حفلة تعذيب (الفصل الثاني) / بقلم أحمد الكناني
أفتح عينيّ بصعوبة, جسدي يرتج فوق العربة اللعينة أبدا, و الحرارة تصهر لساني و ما تبقى من شراييني. يكومونني على أرضية بورسلانية بيضاء ندية ببخار ساخن, يعرونني بأيدي ترتدي القفازات الجراحية, و يغدقون المياه اللاهبة على ظهري و صدري. "ليّف نفسك يا حيوان", يقولها صوت أجش و هو يلقي ليفة إلى وجهي, لكنما ملامحي تبقى جامدة و أنا أحدق بالسقف المشبع بالبخار, الذي يخالطه ضوء مصابيح صفراء بمكان ما. يتململ الحارسان, يستخرجان ليَف ذوات أذرع طويلة- كتلك التي تنظف فيها فوهات المراحيض- و يدلكان ظهري و صدري و إبطيّ. أشعر ببرودة الصابون السائل على جلدة رأسي, بينما يدلكه الآخر بسرعة ثم يصب رشاش الماء العنيف عليه, كان ماءً لاهبا يترك أثر شعورٍ بأن الدماء ستفصد من مسام الجلد المتّسعة. "هاقد نظُف هذا الخنزير..ضع عليه ملابس نظيفة و خذه للمقابلة", و على الفور وضعوا عليّ ملابس سجن نظيفة, دون الإكتراث لتبللها بأرضية الحمام. حملاني للعربة و سارا نحو مكان ما. كانت رحلة طويلة, و شعرت بأنهم يدخلونني لمصعد كهربائي, ثم يعاودان المسير مرة أخرى حتى توقفا عند نقطة مرادهما. أطبقت يديهما عليّ بقوة ليجلساني على كرسي جلدي وثير, و قد شعرت عندها بأنني مستعد للموت إثر الراحة التي أعترتني. أسندت برأسي على ظهر الكرسي الفخم و سمحت لعيناي بإكتشاف المكان. كان مكتبا فخما من الخشب الأسود, الذي ثُبتت عليه ألواح زجاجية مما أعطاه لمعة مميزة. نافذة واسعة خلف المكتب, و فوقها إطار كريستالي عملاق لصورة الجلاد. أمام المكتب الفخم, صفت ثمانِ كراسي وثيرة متقابلة بشكل عامودي, و بوسط المسافة وضعت خوانات سوداء لفناجين الشاي·. أبو نضال خلف مكتبه اللامع, و على الكراسي المتقابلة جلس المساعد وليد, إلهام السالمي, و كذلك الرائد سميح. و كان الأخير يبدو مرهقا بشكل ملحوظ.
-و أعترفتَ أخيراً.. بالطريقة المعتادة.
قالها أبو نضال بسخرية و هو يفتح ملفا أمامه, ثم عاد لمخاطبتي بجدية مختلطة بنوع من التشفي:
-أحمد الخفاجي.. كان منتميا لحزب الدعوة الإسلامي*, و كان يخطط للعودة للعراق بعد إنهاء دراسته. عندما أنطلقت الرفيقة إلهام السالمي و المساعد و ليد بمهمتهما, كان علينا أن نوهم أحمد الخفاجي بأنهما أقرباء بعيدين له, و لا ننكر فقد كان ذكيا كفاية ليكتشف اللعبة, لكنه سقط بالفخ التالي حينما قدم الرائد سميح نفسه إليه كناشط سياسي بحزب الدعوة الإسلامي, و لم يكن أمامنا سوى إستدراجه للعراق بخدعة إستدعائه من قبل جهات سرية بالتنظيم المعارض, و كانت سياطنا تنتظره هنا.
أبتسموا جميعهم بفخر, أو بنوع من الراحة النفسية لإنجاز واجب ما. تأملتهم بسخط و خرجت كلمتي كبصقة و دونما شعور:
=خدعتموه ها؟
-مممم.. لا خطأ بالخديعة ما دامت توصلنا لمرادنا.
قالت ذلك إلهام السالمي و هي تنهي ما تبقى من فنجان الشاي و تلوك الثُمالة بفمها. أكملت شارحة بمزاج طيب: "القضية أننا هُنا لا نعترف بما هو ثابت أخلاقياً يا صغيري, فالأخلاق تتحتم عندنا وفق الموقف و الزمان, و الخفاجي هذا هو عدو يستحق منا الإبادة, لأن منطق القوة لأشد فعالية من قوة المنطق, و لأن الأخيرة قد تأخذ منا وقتاً و طاقة على حساب إمتيازاتنا بالبلد, لذا كان علينا أن نستخدم كل السُبل لتهشيم أي معارض, دون الإلتفات لأي جانب آخر سوى فائدتنا المطلوبة بعد كل شيء".
أنهت كلامها وسط تصفيق حماسي للمساعد وليد, الذي إلتفت إليّ أخيراً و قال كلماته بلهجة أخفض مما أعتدتها منه:
-و للعلم فقط, نحن لسنا مجموعة جلادين كما يحب أمثالك أن يتصوروننا, بل نحن نؤمن حقاً بما نفعله كشيء طبيعي و "أخلاقي" حتى.. إن أرَدتَ تسميته كذلك.. أو لتسميه حقا فكريا و تنفيذيا لنا بحكم ثقافاتنا و قناعاتنا بالحياة. مثلا, الرفيقة إلهام السالمي تحمل بكلاريوس بفلسفة الحزب و بعض الدراسات النَسَويّة, الرائد سميح يحمل شهادة تخرّج من أكاديمية السلاح الجوي ببغداد, و قريبا سيُرفّع لرتبة مقدم. و الرفيق....
قاطعته بسخرية و بصوت متهالك, إنما برغبة عارمة لأن أسترد قوتي و أهشّمه ضربا بقبضتيَّ و ليكن ما يكون بعدها:
=و أنت؟ .. أقصد ماذا تكون أنت؟
نهض من مجلسه بهدوء, أقترب مني بخطوات هادئة- لا تكاد تسمع فوق السجاد الفاخر- و لطمني بلؤم, ملصقاً وجهه بوجهي ليعلو صوته بتشفي حاقد:
-أنا حائز على إجازة بتعليم مادة التربية الوطنية بثانويات القُطُر أيها الوضيع, و كذلك أعمل كرجل أمن لحماية السلطة و الوطن من أمثالك.
لم أجبه شيئا, الدوار يتدحرج بين زوايا رأسي, في الوقت الذي نفد صبري بهم و بنتانة أنفاسهم. توجهتُ بكلامي للعقيد أبو نضال, متجاهلا المساعد الوليد الواقف لجانبي- كأنه جلاد ينتظر أن ينفذ فيّ حكما بالإعدام- و حرصت على أن يكون صوتي متماسكا:
-ماذا بعد يا سيادة العقيد؟
لم يجب, نهض بهدوء من مجلسه, تأمل وجوه الكل أمامه بلامبالاة, ثم أستدار نحو النافذة العملاقة لتأمل شمس الصباح الشتوي المعتدل, و المتدثرة بغيوم قطنية ثقيلة. تحدث أخيرا و دون أن يزيل ناظره عن المشهد المتألق للشمس و الغيوم الساطعة البياض:
=لا شيء كثير إطلاقا.. أنتَ أعترفتَ بعلاقتك بناشط من المعارضة و هذا يعني أننا سنحقق معك و مع أهلك لنعرف إن كان لهم علاقة أيضا, و لنعرف علاقتك هي الأخرى بالمعارضة- و ألتفت نحوي عندها مكملا- إلّا إذا أعترفت و وفرت علينا و على أسرتك عناء تحقيقات مريرة, خصوصا و أنّ لك زوجة شابة كما فهمنا بالجلسات الأولى للتحقيق.
-و هذا يعني أنني سأجد رغبة حقيقية بجلبها للمديرية هنا أو زيارة مديرية الأمن العامة بالنجف كي أناقشها شخصيا, و بعدها سأجلب أصدقائي ليناقشونها أيضا و حتى الرفيقة إلهام السالمي. بإختصار, سنحول زوجتك لناشطة نقاشات بفنادق العاصمة بعد أن نرحل عنها. و لو وجدنا عندكم أخوات أو صبية صغار فسنناقشهم أيضا يا حبيب أمك.
قالها المساعد وليد قرب أذني, ثم أنفجر ضاحكا و هو يلقي بجسده الثقيل على كتفيّ متعمدا, ربما ليشعرني بلؤم جسده و نتانة عرقه الأشبه بمستنقع راكد. كان الرائد سميح صامتا طيلة الوقت, يدخن بنهم و بهدوء يكاد يكون أشبه بالموت, لولا تلك الحركة الجزئية بين شفتيه و السيجارة. قال أخيراً و هو يمضي على ملف بين يدي أبو نضال: "ستعمل زوجتك و أخواتك بفنادق العاصمة لفترة ثم سأقتلهن بنفسي", قالها و مضى خارج المكتب دون أن ينظر خلفه, في الوقت الذي بصقت إلهام السالمي لجهته عندما أغلق باب المكتب. " و ماذا يعني لو أنه ضبط زوجته مع رجل بالسرير؟ هل أرتكبت جريمة؟ تخلّف, ظلامية, سو...", قاطعها العقيد أبو نضال مذكراً إياها أن من تتحدث عنه هو ضابط بسلاح الطيران و المخابرات العراقية, فصمتت تماما و هي تكتم غيظها, بينما توجه نحوي بأذرع مفتوحة و لهجة وديّة:
-لاشيء من هذا سيحدث يا عزيزي لو أنك أعترفت بمعرفتك به, و سنحقق نحن لاحقا بحقيقة علاقتك بالحزب المعارض, و لو كنت بريئا حقا فلماذا الخوف؟
=ستفرجون عني بعدها؟
-طبعا طبعا.. و لماذا سنبقى نلاحقك يا عزيزي؟ سنختفي من حياتك تماما لو أنك تعاونت معنا الآن.
قال جملته بمراوغة و محاولة واضحة بالترغيب, ثم أمر المساعد وليد أن يأخذ الملف إليّ لأوقعه: "أنه متعب فخذ له الملف بنفسك يا رفيق". أمسكتُ القلم بأصابع متعرقة و ساخطة, إنما مستسلمة تماما لنظرات أبو نضال المشجعة و إبتسامته السعيدة. أمضيتُ على الفراغات التي أشار عليها المساعد وليد بأصبعه السمين.
شيء ما يتمطى بمعدتي, رغبة بالتقيؤ المرير, رغبة بأن أخترع آلة للزمن كي أعود به ستة أشهر للخلف, لكي لا أستقل الأجرة, أو أن أفكر بالعودة لعراق الجلاد هذا أبدا. لم يعد الندم نافعا اليوم. الحارس يعصّب عينيّ و يلقني إلى عربته, يدفعني بلا كلمات أو إكتراث, لأسمع كلمات أبو نضال ساخرة و هو يودعني وسط ضحكات المساعد وليد و إلهام السالمي: "تمنياتنا لك بحياة أفضل, بهذا العالم أو العالم الآخر". طبعا, و لم لا يضحكون ساخرين؟ ليس هم من تحملوا لظى السياط, دوار الركلات, ثورات القلق, دموع الوَحشَة و التفجُّع لفراق من يحبونهم. ليسوا هم من عانى من تفتق أطرافه بشفرات الشتاء, أو رؤية من يحترمهم يُمزّقون إرباً نُصبَ عينيه. تهافت تام يسيطر على حواسي, في الوقت الذي يجدّ فيه الحارس بالدفع و التوجه بمررات لا يهمني رؤيتها البتة, فسيان عندي لو أخذتُ للمسلخ بعد الآن. دفعني لزنزانتي و صرخ بلهجة آمرة: غدا ستُنقل لسجن أبو غرَيب فكن مستعداً. ضرب الباب خلفه و أختفى وجهه عن عالمي للأبد.
* * *
أسبوع يمرّ بلا مقاطعة لهدوء المقبرة الذي أعيشه. لا شيء يذكرني بعالم الأحياء سوى صحنٌ و كأس من الماء, إضافة لأصوات الجلدات و الشتائم في بعض الممرات القريبة. و أخيراً, بعد ليلة من الكوابيس المنهكة- كوابيس عن كلاب تلاحقني و عيون تلفظ سوائل حارقة على بشرتي- دفعت يدُ المساعد وليد السرحان باب زنزانتي بلا عجلة. قال, بعد أن أشعل سيجارة "سومر", بأنهم سيقلّونني لسجن أبو غريب بعد نصف ساعة, و أنه هُنا ليؤكد لي أن مامن شيء من هذا سيحصل لو أنني ألتزمت بروح المواطن الشريف. و أكمل: المواطن الذي لا يختلط بمعارضي حكومته, الذي لا يمدّ يده على رجال أمن بلده, و الذي لا يرفض لهم أمراً كذلك. لم أجبه بشيء, بقيت مفترشاً الأرض ببرود, ثانيا ركبتي اليمنى بشكل عامودي, و مسنداً ذقني عليها. قبل أن يرحل, سألته بما كنت سأسال به نفسي لاحقا:
-المساعد وليد.
-نعم؟
=هل تمنيت لو أنك لم تلد أبداً؟
لم يقهقه كما توقعت, لم يغضب, و لم يصفعني شامتاً. لا شيء من هذا كلّه, تأملني بعيون جادة لأول مرّة و مضى دون أن ينبس ببنت شفة. كان واجما, حزيناً, ذابل الشفاه و مشتت, حتى أنه قد نسي أن يمسح نقطة هلامية قرب عينه اليسرى. حاولت أن أخترق عالم الجلّاد, أن أفهم سرّ تلك القسوة و السخط. هل هو الخوف من الوقوع بمصير الضحية, فيتحولون لجلادين قتلة؟ أم أنها رغبات ساديّة بدخائلهم المريضة؟ أم لعلها مواقف فكرية متشددة, كتلك التي تعتبر الأديان أفيوناً للشعوب, الأمر الذي يهِب الجلاد الحق- أو المبرر- ليسلخ جلود من يراهم متدينيين مثلا؟ لا إجابة, و ربما كلّ هذي الإحتمالات أجوبة صحيحة! و ما المهم هنا إن عرفت الإجابة أم لا, فهاهي خطواتهم تقترب نحوي, لتكبلني إلى مصير آخر, إلى معاناة جديدة. قاسية, ضارية, موجعة و مليئة بالأسى من نوع جديد حتما. بقيت ثانيا ركبتي, موجها النظَر إلى باب الأسى ذاك, مفكراً أنه لن يفتح إطلاقا إلّا لحفلة تعذيب أو زنزانة أخرى. أطلّوا بوجوههم الصارمة, شواربهم الكثة المشبعة برائحة التبغ, و بتلك الأيدي المتيبسة التي تحمل كلّ وقاحة الدُنيا.
"أنتصب و أستدر نحو الجدار", أمرني أحدهم بصوت متسلط إنما هاديء الوتيرة. أمتثل له, فأشعر به يدفعني للجدار بقوة, يباعد مابين ساقي, أيادي رجال تدفع كتفيّ (كأن فيّ قوة لأقاومهم بها) و كلّابات تُغلق على معصمي من الخلف, لتُفتح من خلالها بابا آخرى لأشهر طويلة من المعاناة. يسحبونني بعنف من ياقتي بلا كلام, دون عصابات وجه أو أي شيء آخر, لا شيء يكفّن عينيّ سوى الدموع المريرة, التي حطّمت حصون الصمت و الموت على شواطيء الرؤيا. همست لذاتي بمرارة: هاهنا يبدأ ألم جديد.
"إتكئي أيتها الأحلام..
حزينة على نوافذ أهدابي" *
سجن أبو غرَيب, قلعة موت و أساطير مرعبة يتناقلها الشبان عن الكهول. لا أحد منّا يعرف متى أنشيء على وجه الدقة, لكن الجميع يؤكدون أنه قائم هناك منذ زمن السلاطين و الخوازيق و "الفرمانات العثمانية" الجائرة. و عندما أحتل الإنجليز الوطَن, زجوا به آلافاً من رجال الدين و العِلم و السلاح, محاولة منهم-بائسين- لأن يقمعوا الثورة. قالت لي جدتي أنهم أخذوا "سعيد" جد والدي إلى هناك, و أنهم بتروا سبابته اليمنى لكي لا يطلق أي زناد بعد أن قمعوا ثورة العشرين*, لكنه مضى لاحقا بأعوامه السبعة و الخسمين إلى فلسطين- بعد أن أتقن الرماية بالكف اليسرى- ليطرد اليهود من جنين بعام 1948 مع فصيلة الجيش العراقي, و ليُدفن هناك مع من أستشهد من رفاقه. و هكذا, كان أبو غرَيب ذكرى عائلية تدعو للفخر بأزمان كانت السجون فيها مفاخر الرجال. لكنهم اليوم- بعصر الجلاد و القمع المنتن- يتحول السجن لحظيرة تنكيل بأبناء الشعب, و بأحفاد من حرروهم. يأتون بأحد أحفاده ليمزقونه, بعد أن لاذ عنهم زناد جده بيوم مضى, بيوم كان الإنجليزي يلقي بالخبزة على جموع جائعة "ببلد الخير"·, و يفغَر فاه ضاحكا بتبجح.
أصعدوني لسيارة "رنجروفر" أمريكية, عصبّوا عيناي و أنطلقوا نحو قلعة الدم. كان السجن محاطاً بكثبان رملية و بريّة قاسية, إذ يبدو أنه معين الخلاص-رغم هوله- نسبة لوحشية البيئة المحيطة به. من بعيد, كانت ثلاثة ذئاب تقف بفروها الصحراوي الأصهب متأملة, ناظرة إلينا بوقاحة أو بأمل إلقاء سجين جديد لمخالبها. "إنه لا شيء لما ينتظرك هناك", قالها أحد الحرس و هو ينتزعني من صفنتي نحو الذئاب الثابتة بوقفتها. ألقاني إلى الأرض الصحراوية الجافة, وجدت صعوبة بالنهوض لولا إنقضاض يد قاسية- ككربة نخل- ترفعني, و صوت يردد عبارات ترحيب مستهزأة. ودعني الحرّاس اللذين رافقوني بالعربة بإستحقار, كانوا يمثلون مشهد مأتم ما وسط ضحكات ماجنة, بينما أنطلقت بهم السيارة مخلفة عاصفة غبار. "تحرّك", صرخ الرجل القاسي الملامح و هو يضغط بقوة على رقبتي, ثم دفعني أمامه راكضا وسط ضحكات مرافقين له. سبقه أحدهم لفتح باب غرفة قريبة لمدخل السجن, الأشبه بمبنى مؤسسة رسمية من مؤسسات الوطن, و دفعني بشلوت ساحق و هو يصرخ وسط الضحك: رحبوا بسمَر العاهرة.
ضجت الغرفة بالضحك إثر تعليقه. كانت الرؤيا عصيّة لهنيهة بسبب دخان سجائرهم الكثيف, و قد خمنّت أنهم أكثر من خمسة عشرة رجلاً محشويين بهذه الغرفة, الأشبه بقاعة مسامرة و سهر. كانوا بملابس نوم متسخة, يضيئهم مصباح أصفر باهت علّق بوسط الغرفة, و كانت رائحة الخمرة المقززة لصيقة بدخان سجائرهم, لتؤلف مزيجا مضاعفا من القرف. ضحكوا كلّهم على لقب "سمَر", و قالوا لصاحبهم أنه خيّب آمالهم لأنهم كانوا ينتظرون سمر الحقيقية و ليس هذا "الديوث", كما قال أحدهم, و هو يتوجه نحوي بلكمة. تراجعت بقوتها وسط إحساس مرهف بان الدماء ستنفجر الآن تماما, و فعلاً فقد طفقت الدماء تسيل من فمي و شعرت بطعمها الصديء يسيل حتى معدتي. صرخ أحدهم بي بصوت شيطاني بأن أنهض, لم أجبه, كنت محطما و بحالة تواصل مع الألم الذي أختفى عني لأيام سبقت. حملني كحيوان هائج, صفعني عدة مرات وسط ضحكهم, ثم غاصت ركبته بمعدتي. هويت للأرض بعيون جاحضة, كنت أود البكاء لكنما الدموع محصورة بسبب تلطخ عينيّ بالدماء المتفجرة من فمي و خداي. أنهضني أحدهم من جديد, أنفرجوا عني دونما سبب, و فجأة أندفع أحدهم بكرسي وسط كثافة الدخان ليهشمه على رأسي. كان هذا آخر ما شعرت به, إذ أرتخيت وسط وجوههم المائعة إثر الدموع و الأسى, و أحسست بنفسي أنحني ببطيء- إنما بألم فظيع- أقرب لإنحناء شموع شحميّة تحت الشمس. تلاشت الوقائع من رأسي كغيوم تتفتت بسماء هائلة, و حلّ الظلام مرة أخرى.
* * *
و مرّة أخرى يتكرر المشهد. زنزانة مظلمة و صرخات تعذيب تأتي من مكان ما. لكنما المفارقة الوحيدة أنني كنت وسط مجموعة من المعتقلين, كلّهم كانوا غرباء في ذواتهم, كالحي الوجوه, مريضي العيون, لحى طويلة تخبيء ذكريات شباب متألق, و وجوم أشبه بصمت فرسان يؤخذون لساحة الإعدام. أحدهم يدندن باللغة الروسيّة, مالعلّة يقول يا تُرى؟ "عندما يرحل موسم السبات..سنحطم السجون.. سنبني أصص الزهر.. سنلوّن السماء بالزرقة و دماء الرفاق المضحين.. سنبني المجد.. و سنعيش في أبديّة الشعب... لأجل أبديّة الشعب".. أنهى الترجمة رفيقه و هو يتفحص أثرها في مسرح عيني الغاص بالغبار و الأحزان. قلت أنها كلمات جميلة, ابتسَم بخجل, ابتسمتُ أنا أيضا بجهد كأنني اسأله عن سبب البسمة المفاجئة؟ قال أنها كلماته, و أنه خريج كلية الآداب الروسيّة, متيّم بجيفارا و عازف "فلامنغو"·. يقصد, مهووس "فلامنغو". قال ذلك بينما راحت أصابعه تعزف على "فلامنغو" وهمي يحمله بطيّات الذكرى.
=هنا يعدمون بعضاً منا بكلّ صباح؟
تابع عزف مقطوعة بخياله و هو يهزّ رأسه بتلذذ.
=مالك صمتّ و أمتقع وجهك؟ نعم يعدمون بعضنا كل يوم؟
-كيف يعدمونهم؟
=و كيف يعني؟ بالرصاص طبعا.. إثنان يصوبان لصدرك, و بعد إنهاء رمي المعدومين يتأكدون من موتك برصاصة برأسك بواسطة مسدس.
لم أنبس ببنت شفة, بقيت متكوما حول ذاتي و أنا أعيش حالة وجوم غير محدودة الأبعاد. كلّ شيء كان متداخلا بدماغي, و لكن الخاطر الأوضح كان "ملاك". لن تبقى عزباء طبعا, و ستتزوج من أحدهم. "أحدهم", بهذه المرارة أهمس لنفسي, فسيان لو عرفته أو لم أعرفه, أنه سينكحها بأية حال. هنا- و بلا أدنى قصد- وجدتني أفكّر بأحاديث مُناف عن النساء و تفاهة مشاعرهن. هززت رأسي نافيا فكرة أن تنساني ملاك فور موتي, و أن تهرع للتزوير عقد الزواج لتنهيه قبل تأريخ إعدامي, هكذا لتجد عريسا لا يعرف بأنها أرملة واثق المنحوس الحظ. يردونها هكذا, امرأة بلا حب و لا معرفة برجل, كأنها يجب أن تنتظره هو بين رجال الدنيا ليأتها لتحبه و تجن به بعدها. و الأدعى للسخرية أنه يعتقد أن الحب سيولد فجأة, هكذا بلا مبررات, و أنها تحبه حقا لمجرد تعريها له و موافقتها على أن ينكحها, كأنها تمتلك الخيار حقا, أو لتبسمها و إياه على مرأى حادثة سخيفة: يا للعقول المهزلة. الجسم البشري مقرف بأخلاقيته, لأنه- ببساطة- لا يمتلك أدنى شيء منها. مقرف أن يقوم عدو بإغتصاب عدوته مراراً, حتى تستيقظ تلك الغدد داخلها, حتى تتفاعل أطرافها- لا روحها- بشكل تافه مع لحم العدو, لتبكي قذارة جسدها و لعنة الشعور السخيف المجرد من الإنسانية. ليت ذاك الزوج يفهم أن ملاك ستبقى لفترة طويلة تحس بهذا الإحساس, إحساس امرأة يغتصبها رجل من الشارع, لكنها كلما أغتصبها زاد تطويعها لبنانه, حتى تغدو سعيدة معه بعد عقد من الزمن. لكن, من يؤكد أنها ستبقى لعقد بحالة أسى و ذكرى علي؟ من يجزم بأنها صادقة بمشاعرها؟ من يقل أنها تكترث حقا لمن يضاجعها ما دام يحمل لقب "زوج" أمام الدنيا؟ "تبا لك يا مُناف.. ما كانت هذي الشكوك ستوجد لولاك". تمتمت بهذا و أنا أهوي للنوم, مستعداً ليوم قد أعدم به رميا بالرصاص. لم تكن حرارة الرصاصة ما يشغلني, لم تكن لسعة الألم ما ترجف شراييني, بل تأوهات ملاك مع رجل آخر. يالقلب الرجل المجنون فيّ, أراه مصلوبا فوق هضبة نهديها, يرفض أن ينزلونه عن عرشه.
أيتها المطرية الشفاه
يا فمك المرسوم من أجمل دهشة
يا صدركِ المتكوّر من تلّ الحنان
يا بحرك..
هناك.. زرعتُ شفتيّ فوق حبّات المطر
حبّة حبّة
لأقبّل بها كل زهرة يشبه عطرها فمك
أيتها المطريّة... من ليلك
من ليالي فمك
قطفتُ النجوم بأصابع فمي
ليل.. ليال نزل على فمك المساء
يقبّل نجمة الرحيل
ليال.. جئتُك كمدينة تُحسن الانتظار
جئتك و لم أجد سوى الآثار
أيتها المطرية
يذوب من جمالك المساء
و يشرب من فمك المطر دفء في الشتاء
و يسبح في عمق روحك البحر
ينبوعك المطر...
يرفعك العصفور في منقاره
زقزقة تغسل عشّ أساه
أيتها المطرية...
كبقايا قبلة لعاشقين
سقطت على حافة الجدول... أحبّك
كزهرة نبتت على بقايا قبلة... أحبّك
كبقايا زهرة
لم تكتمل في فمها استدارة الشفتين... أحبّك
كبقايا قبلة تلملم ينبوعها
و زهرة مقطوعة الشفاه
و بقايا قبلة... و ترحل
أحبّك أحبّك... أيتها الـ...
أحبّك مثل النهر من نبعه
مثل الصبح من فمه
مثل الليل لو غاب القمر
ليل... ليالٍ تسرّب إلي أنفاسك
فألملم الحنان من أصابعك العشر و الرمان
و أغطّيك بحرير أحلامي
أيتها المطرية الشفاه
أيتها المطرية
أيتها... ليل.. ليالٍ. ·
أنته ى الفصل الثاني
|