كان "طاليس الملطي" عالماً موسوعياً – كما قدمنا -، ولكن أهميته لا تكمن – كما أسلفنا – في هذا ولكن في "دهشته الفلسفية"، وفي كونه أول من شق درب " الفلسفة" ومشى فيها.

رحلة "طاليس" الفلسفية بدأت، كأبناء بجدته، من خلال ملاحظات وأسئلة بسيطة. ولعل على رأس هذه الملاحظات تأتي قضية "التغيير والتحول". فهذه الشجرة اليوم أورقت وأزهرت وعقدت بعد أن كانت حبة صغيرة يركبها التراب. ثم ها هي تصفر وتلقي بأوراقها على الأرض، ولربما فاجأتها بين هذا وذاك بعض النار التي تشعلها كي تتحول إلى رماد.
حبة فشجرة فنار فرماد، تغير في إثر تغير وتحول يأتي بتحول. ومع هذا فهناك "كائن ما" لا يزال موجوداً وهذه التحولات كلها لم تستطع أن تتخلص منه. و"فيلسوفنا" لا يذهب كي يفسر هذه "الظاهرة" إلى الاستعانة بالأساطير والآلهة مثل أبناء جلدته من أمثال "هوميروس" و"هزيود"، بل يحاول أن يرصدها ويتساءل عنها عله يجد تفسيراً "عقلانياً" لها.
مع "طاليس الملطي" ومع هذا النهج "العقلاني" في التعامل مع "الموجودات"، تنتهي امتيازات "رجل الدين" و"الكاهن" و"الساحر" و"المشعوذ" ويبدأ دور "الفيلسوف" في التعرف على العالم وفك طلاسمه عن طريق العقل وحده، دون تدخل من الآلهة والغيبيات.

يلاحظ "طاليس" الموجودات ويرصدها ويتأملها فيجد بين ما يجده أن "الماء (الرطوبة) موجود في كل شيء حي". وعندما يقابل هذا "الكشف" بمسألة التغيير والتحول يذهب مفترضاً إلى أن "الماء" هو الثابت في جملة "الموجودات" المتحولة. إنه "الجوهر" "والمبدأ" و"العنصر الدائم الحضور".

بعد "طاليس" سوف يأتي من تلامذته وأبناء "مدرسته" من يقول بأن "الجوهر الثابت الدائم غير المتحول" هو "الهواء"، ويأتي ثالث كي يقول بأنه "النار"، ويأتي رابع كي يقول بأنه "اللانهائي" ("أبيرون" باليونانية). ومع هذا فلن يأتي أحد في هذه "الفترة المبكرة" كي يزعم بأن هذا "الجوهر" هو "التراب"، وعلى "تاريخ الفلسفة" أن ينتظر قرناً ونصف القرن بعد "طاليس" قبل أن يأتي "أمباذوقليس" (490 – 430) كي يذهب هذا المذهب. فلقد كان غريباً على أوائل الفلاسفة وقتها أن ينظروا لهذه الكتلة الجامدة المسماة بالتراب "كجوهر" للكينونة. لذلك تراهم ذهبوا إلى أجسام سائلة أو لطيفة تستطيع أن تختلط بغيرها وتكونه في التحولات والروحات والجيئات.

مسألة أخرى يتعرض لها "طاليس الملطي" هي مسألة "النفس". فلقد لاحظ بأن "الجمادات" أيضاً، وليست الكائنات الحية فقط، تنجذب إلى بعضها البعض وتتفاعل. وذهب من خلال انجذاب المعادن للمغناطيس بأن هناك "نفوس" موجودة حتى في الجمادات. هنا يعقب "أرسطو" في كتابه عن "الحيوان" بأن طاليس لو صح ما جاء عن لسانه من "أن كل شيء ممتليء بالآلهة" فإنه كان يعتبر "النفس" أيضاً "مبدأ محركاً"... وهنا لن ندخل بعد في تعريف "المبدأ" و"المحرك" عند أرسطو، فهذه مسائل سوف نلم بها عندما نعرض لأثر "المعلم الأول " وفلسفته ...

بقي أن نقول بأن المهم في هذه المرحلة كان "خروج الفلسفة من بيضتها وشقها للقشرة" على يد طاليس. وهي في هذا الطور لم تكن بعد قد عرفت إسماً وشهرة لن تتحقق قبل عصر "أفلاطون". أما أهمية طاليس فهي ليست في "الإجابات" التي قدمها ولكن في "الأسئلة" التي طرحها و"الطريقة" التي حاول بها التعامل مع هذه الأسئلة. هذه الطريقة التي سوف يتبعها بعده تلاميذه الذين يقف على رأسهم أشهر فلاسفة "ملطية" : أنكسيماندر وأناكيسمنس ...

وللحديث بقية ....


واسلموا لي
العلماني