبونه مستهزئين, و أنتصبا قرب الباب و كأنهما يتوجسان مقدم أحدهم. دقق أحدهما بساعته و خاطب الآخر بارتياب:

-لقد قال بأنه سيحضر بالثانية عشرة تماما, و قد قاربت على الثانية عشرة و النصف.

=لعله بسهرة من سهراته الكثيرة.

أجاب الأصلع بلامبالاة و هو يبصق على الأرض الإسمنتية التريبة برذاذ الملح و الدماء الجافة. بعد دقائق تالية دلف المُنتظر على عُجالة صاخبة, و لم يضيٌع الوقت إذ هتف بالرجلين و هو يخلع سُترته السوداء المخططة "بسرعة هاتوا العدة.. ليس لدينا الكثير لنضيعه مع هذا الأجرب". كنت قد أدركت, و منذ الجلسة الأولى للتحقيق, بأن المساعد وليد ماهو إلا جلادي الخاص الموكل بتجريعي الموت غصة تلو أخرى بقلعة الموت و الدماء هذه. أحضروا "العدة" و هم يبتسمون بهزء وحشيٌ, فتح المساعد الصندوق بلامبالاة و صار يحدثني دون النظر إلي: "كما ترى أيها الوغد, فنحن هنا لكي نجبرك على الإعتراف بإنضمامك للمعارضة العراقية", و صمت لهنيئة و سأل ببرود: "فهل ستعترف من تلقاء ذاتك؟". أجبته بأنني لا أستطيع الإعتراف بما لا واقع له و لا أدلة, أبتسم المساعد بسخرية و قال بعد أن سلٌط عيناه على عينيٌ: "إذن, نوٌرت الحفلة يا واثق التميمي". صفعني بعدها بلؤم و هو يصرخ "كماشة الأظافر", ناوله أحد الرجلين كماشة ذات طرفين رفيعين و مدببين, و قد تصلح أن تكون كماشة للأسلاك الدقيقة. هز الكماشة بوجهي و همس "هل ستعترف؟", أشحت عنه بغضب و أنا أهمهم "يبدو أنكم لا تفهمون العربية". عندها دسٌَ نصل الكماشة السفلي تحت أظفر سبابتي و تركها مغروزة بيدي و سأل "هل هناك تقدم؟", و ما كان باستطاعتي إجابته ذلك لأنني كنت أتلوى من شدة الألم. "لا" أجاب نفسه على سؤاله و سحب أظفري بقوة بواسطة الكلابة. جحضت عيناي و أنا اتأمل بقع العرق على وجهه و من ثم صرخت بكل ما للألم من سلطة عليٌ. لوٌح بالأظفر الدامي- التي مازالت الكماشة تطبق عليه- و سأل ضاحكا "هل تمتعني أكثر أم ستعترف؟". صرخت به بكل الكراهية التي أكنها له و الكافية لتسميم الكون: "ماذا تريد يابن العاهرة؟ ماذا تريد يا مسخ؟ .. لست منهم.. لست منهم أقول لك.. أين الله؟ أين الله ليخلصنا من أمثالكم". حينها أقترب فم المساعد وليد من أذني و همس بصوت سادن بيت نار مجوسي "أنظر", أشار إلى صورة الجلاد الأكبر المطلة علينا, و الواقع أنني لم أستطع تمييز ملامحه للألم المعتري فيٌ إلا أنني عرفت صاحبها. أتاني صوته من جديد و بشكل آخر, شكل شيطاني ممتزج برائحة الخمرة النتنة التي تفوح من فمه "الله لن يخلصك من قبضته.. هو وحده من يخلصك لو آمنت به.. هو المتحكم بنا.. باعث أمجادنا.. هو ربنا اليوم", و أبتعد عني بحركة مسرحية و أنتصب أمام الكرسي ثم مد يده إليٌ هامسا بصوت عميق و شبه هامس "أنه هو.. هو..هو". و رغم تبريح آلامي و دُجنة تعاستي فقد رشقته بفرقعة مجلجلة من فمي, كانت طويلة و متقنة كما يطلقها أي حوذي رقيع. لم أكن أعي ما أفعله إذ وصلت لدرجة من الهيستريا العجيبة التي تحجب التفكير بأي شيء عدا دقيقة الحماقة التالية, و كان المساعد وليد قد ثأثر لقائده بأن قلع كل أظافر يديّ دون كلمة واحدة. كنت أفقد وعيي عند إستلال الأظفر الأول, و أستفيق بجنون بعدها على ألم الثاني و هكذا حتى أصطبغت مساند الكرسي الحديدي بالدماء. و بجلبة الصرخات الذبيحة التي أطلقها و قهقهات السفيه التي تتدفق من فمه, توجه إلى أصبع قدمي الأكبر و هو يدندن بألحان أغنية مائعة بفمه الثمل. قال و هو يقرب الكماشة لأصبعي "ستغرٌد بابن العاهرة", و هنا أغمضت عينيٌ بهدوء و خاطبت الله بهدوء ممتزج بالدموع المرّة, رجوته بصدق لم أعهده مع أي من البشر و لا مع الفتاة التي أحببتها لسنوات طويلة. رجوته أن لا اتألم أكثر, ذلك لأنني مستضعف بين جبابرة ظلَمة, رجوته أن يصبّرني على هذا الإمتحان المرير. "لن تخذلني يارب.. أليس كذلك؟" قلتها و أنا أفصد دمعتين ملتهبتين من عينيٌ. كان المساعد وليد قد قهقه ساخرا و بصق على وجهي الذي أعتلته سيماء التحدي, خاطبته بصوت متهدج و لكنه قوي: "ما أنت سوى حطب لجهنم أيها النذل.. أفعل ما شئت فموتي أقصى ما يمكنك فعله.. لكنك لن تفر إلى الأبد.. غدا سيكون العقاب الذي سيعيد حق كل دمعة سالت بسببك من المظلومين الكثر". وجه المساعد متبلد لوهلة, عيناه لا ترمشان و يبدو أن كلماتي قد شلّته دونما دراية. هزّ رأسه رافضا فكرة أن أتحداه, نهض من قرب قدمي و صفعني بطريقة غير متوازنة لغضبه. دمدم بسخط و هو يعود ليقتلع إظفر قدمي الأيمن: "سنرى من ينتصر يابن التميمي". كان أحد مرافقيه يرمقني بصمت, و لعل فكرة عجيبة قد طرأت عليه إذ أمسك يد المساعد وليد المتجهة لقدمي, و حدثه بصوت وقور لم يكن فيه منذ دقائق:

-لعله بريء يا حضرة المساعد, فلقد عذبته كثيراً دونما فائدة.

أزاح المساعد يد الرجل عنه بحركة عصبية و أنتصب مخاطبا إياه:

=أنا من يقرر من يتعذب كفاية أو لا, و أنا أقرر من سيعترف و من سيعاند.

-قراراتك خاطئة إذن يا حضرة المساعد.

قالها الرجل بحزم أدهش المساعد, و قد ابتسم الأخير بتحدي و هو يرفع سبابته محذرا:

-هل نسيت مع من تتحدث أيها العريف البائس؟ أنا المساعد أول وليد السرحان.

=طبعا طبعا, و هل هناك من ينسى مجازرك و حفلاتك يا سيدي؟

فغر المساعد وليد فمه بذهول غير مصدق, لا بل وجد صعوبة بتجميع مفرداته جراء الغضب, إذ لم يصرخ سوى بالشتائم و اللعائن و هو يحاول أن يستل مسدسه. لم يمكنه الآخر من الوصول لغايته, لكمه بفكه و من ثم ركله بين ساقيه, فأرتد المساعد البدين بألم وصل صداه إلى وجهه الذي أحتقن, و لما رفع المساعد عينيه إلى الآخر تفاجأ بأن غريمه قد أستل مسدسه و صوبه نحوه. همس المساعد بذهول:

-لابد و أنك فقدت عقلك يا مهند الأسدي.. اللعنة.. أنا وليد السرحان يا كلب.. أنا..

=أخرس يا زنيم فلقد أبرمتني بهذرك.. و الآن ستموت كأي كلب رخيص.

قلص عيناه مركزا على إبرة المسدس دون أن ينتبه لصرختي المحذرة, ذلك لأن الأصلع قد حسم أمره و قرر أن ينصر المساعد برصاصتين أستقرتا بخاصرة مهند الأسدي, الذي سقط لوجهه و عيونه تتقيأ الألم. نهض المساعد بوجه متجهم, رفع مهند حتى ساقيه رغما عنه و صار يعضه برقبته و يلكمه حتى دفعه للجدار, و هنا أخذ بندقية الكلاشينكوف من بين يدي الأصلع و خاطبني بوجه ضاحك هستيري "أنظر إلى بطلك", قالها و أطلق رصاصتين لوجه مهند الذي هوى للأرض و قد ترك أجزاء من دماغه تلتصق بالجدار المثقوب برصاصة الموت. أقترب المساعد وليد نحوي بتعب إثر المواجهة, ألصق فوهة البندقية الساخنة على فكي, بلَع ريقه ليستعد للكلام ثم همس: و كما ترى فإن سر بقاؤك على هذا الكوكب يعود لرغبتي أنا بذلك دون سواي. لطمني ثم مضى, تاركا إياي مع هداياه الكريهة؛ الدوار, الألم, الغثيان و كذلك الإغماء الزاحف إلى رأسي كسائل زئبقي محمّلا بروائح كريهة. نقلوني بالعربة ذاتها لزنزانتي و كان الهواء يبدو لزجا أثناء ملامسته لجلدي. أحاسيس موت تكتسحني, بمرارة القيح-السائل من شفاهي- فوق لساني, بوحشية الظلام الذي يبتلع إدراكي الباطن كرمال متحركة (ساخنة و حارقة) تقلٌني لعالم من الظلام و المجهول. ألقوني إلى وسط الزنزانة حيث بقيت مشغولا بالحلم و التعب, كان حلما يطارد ملاك, و ملاك هذه عالم آخر غير عالم المعتقل و الدماء و الأظافر المخلوعة. عرفتها و أهلي منذ طفولتي, كانت و عائلتها أقرب الجيران إلينا, و لم أتخيل بأن شريكتي باللعب ستتحول لشريكة أبدية تلعب بغدد القلب فتلهبه تارة و تغرقة تارة أخرى. لقد توفي والدها تاركا أربعة أولاد و بنتين, كانت ملاك أصغرهما, و كان على الأم أن تعمل بصنع الحلويات بمنزلها لتسد موقع زوجها الحداد المتوفي بلدغة عقرب صحراوي أصفر. إن ملاك هذه قد سدت علي كل منافذ الحياة و لم تترك سوى بابا واحدا يمرّ عبرها, أنها كنز يبعث على البهجة و الإفتخار و الخجل المنتشي. كان وجهها يحمل كل إمارات الطفولة و السكينة, و بعينيها السوداوتين و بقامتها اللدنة الرشيقة, كانت تفرض جوا سلطويا مشبعا ببخور حضورها. كثيرا ما أحاول إستذكار سني دراستنا معا ببهو دارهم بمرحلتنا الإبتدائية, كنت أريها سحجات ركبتي و جروحها بفخر بينما كانت تبرمني بالتحدث عن أقلامها الملونة و تفاخرها بحب المعلمات لها. و مما لاشك فيه-و وفق تقاليدنا الإجتماعية- فإن المرحلة الإعدادية كانت نهاية لتلك اللقاءات الدراسة الهزلية, و لكنها كانت حجر الأساس لحب فتي أيضا. لقد حدث ذلك بيوم ثلاثاء خريفي مشمس, كنت قد نفيت نفسي لسطحنا لغرض الدراسة؛ أنه تقليد شبه مقدس لكل تلميذ بآخر سنة من سنوات المرحلة الثانوية. و ككل بيوت المدينة, كانت أسوار السطوح شاهقة منيعة عن الإنظار, رغم أنها لم تكن منيعة عن الأصوات. و هكذا, أستطعت أن أسطو على أسرارها التي كانت تودعها عند صديقتها أثناء زيارتها بسطح دارهم, و لم أصدق أذني عندما سمعت تنهداتها عني و وصفها لمشيتي و الطريقة التي أخفض بها رأسي كلما رمقتها بالشارع. صمتتا للحظة ثم عاد صوت ملاك متنهدا بقولها: "أتعلمين؟ كلما رأيته خافضا لعينه حتى تنتابني رغبة نارية بأن أضربه". ضحكت الأخرى مستهجنة الفكرة, بينما عادت ملاك للحلم: "أضربه فقط.. بساطته تدفع الإنسان لأن يمزقه ضربا". سألتها صديقتها بأرتياب:

-هل تحسبينه يحبك أيضا؟

=بالطبع يا مجنونة.

-و لكنه يحبني.

طار عقل الأخرى, إذ أطبقت بيديها على عنق صديقتها و هي تصرخ متفجعة:

=كيف حصل هذا يا مجرمة؟ سأقتلك.. سأقتله.. سأقتل نفسي.

-أتركيني فكنت أمازحك.. يالوحشيتك.

ضحكتا معا و قد قالت الصديقة بعد أن سمعت أذان الظهر يعلو:

-علي الذهاب للمنزل كي أصلي و أنهي بعض الفروض.

=حسنا, و أبتعدي عنه ألف خطوة و إلا..

-يووه, كنت أمزح أيتها المستبدة.

=لا تمزحي إذن.

قالتها و هي ترفع يدها مودعة مع ضحكة قصيرة, و لما غابت صديقتها حتى قفزت لسطح ملاك و أنا أبتسم بخبث. صرخت صرخة قصيرة ثم أرتدت حجابها مستنكرة و هي تفلت جملة لا إرادية من جملِها القصيرة القاطعة:

-ما تريد أيها المجنون؟

=لقد سمعت كلٌ شيء..

-سمعت ماذا؟

أبتسمت و أنا أكرر بصوت بطيء "كلٌ شيء", عندها أمتقع لونها كأنني حقنتها بعصير الرمّان, و لم تدري الفتاة بأي زهرة تخبيء وجهها جراء الخجل الذي ضاعف جماله. قالت بلهجة متوترة في محاولة لتغيير الموضوع:

-أمضي إلى داركم يا واثق و إلا رأوك أخوتي فيؤذونك.. بل قل يقتلونك ربما.

=لا داعي فسألقي بنفسي من السطح لو أتوا.. سأوفر على نفسي عناء الموت ركلاً.

لم تتمكن من مدارات ابتسامتها فغطت وجهها بالعباءة, و لما أبعدتها كانت قد بدأت بالبكاء من فرط الإحراج. عندها شعرت بحماقة تصرفي فعدت متسلقا سطح دارنا و أنا أخاطبها جلوسا على السياج: أبحثي عن شيء سأتركه تحت خزان مياهكم غدا صباحا. و مضيت بعدها دون المقدرة التركيز على شيء قط.

* * *

في ذلك الصباح, دسّت ملاك يدها تحت خزان المياه المرفوع بأربع عواميد قصيرة, و أستلت رسالتي التي غلفتها بكيس بلاستيكي أصفر. كانت رسالة متعقلة قدر المستطاع, رسالة كشفت ودٌ الطفولة و إعجاب الشباب و أسفي على تلصصي عليها. تأخرت إجابتها لأربعة أيام, كدت أفقط خلالها عقلي من شدة الغضب و التوتر, و أنكشفت الغمة أخيرا بورقة قد كتبت عليها سطرين غامضين إلا أنهما أنتهيا بسؤال عن موقفي منها كفتاة ذات سُمعة حسنة؟ و من الطبيعي أن أجيب على سؤالها, بداعي الكياسة على الأقل, فأجبت بأنها لم ترتكب خطأ بالحب مادام هذا الحب عفيفا و ذو نهاية متفق عليها و صحيحة, و بناء على ما تقدم فإنها فتاة شريفة لم تخل بالآداب العامة و لا بأوامر دينها. كانت إجابتي قصيرة و مقتضبة في محاولة مني لألهب نار الغضب فيها جرّاء إقتضاب رسالتها. و ككل النساء, راقت لها اللعبة و لكنها أزادت بشكلها القاسي المدلل, إذ ردت بسؤال واحد عن قصدي بما أسميته "النهاية الصحيحة"؟ أجبتها بكلمة واحدة: الزواج. لم تجب فورا, بل تعطل ردها لأسبوعين عشت بهما أطول ليالي العمر إذا ما أستثنينا ليالي التعذيب بهذا المعتقل. لم توافق على الزواج رغم أعترافها الخفي بالحب, إلا انها لم تقصف جسور الأمل أيضا, إذ أقترحت أن يكون تعارفنا برضا عائلتها و بطريقة إجتماعية مقبولة؛ الخِطبَة مثلا. كنت أنا من أرتجف بعدها. إن فتح موضوع الزواج لهو ضرب من المحال عندي, و ليس ذلك للخجل و عدم الإستعداد فحسب, بل لإعتزامي على السفر لخارج العراق. حاولت أن أستثنيها برسالة متأخرة, إلا أن ردها كان سريعا و صارما هذه المرة: لن تقبل علاقة دون علم أهلي أو أهلها على الأقل, هذا إذا أستثنينا حدوث الخطبة. و رغم الإستياء الظاهر منها, و رغم تكبري عليها و بخلي المتعمد بمبادلتها للنظرات اللاهبة التي كنا نتقاسمها بالخفاء كلغة رمزية مقدسة, رغم كل ذلك, شعرت بالإحترام الدفين تجاهها و صار الحب أشد عمقا و أكثر عقلانية و أخف طيشا و أضعف نزوة. أخبرتها بأنني سأفاتح أمي بالأمر, مهما كلفت المغامرة من توبيخ أوسخرية مترقبتان, و لكني أشترطت أن أجتمع بها على السطح للتأكد من شيء وحيد. لم تجب بنعم و لكنها لم تجب بلا أيضا, و بدافع الجنون و التهور قفزت إلى سطحهم قبل أذان المغرب بست دقائق, حيث الشمس ضعيفة و عيون الفضوليين أشد ضعفا. شهقت مرعوبة حينما أمتد خيالي على كتفيها و أنا أنتصب أمامها على بعد متر واحد من مجلسها الحديدي, و دون تردد سألتني عما أريده؟ فأجبتها بتعالي لاخفاء رعشة الخوف الدفين:

-هو سؤال واحد فقط.

=تفضل.

-هل تحبينني حقا؟

تأملتني بخيبة مصطنعة و قالت كلماتها أثناء أنصرافها المستعجل: آه يا واثق حسن التميمي, و هل هناك من فتاة تحتمل كلٌ جنونك إن لم تكن تحبك؟ قالت ذلك و أنصرفت هاربة مع بسمة ناعمة على وجهها, و لم يكن مفهوما عندي أكانت أبتسامتها قد أكتسبت إلتماع الشمس الغاربة أم العكس؟

في العاشرة و الثلُث من صباح اليوم التالي, أنتهزتُ فرصة غياب والدي عن المنزل كي أحدث والدتي بأمر ملاك, و قد أستقبلت الأخيرة الأمر بابتسامة متفاجئة إلا أنها لم تزد من حرجي بأي جملة. قالت كلماتها برصانة حكيمة: "سنرى ما يُمكننا فعله". بعد أسبوع واحد فقط, كانت والدتي قد توصلت لأتفاقية ضمنية بجواز زواج ملاك بهذه المرحلة من عمرها, و خلال ثلاثة أيام تالية عَرفت والدة ملاك القصة كلها و كان ردها غامضا لوهلة. و رغم إصرار أبنها البكر الكريه, أكرم, على الرفض إلا أنها قد وجدتها فرصة ذهبية كي تكمل أبنتها الدراسة بعيدا عن أي مشاكل عاطفية بالجامعة, و الحُجة طبعا هو الخطيب الغائب بأمريكا, و الذي لن يشغلَ الابنة بقربه منها أصلاً. إن سنين الحرمان و الترَمُل قد علمتها طباع العجائز الماكرة و لؤمهن الدفين, الذي ظهر للعيان أمام عشرات الشروط الباهظة التكاليف. كانت ملاك تحتضر من شدة الحرج, أما أسرتي فأخفت استيائها بصعوبة. و بعد سجال شهر كامل من الزيارات و الشروط المجحفة, عُقد قراني على ملاك بحفلة صغيرة, أصرّت أمي على عقدها بين الأقارب و الأصدقاء. كان هذا قبل موعد سفري بثماني أيامٍ فقط, و لم نقل الكثير خلاله هذه الفترة عدا أتفاقنا على مراسلة نشِطة.

* * *

نيويورك, مدينة الجريمة و الإرهاب الإجتماعي, خيٌبت آماليَ دفعة واحدة. الوضع هنا مزريٍ, ليس لكثرة المزابل التي تغزوها الجرذان الجائعة فحسب, بل للإرهاب الذي يفرضه المجتمع على طبقاته ذاتها. النساء كن الأسوء حظا هنا, فالمجتمع قد نَحت الحريات و المفاهيم بغية التمتع بهن كبهائم. الحرية مجرى قاذورات بائس يمارسون فيه تجارتهم و خروقاتهم لكل ما يُخرق. قال أحد أساتذة الأخلاق ذات يوم بجامعة بريدجبورت, حيثُ درستُ لفترة و ألتقيت أحمد الخفاجي, أن الحرية مصطلح لا وجود له إلا بالذهنية الطوباوية, أما لو عدنا لأرضية الواقع فإن كلٌ مفاهيمنا خاضعة لمقاييس عقلية, أصابت أم أخطأت, و بالتالي فأننا لا ننشد الحرية بمفهومها المجرٌد, بل ننشد جوهر الحرية الذي يهبنا حق التفكير و التنفيذ وفق حدود معلومة سلفا. و إذا أُستنكرت هذه الفكرة, فإن الحرية ستتحول لسلوك فوضوي و لامسئول يقود المجتمع للمشاكل العويصة.

لم يتمكن من الإستمرار بعد أن قاطعه طالب قميء, بدى لي كمدمن مخدرات, الأمر الذي دفع الخفاجي لأن يتدخل. أنه عراقي هُجرت عائلته من العراق منذ سبع سنوات لإنتماء والده الإسلامي. لقد أعدموه بقاعة المحاضرات التي يحاضر فيها- أمام تلاميذه- و تركوا عائلته ترحل للمجهول. كانت معركة سريعة و دقيقة, من تلك المعارك التي لن تثمر ألا بعد سنوات طويلة إن كُتب لها النجاح. أعتقلوا مهند لخمس ساعات, على ذمة التحقيق, بعد أن وصف الآخر بالماسوني المعادي للفضيلة. و لعله سخر مني بأعماقه حينما خاطبته ناصحا بلهجتي الودية:

-لا أدري إن كانت ستنتهي أيامك لخير إن بقيت على هذا الوضوح بمواقفك.

=أتريدني أن أنافق؟

-لا.

=ماذا إذن؟

لم تكن عندي إجابة جاهزة, و لن تكون, فكل الفكرة من نصيحتي كانت متضمنة بكلماتها ذاتها, التي من المُفترض أن يفهمها بشكل شمولي. لكنه كان شخصا مملاً بدقته, إذ أعاد السؤال بلهجة نزقة:

-أنافقهم إذن؟

=لا.. قلت لك لا.

أجبته بصوت مقارب لصوته بعد أن ساورني شعور ضروري بأن أهرب من المواجهة, فآخر ما أنتظره هو مواجهة مع عنيد مثله. أنصرفت عنه بخطوات مستعجلة و غير مكترثة لهدير الأطلسي الذي يشرف عليه فناء الجامعة, تلك التي كان مدخلها و واجة الأطلسي تشكلان تناغم أكاديمي شفاف و أسطوري باعث على التأمل. عدت لمنزل خالتي, المنهمكة بكتابة أطروحة الدكتوراه بالعلوم السياسية برفقة زوجها, و هناك ألفيت رسالتين على مكتبي. كانت الأولى من أهلي, و بدت لهجتها مطمئنة, بينما كُتبت الأخرى بأنامل ملاك. كانت رسالة فتاة شرقية بكل المعايير, بلهجتها الخافتة فقط و ببثها للواعج صدرها الخفيف كذلك. كانت رسالتها معجزة إغراء فاضلة بحد ذاتها. و هكذا, بخضم جنون الحب, لم تمر السنة الثالثة حتى فقدت كل صبر, و آليت أن أعود للعراق كي آخذها للإقامة معي بالسَنة الدراسية المتبقية. لكن, ما حصل بعدها؟ هأنا ملقاً كحثالة بجوف زنزانة جرباء, بأصابع دامية و ظهر محروق و جسد مفتت. أعتملت فيٌ الأحزان فجأة حتى وجدتني أبكي بجوف الليل, و ما أستمر النحيب طويلاً إذ هويت بمستنقع الدموع و حرارة الذكريات.


"أنه يعاني من إصابات جدية, و بحاجة لعلاج مكثف يا سادة". أستفقت على هذه العبارة المنطوقة بحنجرة نقية. فتحت عينيَ أكثر لتغرقان بالمنظر الجديد, هناك إبر مغروسة بشرايين ذراعي اليسرى, فوق رأسي مباشرة ترددت خفقات قلبي من جهاز كُهربائي. و لجانب السرير الأيسر, أنتصب أبو قصي و أبو تحرير لجانب الطبيب الهرم. كانا يتأملاني بعيون متوعدة في الوقت الذي تابع فيه الطبيب ما ابتدأه منذ ثواني:

-لقد أستيقظ بشكل تام الآن, و أرجو أن يبقى بحالة نفسية مستقرة.

=أغلق فمك يا دكتور, فهذا الوغد يرقد منذ يومين بهذا المشفى اللعين. نحن نريده عندنا فمتى سيخرج من هنا؟

-ثلاثة أيام ربما.

=سنأخذه غداً ليلا.

أنهى أبو قصي كلامه و مضى مع رفيقه, بينما تابعتهما أنا بعينين مهمومتين. ألتفتُ للطبيب و قد فضت بشعور مفجوع و أنفجرت باكيا. خَفَض الرجل رأسه لوهلة ثم طوقتني نظراته الرحيمة و همس:

-لا بأس يا أبني.. لا بأس... الله أرحم الرحمين.

=لم أنا هنا يا دكتور؟

-أنت للعلاج يا ولدي.

قالها و خطى نحو النافذة المشرفة على المباني الشاهقة المحيطة بالمشفى, بمنطقة ما من بغداد, تشرّب بالمنظر الصارم للمدينة العظيمة و تمتم بصوت بدى أكثر هرما من هرمه. صوت مبحوح و مرهق بعكس طبيعته الفولاذية النقية:

-مجرد وجودك مع هذه الزمرة لهو دليل على تورطك بمشاكل ستسوقك لحتفك بكل الأحوال.

=الأمر سيان.. أنا ميت بالحياة.

لم يعقب فورا, بل جلدني بنظرة ذات تركيزٍ عالي بمساعدة من شاربه الخمسيني:

-سأنقذك.

=العفو؟

-سأنقذك من الموت.. سأحاول على الأقل.

=لم؟

تاه فمه للحظة, صمَت مفكرا, أخيرا قرر أن يحسم أمره:

-ربما سيغنيك هذا عن مصير ولدي علي.. الضابط الطيار علي.

=هل أُعدِم؟

-حدث هذا قبل ثماني سنوات من اليوم, عندما كان علي ملازما أول بسلاح الجو العراقي. لقد حمل ذهنية فذة قٌربته من ضباطٍ ذوي نفوذ, و بكل خطوة قُربٍ كان يخطوها نحوهم, كانت هناك إمتيازات كبيرة و مخاطر أكبر. كان ناصري الفكر, الأمر الذي لم يَرُق كثيراً لمرؤوسيه. لكنهم صبروا عليه بضعة أشهر على أية حال, فمن يدري؟ ربما عاد لرشده بينهم؟ بيوم الخميس, 28 مايو من عام 1978, تمادى علي برفضه للسياسة الحزبية و هرَب و زميل آخر بطائرتي فانتوم لقصف تل أبيب. لم يكن وحده, بل كان هناك طيارون عرب من دول أخرى قد أرتكبوا الفعل عينه, و كانت خُطة سرية لقيادة حرب لا مركزية ضد الصهاينة. الأمر جنون و لا شك, و مازلت متأكدا أن عليا و رفاقه لم يجهلوا هذا قط, لكنهم أرادوا أن يعيدوا كربلاء للذكرى.. أن يعيدوا الثورة على الصمت و السكينة.. الإنتفاضة ضد الإذلال و تغييب الإرادة الحقيقية للشعب.. شيء من هذا بكل تأكيد, و هذا ما أؤمن به يا واثق. لم يتمكن علي من الوصول لتل أبيب لقلة الوقود, و سمعت بأنه قصف معسكرات عند النقب بمساعدة طيارين أردنيين و مصريين, و قد نشبت بينهم و بين الصهاينة معركة جوية بعد القصف. علي و أغلب من معه مجردي الصواريخ الوقود تقريبا, بوجه طائرات أنطلقت للتو. أسقط الصهاينة منهم طائرتين و أسقطوا واحدة منهم في الوقت التي أستخلصتهم المقاتلات الأردنية و المصرية. فر الصهاينة لكن علي لم يعد, رغم أن رائد بسلاح الطيران العراقي قد أكد أن علي أسقط طائرة صهيونية و قصف ثكنات للعدو الإسرائيلي بصحراء النَقب, و لم يتمكن الصهاينة من أسقاط مقاتلته أبدا.. لكن الفرع الإستخباراتي لسلاح الطيران العراقي ببغداد أكدّ مقتل الملازم أول علي سلمان الليثي, و أغلب الظن أن المقاتلات العراقية قد أجبرته على الهبوط بقاعدة عسكرية بالأردن, و من هناك أقتادته المخابرات العراقية لبغداد. لا أعرف ما مصيره لكنه أُعدم بأغلب الظن, لست متأكدا بأي مصير أنتهى يا واثق. ما أعلمه أن علي سيولد فيك مرة أخرى, لن تُقتل إن شاء الله.

ساد صمت مرير بدى مقدسا لحضور ذكرى علي, و وجدتني أناديه قبل أن أسقط بغيبوبة التعب: يا أبي.

مرت ساعتين على إغمائي الذي رافقه إرتخاء شامل من إبرة المهديء التي حقنها الدكتور بكيس المغذي, وجدته يطالع كتاب ما و هو يجلس على كرسي قرب سريري. أبتسم عندما فتحتُ عينيّ و فسر جلوسه بجملة واحدة:

-ممنوع أن يتعامل معك أي إنسان سواي.. هذي أوامرهم.

شكرته بابتسامة مرهقة من مضجعي و بذلتُ جهداً لأستجمع الكلمات بفمي كي يُفتح:

-ما تقرأ؟

=آه.. أنه "فلسفتنا" لمحمد باقر الصدر.. كتاب ممنوع و لكني أخفي مُغلفه بورق بجِلادٍ سميك.

-ماذا فيه؟

=دراسة عن الفلسفة الجدلية الماركسية و الفلسفة الإسلامية.

-تبدو أشياء معقدة.

=هذه مسألة تعود لثقافة القاريء.

-لمَ تثق بي يا سيدي؟

=لأن الحال من بعضه يا ولدي.. سأرفع تقريرا يشهد بأنك تعاني من حالة عصبية تدفعك لأذية كل من يعترضك, و هكذا ستنجو من تهمة الإعتداء المتعمد على رجال الأمن.

=كيف عرفت بأمري؟

-كنت تهذي طيلة ليلك.. عن التعذيب.. ملاك.. أمك.. الطائرات.

=أنا طيار أيضا بالمناسبة.

-عرفتُ هذا من هذيانك أيضا.

أبتسم بطريقة أبوية و عالج حقنة بيده قد أفرغها بكيس المغذي خاصتي, و أتاني صوته موضحا بين بخار الدوار الذي تصاعد نحو رأسي: "أنه مهديء سينيمك لفترة تساعدك على الراحة أكثر". هذا كل ما سمعته بعد أن غصتُ برمال النوم المتحركة, و لأول مرة حلمت بأحلام سعيدة عن الطائرات, زوجتي, و أشياء أخرى كثيرة.

كانت تلك آخر مرة أرى بها الطبيب, اُخِذتُ بوقتٍ غير معلوم ليلا بينما كانت المهدئات تتجول بدمي, ألقوني بزنزانتي بخشونة و كانت هذه لحظة بداية الكابوس المتكرر هنا. عند الصباح, زارني المساعد وليد على غير عادته, كان حليق الذقن, الأمر الذي حذف معالم وجهه الذي بدى كقطعة عجين باردة. أشعل سيجارة "سومر" و نفث الدخان لأعلى رأسه, أقترب مني و قال بخبرة متمرس بأن علي الإعتراف و إلا أظهر وجهه الحقيقي, و عندها لن أكون راضيا. هذا كل ما قاله, داس على سيجارته فوق أرض الزنزانة و مضى.

أبتسمت بشحوب, بمرض, بمحاولة لكي لا أجهش بالبكاء, همهمت بصوت أبتلعته الزفرة: "و هل بقي شيء لم أعرفه فيك يا وغد"؟ و الحقيقة كانت هذه فكرة خاطئة, فهناك الكثير لأعرفه عن هذا الرجل, و الكثير الكثير لأعرفه عن زنزانتي ذاتها. الزنزانة مستطيلة بثلاثة أمتار طولا و مترين عرضا, فيها سريرٌ عسكري ضيق و ذا أحشاء مهترئة. بالسقف, كانت هناك ثمة مربعات زجاجية غير واضحة المعالم, لم أتوصل لمعرفة سر وجودها حتى الليلة التالية. نمت بصعوبة, المرة الأولى التي أستمر بنومي لساعة كاملة دون التعرض لرذاذ الكوابيس الناري. لم يستمر الأمر, لقد أنفجرت قنبلة, لاشك أنها كذلك, نعم أنه صوت أنفجار قنبلة تلته موسيقا عسكرية أنبعثت من السقف, كانت تشيد بإنتصارات القائد و حزبه المحبوب. و لكي أعيش الجحيم عينه بشكل أقرب للواقعية, أنيرت أضواء ساطعة من تلكم المربعات الصغيرة, التي أكتشفت بخضم الرعب أنها مصابيح عالية المقاومة, الأمر الذي يمكّنها من توليد حرارة قد تكفي لطبخي بعد أيام. حاولت تجاهل الموسيقا المدوية- المنبعثة من سماعتين قد ركبتا خلسة أثناء نومي ليلا- حاولت أن أغلق عقلي الباطن من سماع أي صخب, إلا أنني لم أجد سبيلا للعيش مع تلك المصابيح التي راحت تشوي ثيابي على جلدي. أستمر الحال طيلة الليل, لم تنقطع الموسيقا لثلاثة أيام, بينما كانوا يطفؤون المصابيح لساعتين و يشعلونها لساعتين أخريتيين طيلة الأيام الثلاثة. الشيء الوحيد الذي أطلبه هو لحظة خفوت, لأتأكد بأنني لم أصب بالطرش, و كذلك كميات أكبر من الماء بسبب التعرق الشديد الذي يعتريني. باليوم الثالث, الساعة العاشرة و الربع صباحا, فتح المساعد وليد و أبو قصي الباب و قد أمره الأول أن يصب علي الماء مباشرة من الخرطوم الممتد من خارج زنزانتي, و كان ذلك ضروريا لأستفيق من حالة الإنهيار التي شيدت جدرانها على جسدي. شربت الماء بقدر المستطاع, كان فمي يتبع رشقات الخرطوم لأشرب, بينما يبعده أبو قصي عامدا بعد جرعة واحدة, مجرد وغد يتسلى بتقطير الماء لمن يحتضر عطشا. لقد أتيا لإنذاري للمرة الأخيرة, كما شرح المساعد وليد, و أكمل: "إذا كنت عاشقا للمشاكل فلك ذلك, لكن عليك أن تتهيأ لنوع جديد منها". أجبته بأنني لا أستطيع أن أقبل إتهاماتهم ضدي, لأنني ببساطة لست من الذين يتصيدونهم. أبتسم المساعد وليد بإستهزاء بعد إجابتي, مد علبة السجائر نحوي متمتماً: سيجارة؟ حركت رأسي نفيا ببطيء, كنت أريد منه أن ينصرف, وجوده يفاقم من عذابي, لكنه بقي لساعة أخرى يحدثني عن قصص من "ركبوا رؤوسهم" مثلي, و كيف أهتدى بعضهم و عاش حياة سعيدة خارج قضبان السجن, بينما قضى الآخر بمستنقع دماء بعد أن رأى لحمه يتناثر حوله طيلة أشهر, و أختتم كلامه بجملة ساخرة: "و هل تظن أن الناس سيذكرونك بعد موتك؟ سيعتبرونك بطلا؟ أم ستشقق خطيبتك أو زوجتك خدودها ألما عليك؟ لاشيء من هذا سيحدث يا عزيزي, سيحزن بعضهم عليك لثواني فقط.. بعدها يعود الكل لمتاجرهم و تتزوج المعشوقة من رجل آخر دونما إحترام لذكراك.... لاحظ.. لن تمثّل لها مجرّد ذكرى حتى.. ستذوب و سيحولك الزمن لصورة رجل سعى للمشاكل.. بل سيكون نطقها لأسمك عارا عليها قبل أيا كان" و قهقه ساخرا. لم أعد أحتمل, قلتها بفم مرتجف: "أريد أن أنام.. أنصرف من فضلك". تأملني بطريقة مزعجة, نظرات أشبه كريهة و باعثة على القشعريرة, أبتسم موافقا ثم أنصرف و أبو قصي الذي ركلني بفخذي كيفما أتفق و مضى خلفه, بعد أن أوصد الباب بالأقفال الثلاثة الخارجية. سأله الحارس عند باب الزنزانة, المغلق, إن كان عليه ان يدير الموسيقا و يشعل المصابيح, لكنه هز رأسه نفيا, بل سمعت صوته يصلني عن سابق إصرار: دعه يفكر بهدوء.

عشرون يوما قد مضى على زيارة المساعد وليد, لم أتحدث مع مخلوق بعدها, تركوني كبهيمة تعاني الصمت المطبق و النفي. أدهش نفسي حقا, إلا أنني أشتهي قدومهم لضربي حتى, فهذا أفضل من هذا الصمت اللعين. في كل يوم, و بثلاث مرات, كانت هناك يدا تمتد لي بصحن الطعام, صحن بلاستيكي أخضر أشك أنهم يغسلونه حتى. بيضة مسلوقة كيفما أتفق و خبزة بمقدار كفة اليد, هذا كل ما يقدمونه مع كأس ماء علي أن أنتظره لأخذه قبل أن يلقي به الجلاد أرضا و يندلق, لا يكترث هو, و لمَ يفعل أصلا؟ في كل ليلة أيضا, كانت غواية البرد تزداد معلنة قدوم الشتاء, الزنزانة تبرد بسرعة عالية بسبب أرضيتها الإسمنتية الخضراء, أتكوم في كل ليلة كشحاذٍ يستجدي النوم, لا نوم مسموح هنا. أصوات التعذيب القريبة من زنزانتي تتعالى بأغلب الليالي, أصوات نساء مرعوبات, رجالٌ يتصارخون, لعنات و تهديدات فاقدة الصبر. قبل ليلتين فقط, أقترف أحدهم حماقة غناء نشيدٍ وطني, علي أن أعترف أن صوته كان قويا و هو ينشد "موطني", لم يكمل القفلة الختامية إثر رشة كلاشينكوف, نعم, أعدموه. بقي صوته يلاحقني طيلة اليومين المنصرمين, للمرة الأولى بدوت مهتما لمن يقطن بهذا العالم لجانبي. فكرت بعوالم المعتقلات بكل مكان, شرق المتوسط, جنوب المتوسط, شمال المتوسط, غرب المتوسط, لا بد أن لهم معتقلات أيضا, خصوصا أؤلئك القاطنين بغرب المتوسط, تلك الأراضي التي تلي سرير الأطلسي. بالتأكيد, هناك مسالخ بجنوب أمريكا, لكني أنشغلت أكثر بالشمال. عشت هناك, بلى, لكني أكتشفت بخضم المفاجئة أنني لم أفكر يوما بسياسة هذا البلد إلا بما يتعلق منها بمصيري, و أكتشفت – بذهول أكبر – أنني لم أفكر يوما أن أؤلئك الناس قد يكرهون حكوماتهم أيضا. سمعت كثيرا عن مغامرات إصطياد الشيوعيين هناك, كيف يحاصرون أحدهم كجرذ و يعتقلونه لفترة حتى يلفه النسيان, يعتقلون كل عائلته, يفرجون عنهم بعد حين مع علمهم أنهم أعدموهم بالحياة, من سيقبل أن يوظف من هو متهم بالشيوعية؟ "آسفون", يجيبونه بوجه تنافق بالحزن, هكذا إذن, سيعيشون كالشحاذين على مساعدات الإجتماعية البخيلة, سينتقلون للأحياء الفقيرة الغاصة إجراما, سيغتصب الزنوج بناتهم فور بلوغهن الرابعة عشرة, سيدمن الكبار على الميروانا و الويسكي, ستضيع أسرة بكاملها بسبب شيوعي واحد قد أختفى منذ سنوات. ماذا عنه؟ لا شيء, لا شيء سوى تلاوة خبر يشتمه بحجة نعيه: أنتحر, هاجم حارسا فأطلق النار عليه, حاول الفرار فأفترسه كلب دوبرمان, قتله مجرمين وطنيين بالمعتقل. لا فرق إذن, القتل هناك أكثر ذكاءً فحسب, لا فرق إطلاقا.




تابع
04-04-2005, 09:07 PM
إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية - بواسطة ضيف - 04-04-2005, 09:07 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  مآذن خرساء الفصل 25 ــ 32/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين حمادي بلخشين 0 1,069 08-04-2011, 06:00 PM
آخر رد: حمادي بلخشين
  الفصل الأخير ابن حوران 9 1,753 01-05-2006, 11:31 PM
آخر رد: ابن حوران
  حفلة تعذيب (الفصل الثاني) / بقلم أحمد الكناني 2 810 04-04-2005, 09:13 PM
آخر رد: Guest

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS