حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
في المساء, فُتح الباب من قبل حارسٍ جديدٍ رافقه آخر, لكمني الأول دون سبب بينما أنهمك الآخر بتعصيبي و تقييد يدي بكلابتيه. "تحرك", سرت بخطوات متلمسة إلا أن لهيب الركلة بين إليتي أفهمني بأن أمشي بلا تواني. أستمعت لدوران المفاتيح الكبيرة في الأقفال, فُتِح باب ما, سحبتني يد قوية و دفعتني فوق خمسة عشرة درجة خشنة. نزلا خلفي بقفزات مسموعة وسط فراغ الصمت, أبعد أحدهم العصابة بينما فك الآخر الكلابتين. لم يكن المكان محدداً, لكنه يحمل رائحة قبو لاذعة بزيد الظلام الدامس من كثافتها. فتح أحدهما بيلاً يدويا و شق طريقه وسط الظلام العنيد. سلط ضوئه على شق طولي بالحائط بعمق نصف متر و طول مترين, كان يكفي لولوج شخص متوسط الوزن. حشرني فيه ثم أغلق الباب الفولاذي ذي القضبان الطويلة: زنزانة للوقوف الجبري إذن. بعد أن أغلق الحارسين الباب الذي دخلا منه, ساد صمت ثقيل, شيء جامد بكل فراغ, الأمر الذي يدفع الأذن للطنين كي تسلي نفسها. أشعر أنه مكان منعزل عن كل عناصر الحياة, حتى الهواء, كان رطبا و منتناً كأبخرة المجارير. الظلام يزداد كثافة و نفوذا للعين كلما أتسع البؤبؤ طلبا للرؤيا, سهام ليلية باردة تصفق نظري و تجبره على خلق أشباح متراقصة بالفضاء, أنفاسي تزداد حدة مع الظلام, العرق يفصد من وجهي كما الدماء القليلة من جبيني المخدوش, الزمن يتبخر أمام العين و تبقى بمواجهة همجية مع الفراغ. كل شيء بدا على أهبة الإنفجار عندما أنطلق صوت أغنية من مكان غير محدد, غير مرئي أو محسوس هو, و كأنه يتسرب من ثقوب إناء لعالم آخر . كانت أغنية "أراكَ عَصِيَ الدَمْع" التي راح يغنيها الصوت بشعور كارثي شديد الكثافة, لدرجة أن المرارة كانت هي سمة الأغنية و ليس الحزن وحده. لم يكمل, تبادرت صرخات غاضبة: ملعون, أخرس, أنكب. صَمت المُغني, بدا أشد رقة من أن يتصدى لهم, و من يميني أرتفع صوت مدافع و مؤنب, تحدث عن أحترام الحق بتقدير الأغنية الهادفة المهذبة, لكن الآخرون ردوا عليه ببعض الشتائم. حاولت أن أتحدث, أن اسأل, لكني لذتُ بالصَمت مخافة أن تكون كل هذه مسرحية مدبرة. مر وقتٌ طويل دون أن أشعر بما حولي, لقد أنشغلت بالتخلص من لُجاج سحابة تبلُد. صار محسوسا عندي أن خدراً موجعا قد باشر بتسلق قدمي كنباتٍ طفيلي ضار. أسندت رأسي إلى القضبان الحديدة, التي لا تبعد عني سوى مسافة شبر واحد, و أستسلمت لعالم الأحلام و الدوار المبتل بذكريات لزجة , غائمة, و ذات رائحة خضراء أشبه بروائح الأهوار ذات الزمن المتجمد بين قصب السكر, و بحفيف الزوارق الضيقة التي تدفعها نساء ضامرات بواسطة عيدان طويلة تغوص حتى قاع النهر الضحل.
* * *
ساعات مضت, القضبان تغوص بجبيني, بينما أتكيء عليها مستسلما لنوم مزعج و مخنوق بأنفاس مشبعة برائحة الرمل النهري الجاف, الذي كان يغزو جروف الأنهار و الجداول الفراتية الغارقة بحرارة الشمس و صمت غابات النخيل اللاهث. أستفقت من نومي تدريجيا إثر صلصلة أقفال و مزاليج و وقع بساطير ثقيلة, و بيقين سريع و أستعداد للجديد, ألفيت الأضواء قد فتحت لتهاجم عيني بحرابها لوهلة. أبعدتُ يدي عن وجهي تدريجيا, لأكتشف بأننا مسجون بمربع بمساحة أربعون مترا, و على أضلاعه أنتشرت تلك الزنازين التابوتية. كانت ممتلئة – برجال و نساء - إلا قليلا, و إلى اليمين كانت هناك درجات معلقة من البلاط المرقط و باب حديد بأعلى الجدار: أنه سرداب إذن. جال الحراس الأربعة بالمكان و هم يطلقون نظرات لئيمة للكل, بينما تأهبت سياطهم القصيرة بجلد أي شخص بحاجة لأن يستفيق من نومه. فُتح الباب مرة أخرى لينزل منه المساعد وليد و آخر بخطوات وئيدة, بالوقت الذي تعالت به صرخات أغلب السجناء المتوسلة به كرسول رحمة إلهية. جال بالمكان للحظة, ثم نهر الجميع بسعادة سادية صارخا: أخرسوا. و هنا أنتفض جلاوزته و راحوا يضربون هذا و ذاك إن هم تفوهوا بكلمة, و بغضون ثواني قليلة كانت القاعة صامتة, بل أن هناك من جُلِد لكحة مريضة أطلقها دون إرادة. أخذ المساعد وليد نفَسا عميقا ثم خاطب الكل بلهجة ساخرة:
"أيها السفلة و السافلات, يا أعداء التقدم و الحضارة و الإنسانية - قهقه ساخراً و أكمل – أن هذا المكان مملا للكثيرين منكم, كما أنه قاتل لآخرين, و كذلك هو جديدٌ على البعض هنا. رحبوا بواثق حسن التميمي, أنه قواد مثلكم, حقير مثلكم, خائن و متخلف مثلكم. أنت يا واثق بزنزانة قد تسبب لك إعاقة مزمنة بعد زمن, و هنا من يؤكد لك أنه لن يستطيع المشي لفترة طويلة, أو لن يستطيع المشي أبدا بعد كل هذه الأشهر التي قضوها هنا, غاطين ببرازهم و بولهم و عفونة أحلامهم. و هنا ستتعفن عظامك بهدوء و تجف و تضمر كبسكويتة هشة تحت الشمس, و إن كنت محظوظا فستخرج من المكان دون إصابتك بتعفن رئوي أو روماتزيم."
صمت و راح يتفرس الوجوه الباكي بعضها, بينما تقدم نحوي ببرود و همس بعد أن أسند جبينه حيث أسند أن الآخر جبيني, قال بلهجة باردة: كل هذا سينتهي لو أنك أكدت لنا إنتمائك لأحزاب و تيارات معارضة, و مساعدتك لنا ببعض الأسماء التي تعرف. لم أقل شيئا, بل لم أضع عيني بعينيه, و بقيتا شاخصتين للفراغ و أنا أقاوم رغبة عنيفة بالبكاء, لدرجة أن شفتي السفلى راحت ترتجف بشكل لا إرادي, الأمر الذي "أقرف" المساعد وليد و مضى تاركا إياي.
بعد خروجهم جميعا, أنسدل الظلام كستار حديدي ثقيل, أيقظت جَلَبته الأحزان المخدّرَة فيّ. أحاول جاهداً أن أجمد الزمن و الإدراك المحيط به, أن أقف على لوح جليدي هَش, أن أغوص لأعماقه لأنسى أي إتصال بعالم الحمى و حرارة الأحزان بالقلب. حرارة كاوية هي, تمر كشفرة محراث خاطفة بالقلب, تمزق أجزاء منه و تسحب أخرى لتبقى معلقة كدالية ألم. و أخيرا, تتركه ملقا بمستنقع من العرق و الأنفاس المبتورة. "هذا ما ستشعر به عندما تخيّب امرأة آمالك", تذكرتُ مقولة أحمد الخفاجي بشيء من الصدى. لقد بدى بعيدا عني, علما أنه شدّ على يدي مصافحا بالمطار و همس: أراك قريبا. كان ملكاً للإخفاقات العاطفية, و شديد الخبرة بأحوال القلب. بدى بعيداً للغاية, بعيداً بأعوام لدرجة أنني وجدت مشقة بتذكر كل ملامحه و طباعه الغريبة. بهذه اللحظة فحسب, أدركت بأنني أتهاوى على بعضي, أتهاوى كإنسان, كمباديء أيا كانت, و كحياة. حاولت أن لا أصرخ رافضا لواقعي, أن لا أترك حيوان الحزن يفترس دمي, هاه, سأصرخ, نعم سأصرخ. آخذ نفسا عميقا, أقلص حدقتاي و أعتصر قلبي لأدفعها, لكنها تنزلق من بلعومي ككحة باكية مع صوت عويل متردد. من مكان آخر, سمعت بكاء متأثرا أو مستثارا من دموعي, بكاء نساء أولا, ثم بكاء رجل بدا قريبا مني. صمتُ محاولا تجميع شجاعتي لأتحدث له, عشرات الأفكار الهمجية تمنعني بسياطها؛ المعتقل يحطم الإرادة قبل أي سنتيمترا واحدا بالجسد. عشرون دقيقة مرت دون إكتسابي لشجاعة التحدث, و لم أعد أفكر بالمحاولة أكثر, ذلك أنهم أناروا الأضواء و نزل رجلان ببرميلين متوسطي الحجم من البلاستيك الأخضر, كانا يسحبانهما بسهولة بسبب العجلات الأربعة بقاعدة كلا منهما. "أنها القُصعة", قالها الرجل القريب ذا النبرة الهرمة التي تميزه حتى بالبكاء, و أكمل "بيضة واحدة يوميا و كأسا من الماء". لم أجبه لأنهما أقتربا من عندنا, و بديا متجهمين و يديران حديثا عن نساء و سهر و خمور و مبالغ مالية. كنت ساهيا أسترق السمع للفُتاة المتساقط من حوارهما, و لم أدرك أنه قد وصل إليّ إلا بعد صرخته "إنتبه". فتحت عينيَ أكثر محاولا إفهامه بأنني أمتثل لأوامره, لكنه صرخ بي "دسّ هذا التبن بفمك و لا تمضغه", و دسَّ بيضة بفمي فوجدتني أبلعها بصعوبة. "إفتح فمك" صرخ بي الآخر صاحب البرميل الممتليء ماءً, و صبّ بفمي مقدارا من الماء بواسطة كأس ذا ذراع طويلة, تجعل منه مكيالة غريبة متسخة بالكلس المخضوضر على جوانبه.
كانت أكثر الأشياء مدعاة للتقزز هنا – لجانب العزلة اللئيمة – هي التبول و الإحداث ببنطالي, وقوفا, هكذا, بوضع أكثر إزراءً من البهائم. بعد أسبوع أحسست أن القمل يدبُّ بشعري, بينما طالت حكة مجنونة أخمص أقدامي و أرتفعت حتى رقبتي بعد أسبوعين آخرين هنا. بكل ليلة يقدم فيها الطعام, كان ذاك الصوت الرقيق يغني بأغنية قديمة يحفظها الجميع عادة, و كأنه يستحثنا للغناء معه؛ حسنا, قد يكون هذا ما تصورته يومها. بدأ يدندن بلحن "ميحانا", لناظم الغزالي, و وجدتني أغني معه بإنفعال لدرجة دفعت الصوت الهرم ليشاركنا و كذلك أصوات أخرى متحمسة, بل لم يكتفي البعض بالغناء, و أنما راح يضبط اللحن الموسيقي بفمه و ضربات خفيفة على القضبان. أزداد الجو مرحا على نحو غير متوقع, و سمعنا بعضهم يهتف مشجعا قيس – و هذا كان أسمه - و المغنين هاتفا: الله الله, بينما نزداد نحن حماسا لضبط اللحن و الأغنية بذاكرة قد أستفاقت فجأة من مورفين المعتقل. و بذروة الأغنية, وجدتني أبكي دون شعور و بدموع فاترة, إنما غزيرة. أشياء كثيرة أستفاقت إثر الغناء, أربعة أشهر بهذا المعتقل دون رؤية نور الشمس, بلا سماع ضحكة ملاك, آه, ملاك يا ملاك, ماذا تفعلين الآن؟ هل ترقدين على فراشك الجميل كأميرة باكية بنومها؟ هل أذبل الجوع و الحزن سواد عينيك؟ أم أن قلح الدموع قد تكلّس على وجنتيكِ الصافيتين؟ الحزن قطار يبتعد بصاحبه عن الواقع, و إن كان يستمد من فحم الأخير تلك النار التي تدفع صهاريجه المجنونة. العالم يمسي أشد ظُلمة, الوقت أقل قيمة, الوجود أكثر شحوبا, حالة إنفصال تام عن الواقع. هكذا إذن, أستفقت من رحلة الحُزن على سطوع المصابيح و نزول الحراس بكلاب مجنونة, و كابلات رهيبة طالت كل من رأوه. كلّ حارس يضرب كلّ سجين بثلاثة جلدات أو أربعة من كابله الأسود. "لو سمعتكم تنهقون لأطعمتكم نعلي", هكذا قالها زعيمهم بلباس نومه و مضى بعد أن بصق على الأرض مستهزءً بغضب.
عندما تلاشى صدى الباب الحديدي الذي ضربه خلفه, تغلغل الصمت بالفراغ كغاز للحُزن. لم أقل شيئا, إذ لم أجرؤ, لكني سمحت للقيء أن يتفجر من فمي بنحو مؤلم. ماء أخضر شديد المرارة, كان يسيل بدفقات تخنقني و تجبرني على الصراخ الخافت. الصمت غير حيادي هنا, الكلّ ينصت لما يحدث و كأنهم ينتظرون نهاية لا يجرأون على التسليم بها. "أنها القَرحة" قالها صوت من مكان قريب, و لما وجدني غير عابيء بشيء سوى قيئي المتقطع المؤلم, أوضح مرة أخرى: معدتك تفور كمرجل, وجهك يصفرّ, أعضاؤك تبرد, و تدفع القيء على نحو مؤلم.. أنها القرحة, و يبدو أنها نفسية الأسباب,, لا تسألني كيف عرفت.. أنا طبيب. كانت عيناي محتقنتان بدمع ساخن و حارق جرّاء القيء الذي يتقطع, لكنه لم يتوقف بعد, و لذا لم أجبه, بل كنت أسند رأسي للجدار بمحاولة لكي ألتقط نفسا يعيد لروحي السكينة. القيء يملأ صدري و عنقي و قميصي الممزق البالي – الذي ألبسونياه فور عودتي من المستشفى – المشبع برائحة القيء المرّ. كلمة واحدة كانت تتردد على لساني الثقيل المحتضر: "يمّه". هكذا, اقولها بلهجة شعبية صرفة, و أنا ألفظ آخر سوائل مرارتي و غددي المعلنة غضبها و عصيانها, و على من؟ عليّ أنا الذي لا يمتلك حولا و لا قوة. لحيتي تقطر قيئا, كانت طويلة حتى أنها أقتربت لقبضة اليد, بينما غطى شاربي شفتي العليا, و بدى شعر رأسي منفوشا و هو يقترب من كتفيّ. "هل أنت بخير؟", أتاني صوت الهرم متوجسا, فأجبته بعد أن هدأت ثورة القيء للحظة: أفضل.. دعني ألتقط أنفاسي. صمت لعشر دقائق, كنت خلالها هامدا على ذاتي بعد أن فقدت الإحساس بقدميّ منذ أيام. عاد صوته يسأل:
-هل أنت أفضل؟
=نعم.. لا بأس.
-الحمد لله, و سكَت لدقيقة ثم أكمل؛ هل تصاب بهذا كثيرا؟
=أنها المرة الأولى, بصقت كيفما أتفق و فسّرت له؛ أظنني لم أعد أطيق صبرا مع هؤلاء.
-كم لك معهم؟
= أربعة أشهر ربما... ثلاثة و نصف.. لا أدري, نسيت العدّ حتى.
-مازلت جديدا عليهم, سيتسلون بك لفترة. انا هنا منذ سنة, تنقلت بين عدة سجون و مديريات أمن حتى أنتهيت لبغداد.
=مالسبب؟ لو كنت تسمح بسؤال كهذا.
-لا داعي للتحذلق بالكلام يا ولدي... أنا هنا بسبب سلسلة من المشاكل و المآسي.. بدأت القصة بنزاع مع مسؤولين حزبيين أصرّوا على مصادرة أرضي الزراعية بالناصريّة بحجة متاخمتها لقاعدة عسكرية بحاجة للتوسّع. رفضت البيع, لا أريد بيع مصدر رزقي و التوجه للمدينة.. أنا أبن التربة و الماء و النخيل, لستُ معتادا على المدن و قوانينها و أساليبها.. عليك أن تفهمني.. رفضت, نعم, رفضت دون محايلة. جنّ جنونهم, بعثوا من يتحرش بابنتي لمياء و هي تمضي للمدرسة الإبتدائية كي تزاول عملها كمعلّمة.. يلاحقها ككلب راعي مسعور بسيارة "الرنجروفر" العسكرية.. يقذف عليها كلماته الرخيصة.. تتلفلف بعباءتها أكثر كلّما تمادى بحقارته, و تصمت بحزن. ضايقونا بتدفق الماء و الترع, سمموا الرز, و أحرقوا بضع نخلات على أطراف البستان. لم نستسلم.. هكذا تواعدنا, لكن أبني الأكبر خليل لم يطق صبرا بعد كلّ هذا, و أنتهى بمشادة بعد أن ضبط الملازم الشاب يحاول أن يجبر لمياء على ركوب سيارته. بعد شجار سريع, قتل خليل الملازم بضربة من مفك كان يحمله.. قتله..وصلت الطعنة للقلب كما قالوا.. بعد يومين من فرار خليل, و أعتقالنا, أمسكوا به عند قبر زوجته, و أقتيد لبغداد و لم أعرف عنه شيئا إلا بعد أربعة أشهر عندما وصلتني جثته لأدفنه بالسر, و قد أخذوا مني ثمن الرصاص الذي أعدموه به.
=الله أكبر!
-لمياء توقفت عن العمل, لكنهم أعتقلوها لسبعة أشهر بمديرية الأمن بالمحافظة, و لم يسمح لنا بزيارتها. كانت حامل عند عودتها و معضوضة الشفة بشكل بشع. لم تبقى طويلا بيننا, أربعة أيام و طعنت صدرها بسكين تقطيع اللحم. زوجتي فقدت بصرها بسبب البكاء الصامت, كانوا قد منعوا إقامة العزاء لخليل و كذلك لمياء, بل منعونا من التحدث للسائلين عنهما. و رغم هذا, طالت الشائعات لمياء – و بكى هنا بجزع – إذ قالوا عنها بأنها كانت تمارس البغاء بالمدينة و أنني قتلتها.. تخيّل.. أبنتي التي لا تفوّت فرض صلاة.. تعمل بالبغاء؟
-حسبي الله و نعم الوكيل.
= نعم.. كانوا يعبثون بشرفها و هي بالقبر.. القبر الذي مُنعنا من زيارته إلا مرة بكل شهر.. الكلاب.. لم أعد أطيق صبرا, ذهبت لمسؤول المنطقة لأناقشه, فصرخ بوجهي "أبتعد يا أبا العاهرة".. جن جنونني, فأخذت بتلابيبه و صرت أضربه و أنا أصرعه على الأرض. تكاثر علي الحرّاس, أبرحوني ضربا بأخمص بنادقهم, بكابلاتهم, ببساطيرهم, بأحزمتهم التي ترفع بناطيلهم حتى! سنة و نصف ينقلونني من معتقل لآخر.. الكلاب أبناء الكلاب.. الكلاب..
-أخفض صوتك.. ماذا دهاك؟
=ليذهبوا لجهنم كلهم, لم أعد خائفا من أي إنسان.. مللت الصمت.
حسنا, لقد ملّ الصمت, لكني لم أعرف أن بجعبته هذا الكم الهائل من الشتائم اللاذعة البتّارة, التي طالت الحكومة كلها من حزب و قيادات و زعامة و حتى أسماء جلاوزة هنا. أسماء أعرفها و أخرى مازالت مجهولة. صراخه لم ينقطع منذ عشر دقائق, المسجونين تململوا و خافوا, لكنهم يخشون فتح أفواههم مخافة أخذهم بجرمه. لم يكن يصغي لتوسلاتي, و لا لتوسلات الطبيب عمار, أو نصائح الشيخ مؤيَد لكي يسكت. نزل حارسين أول الأمر, و توجها نحوه بعد أن فتحا الأضواء كلها, و من بعدها تناوبا بضربه بالخراطيم, لكنه كان يصرخ شاتما بكل ضربة ألم. نزل المساعد وليد بلباسه الداخلي الكبير فقط – حافي القدمين – مع ثلاث حراس بحوزتهم كلاب. صرخ بصوت كهزيم الرعد بالمكان, لكن الرجل – و ياللعجب – لم يسكن, بل وجه شتائمه لوليد السرحان هذي المرة. حك الأخير شعره بنفاد صبر و صرخ بالحراس مع إشارة من سبابته نحوه: أخرجوا أبن العاهرة من جحره للحظة. فتحوا الباب فهوى لوجهه و هو يبكي بصوت مخلوط بالشتائم. رفعه من شعره الكث الأشيب و كال له لطمة دوى صوتها بقوة و لؤم شديدين. "أولاد الداعرات.. لا.. الداعرات أشرف من أمهاتكم.. أولاد الرجعيات أنتم.. من كان يشاركه الصراخ؟ ها؟ أنت يا دريد يا بطل الإجتماعات السرية؟ أم أنت يا عمّار يا أحقر أطباء الكلاب؟ أم لعله أنت يا أوسخ إنسان عرفته بحياتي؟ واثق حسن التميمي الذي سأسلخ جلدك عن لحمك قريبا؟ و ماذا عن نجلاء؟ متبجحة الوطنيات و الإلتزامات الدينية.. لقد مللت من نكاحك يا كلبة فكفي توسلاتك عني يا قطّة شباط ·– و هنا سُمع صوت امرأة تجهش بالبكاء, لكنه تابع دون أكتراث- من غيركم؟ أنطقوا.. يا جبناء يا خُنثات.. و أنت يا مصطفى الأنصاري؟ يابن العاهرة؟ منذ متى صار عندك لسان تنطق به؟ كان لسانك لتنظيف حذائي دوما و سيبقى". قالها و أشبعه ضربا بأقدامه العارية, و لما تعب أخذ بندقية حارس مدنيّ و ضربه على رأسه و صدره حتى تأكد بأنه هشم بضع أضلاع منه. لم يعد يُسمع بالمكان سوى لُهاث المساعد وليد السرحان, و كذلك تأوهات الحاج مصطفى الأنصاري. "سأحرقك.. هاتوا البنزين", و على الفور هرع أحد الحرس لجلب البنزين و النار, ذُهلنا جميعا و الحاج مصطفى أيضا, الذي راح يهذي بنحيب متعب: "لا.. لا.. أرجوك لا". لم يجبه بل بصق عليه و هو ينتظر الحارس الذي وافاه بما طلبه. دلق ليتر البنزين على وجهه و صدره – وسط صراخنا جميعا و صراخ الرجل – ثم أشعل عود ثقاب و شبّ به النار. كانت الألسنة تشتعل بشعر الحاج مصطفى الذي راح يصرخ و يبحث بالأرض بجسده, بينما صارت راحتيه الهرمتين تفركان النار بجزع. أنطفأت النار بعد دقيقيتين, و قد أتت على شعره و رموشه و حواجبه و حرقت جلده, و لقد أدركنا كلنا بأنه فقد بصره لأنه كان يمد يده نحو الفراغ أمامه و هو ملقا على بطنه, و وجهه يتصبب دما. و بلا إضاعة وقت, أطلق عليه الكلاب الثلاثة بصفير خاص, فراحت الكلاب المسعورة تمزق جسده و رقبته و بطنه, و بغضون دقائق كان مصطفى الأنصاري مبقور البطن و ممزق الجسد و الوجه. أعاد الحراس الكلاب, و قد قرف أحدهم من منظر أمعاء الحاج مصطفى الملقية أرضا فتقيأ, و كانت ذا زرقة صافية. ضحك المساعد وليد بمجون, و أصدر أوامره: أتركوه لثلاثة أيام هنا, و أجلبوا نجلاء .. نظفوها و ألحقوها لغرفتي. بقي متمسرا مكانه, بينما أقتاد الحراس فتاتا بالسادسة و العشرين من عمرها, كانت بثوب داخلي مسود فقط, و بدت ساحرة رغم آثار الكدمات, إذ بقي شعرها البني محافظا على عنفوانه فوق خصرها النحيل, و بقيت العينين العسليتين و البشرة الحنطية الغامقة بقوتهما رغم السحجات. عرّها أمامنا و قد أخفض أغلبنا رأسه, بينما أنفجرت باكية. ضحك بمتعة و جذبها من شعرها بقوة لكي يؤلمها و تمتم:" من أرجل أنا أم زوجك الذي قتلته ككلب؟" لم تجبه بداية, لكنه لكمها ببطنها فصرخت بصوت باكي:" أنت.. أنت". فرقع المساعد وليد بهزء و أجابها: "و هل حسبتِ أنني أنتظر منك إجابة غير هذي"؟ لم يحتمل الشيخ مؤيد أكثر فصاح به بصوت أجش: "أتركها يا جبان". ضحك الحرّاس مع زعيمهم, و صرخ المساعد وليد: "هاقد فتح شيخُ الإسلام فمه أخيرا.. أخرجوه". أخرجه الحرّاس سحبا من أكتافه و طعنه أحدهم – بأمر من المساعد وليد – بحربته بصدره, ثم طعنه الكلّ حتى فارق الحياة. قتلوه, هكذا, و تركوه ممزقا فوق جثة الحاج مصطفى, التي سالت دماؤه على الأرض الإسمنتية السوداء.
النوم مطرود و منبوذ اليوم, متأكد أنا, كلّ الأحداق مفتوحة داخل تلك الزنازين الأشبه بالقبور. الجثتين هناك, بمكان ما يبعد بضعة أمتار عن مركز السرداب. الظلمة تلدغ السكينة, صرخات بربرية تنبعث برأسي, أدير عنقي بالظلام و أفتح عيوني لأميز القبيلة التي تدور حول الجثتين, لا شيء, الظلام وحده مايبدو أشد وضوحا كلما حدّقت النظر, أصوات كمان روسي لرقصة شعبية, بيانو مرح, طبول أفريقية مجنونة تنقر على كل حبة هواء, العرق يرشح مني و رأسي يدور بدورات غير منتظمة, كأنني بحفل مقدّس للهلاك. أدور, العالم يدور, القبيلة الهمجية بجلود وحوشها المقتولة تدور, الزنازين تدور, و الطبول تستمر مع عشرات الأصوات المتناحرة, العالم كله يدور حول الجثتين.. يدور.. يدور.. يدور وسط العرَق و الأنفاس التي لا تدخل إلاّ لربع الرئة, لم أعد أحتمل, أصرخ بهستريا و بكلمات غارقة بالزبد الأبيض الذي يملأي فمي. أضرب القضبان, عيناي جاحضتان من محجرهما, ترنوان لجهتين مختلفتين لكن عقلي الباطن مازال يرصد الجثتين. الأضواء تفتح, ينزل حارسان غاضبان من نوبة جنوني و ربما خائفان, يفتحان بابي دون أن أشعر, أهوي لوجهي دون أن أشعر, يضرباني كحمار رخيص دون أن أشعر, لا شيء يؤلم, الجثتين أخيراً أمامي – ببرودتهما و الدماء اللزجة - فأتأكد أن القبيلة لا تدور, و يخمد مهرجان الهمجية داخلي تباعا لأغوص بدوامة ظلام و خمود أشبه بالموت.
* * *
عربة تقلّني, أصوات تعلو بمحادثة مرحة, أفتح عيوني فأرى منخارا هائلا لرجل يدفعني. لم أركز أكثر, الحديث كان مملاً للغاية, فلا يهمني لو فاز "الزوراء" على" الطلبة"· مثلا, أو سعر الموز الذي أنخفض؛ لم يعد هناك من شيء يهمني هنا سوى الخروج من "هُنا". دخلنا لغرفة ذات ممر مضلّع بأتجاهات عديدة, و من جهة ما فاحت رائحة البخار و الصابون الرخيص الذي يصادفه المرء بالمراحيض العامة, أو المطاعم المتواضعة. قلب العربة فيّ, فسقطت لجنبي دون أن يكترث أيا منّا نحن الثلاثة: أنها الطريقة الأمثل لكي لا يلمس جسدي القذر, و لكي لا يضغط على أحدى رضوضي أو سحجاتي فيؤلمني. أنه تعايش بين السجين و سجانه, ظالم و قاسي, إنما ضروري. قال بلهجة آمرة و لكنها أقلّ لؤما مما أعتدته: أسرع بالإغتسال بهذا الحوض, ثم أستخدم الرشاش المائي لتزيل المواد الكيماوية عن جسدك. أمتثلت لأمره بطاعة مهذبة, و كأنني أشكره على لهجته الأقرب للوداعة. كان شابا طويلا, بأنف رفيع كحد السيف و شعر بنّي مسترسل ينزل على جبينه, لكنه يتعمد أن يدفعه للجانب الأيمن – بحركة خفيفة من عنقه - بكل دقيقة أو أكثر. كان يرتدي بنطالا أسودا و قميصا رماديا. الأخر بدى نحيلا أيضا, لكنه أقصر و قد غزا الصلع أعلى جبهته, و أحتفظ بالزي العسكري مع رتبة نائب عريف على ساعده. ماذا تنتظر؟ نهرني الأخير بضيق بسبب تحديقي بهما, فتمتمت بتردد:
-هل أستحم أمامكما؟
=نعم يا حبيب أمك.
تدخل الشاب الطويل القامة:
-لننتظره عند البوابة.
=لكن يا ضاري...
-لا عليك... يبدو شابا عاقلا و لن يقترف حماقة.
رمقني متفحصاً بعينيه البدَويتين البنيتين, فأطرقت متمتما:
=بالتأكيد.
-جميل... هناك ستجد ملابس نظيفة و منشفة.. أرتدي السروال الداخلي فقط و نادنا عند إنتهاءك.. معك عشر دقائق..
=خمسة.
قالها صاحبه, لكن ضاري رشقه بنظرة عتاب و أعاد كلامه:
-عشرة يا مُناف.
أنصرفا على الفور ليكملا حديثهما, بينما عدّل مُناف مسدسه المدسوس بنطاقه العسكري, علامة على أنه سيستخدمه لو تهورت. خلعت ملابسي و جلست بالماء المشبع مواداً كيماوية شديدة الحرقة. لم يكن من الأمر بد, فهذا ما سيقضي على الجرب و القمل الذي يغزوني. عند نهوضي عن الحوض, كان ماؤه رماديا ضاربا للسواد, الأمر الذي دفعني لأن أرفع السدادة كي يزول عن وجهي؛ أنه يُحرجني. أخيرا, و تطبيقا لأوامرهما, غسلت جسدي و شعري بالصابون ذا الرائحة الرخيصة, و أستخدمت الرشاش كي تزول آثار الصابون ليبقى عطره الذي أعاد لي شيئا من تماسكي. أرتديت السروال الداخلي و ناديتهما, فأتيا على مهل و مازالت المحادثة لم تنتهي. أوصل مُناف آلة حلاقة كهربائية بمأخذ قريب, ثم أمرني وسط هدير الآلة: قف و أرفع يديك على الجانبين. جزّ شعر رأسي, ما تحت أبطي, شاربي و لحيتي, و حتى شعر صدري الكثّ. "أرتدي ثيابك", قالها و هو يضع الآلة بموضعها الأصلي على الرف الخشبي و يتناول ملابس كانت مرتبة فوقه. كان قميصا بلا أزرار, و بيجامة عريضة تربط بربّاط عند محزمها. القطعتين باردتين و بلون أزرق, رغم أنهما مغسلوتان, مما يدل على أستخدامهما قبلا. فتح ضاري خزانة جانبية و هو يسألني عن نمرة حذائي. "43" أجبته بتعاون أكبر, أما هو فراح ينّقي بين النعول البلاستيكية حتى وجده. قدم النعل بيده إليّ, و يالها من حركة نادرة هنا, فأخذته بأحترام شديد – و كأنه شهادة فخرية لقيمتي الإنسانية – و أنا أشكره بأدب.
=أنا من الرمادي, و أنت؟
-النَجَف... حيّ الأمير.
مطّ شفته كإشارة لمعرفته بالحيّ الشهير الراقي.
-لم أنتَ هنا؟
سألني ضاري بنبرة هادئة لا تنم عن كونها نبرة تحقيق, بينما زفر مُناف بضيق من سؤال صاحبه. أجبت:
=لضربي سائق أجرة.. و تهم أخرى لا علاقة لي بها.. لم أنتَ هنا؟
تفاجأ من سؤالي, بدى أشبه بتمرّد للحظة, لكنه أعاد هدوءه لنفسه بعد أن تذكر أنه من بدء نقاشا لا تحقيقا:
-أنا أقضي فترة الخدمة العسكرية برتبة عريف..
=أنت جامعي بخدمة جيش أم متطوع بالأمن؟
قطب مُناف أكثر هذه المرة, بينما أوقفه ضاري بإشارة من يده و أجابني:
-بكلاريوس فيزياء.. و أنت؟
=طيّار.... تقريبا.
رفع حاجبيه علامة على الإندهاش و ربما عدم التصديق, قال كلماته مع إبتسامة وديّة:
-هل أنت قادر على قيادة الطائرات حقا؟
هززت رأسي مع إبتسامة بريئة للموافقة, لكنها تلاشت فور تذكري لما حدث أمس. سألته بلهجة بطيئة لكنها ثابتة:
=هل كنت مع المساعد وليد بالسرداب أمس؟
فهمني تماما, كانت كلماته متأسفة حينها:
-لا لم أكن, و كانت حادثة مؤلمة بحق – صمت لبرهة ثم رفع رأسه بنظرة آمرة – ثم عليك أن تنسى ما حدث لأنه يحدث بشكل دائم هنا.. للأسف.
"أشششش" قالها مناف و هو يرمق ضاري بنظرات غاضبة, همس بعدها: هل جننت؟ أسكت قبل أن يسمعك أحدهم.. بقيت سنة على نهاية الخدمة يا أحمق و لا نريد مشاكل.. سنخرج كما دخلنا.. دون مشاكل. لم يجبه ضاري, لكن صمته كان علامة إتفاق ضمني. قال كلماته و هو يتجه بالحديث إلي:
-عذرا على ما فعلناه بك بالسرداب.. كنّا بحاجة لضربك.. نحن مأمورين.
=لا عليك.
أبتسمت, لكنه لم يرد الإبتسامة بل ربت على كتفي بجدية و تمتم بصوت موشّى بالحزن:
-شدّ حيلك.
هذا كل ما قاله, لأنه عصّب عيناي و قيد يداي للخلف و أمرني بأن أتوجه معه لزنزانتي.
كانت الزنزانة نظيفة نسبة للقبو المزبلة, رغم أن هناك مخاط و مني و بول مشبع بجوانبها الأربعةالمسودّة, مما يدل على وجود نزيل مستعجل أثناء غيابي. و عند المرحاض الصغير - القريب للسرير- كان هناك جيشا من النمل الأحمر. دلقت الماء القليل المتبقي بالإبريق البلاستيكي, و راقبته ببلاهة يطوف بغرق عارم إلى الفوهة. الظلال الأزرق يتأملني بمشاعر باردة, لئيمة و مستهزءة بعودتي. لم أسمح لتنهيدة الإرتياح بالولادة عند إضطجاعي على السرير الضيق الصديء القوائم, كنت بحالة تحدي مع واقعي. رغبة مجنونة صارت تقتحمني, شيء كشهوة, إنما هي شهوة للحياة خارج هذا المكان. لن أنتهي هنا, و لو كان لا بد من هذا فسأنتهي بقوة و ثورة, كالحاج مصطفى, الشيخ مؤيد و نجلاء حتى! سأخرج, هكذا بهذي البساطة المستحيلة إلاّ بخيالات محبطة, و سأجلس على ضفاف دجلة لأكتب الشعر و أطالع "السيّاب" و "بوشكين" و "المتنبي", في الوقت الذي أشرب به البلنغو المثلّج *. سأكتب يوما عن هذا المكان, قصيدة أو رواية, لا فرق, المهم أن أكتب لعنة ما تفضحهم. سأسافر, و لمَ لا؟ , مع ملاك لأرض لا تحوي حزبا همجيا, جلادين, سياط و أقبية, أو معتقلات أصلا. أنها تمطر الآن, أكاد أسمع صوت المطر على الإسفلت كأنه تصفيق حار لا ينقطع, شيء ما يثير فيّ رغبة بالبكاء عند سماع صوت الرعد ينكسر من بين صدوع السماء المحتقنة بالغيم. المطر, المطر الجميل ينهمر خارج هذه الدنيا الضيقة, بدنيا أخرى, يصلني صوته فقط. يالهذا الثلاثي الموغل بالإبتزاز؛ العراق و السيّاب و المطر. هل تُبتز العاطفة عطشا بموسم المطر؟ أصوات تتردد داخلي, أضطجع على سريري المتهالك لأسمعها أفضل و سط حفيف المطر.. العراق, السيّاب, المطر.. برومنسية يهطل, فتغرورق الدنيا به, تحتفل به, تلتمع بخنوع به: حقول الأرز المخضوضر السنابل, ريش العصافير الرمادية, أحداق الزرازير السوداء الكحيلة بالوجوم, و غابات النخيل المخدّرة بصمت مُريب و شهي. يهطل مطر السيّاب- بكبرياء هاديء و بلا رعود- على الشناشيل و السطوح الإسمنتية المقفرة لمدن أرض السواد, و كذلك ضفاف الطمي اليابس على الفرات. يهطل, إنما بهسيس خفي يهطل, ليثير زوبعة صامتة.. كما الدموع كما السحاب كما الموت.. ليف النَخلِ يقطر ماء نقيا برّاقا مجّ الطعم, الليل ينتشر تدريجيا معلنا قضاء يوم آخر على ذكريات المطر؛ إعتقالي, آلامي, دموعي, و كذلك أفكاري و أحلامي المتشرنقة بالخيال. تصغر عيوني, تتمدد عضلاتي, لأنام أخيرا على ذكرى كلمات تتسرب هي الأخرى- كما المطر- للقلب الرملي العطِش:
في كلّ قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
و كلّ دمعة من الجياع و العراة
و كلّ قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغذ الفتي واهب الحياة
مطر..
مطر..
مطر..
و يهطلُ المَطر ·
أنتهى الفصل الأول
|