وإذ استطالتِ الفتراتُ التي نقضيها في القاهرة ، اكتسبتْ فلسطين طابعاً ناعِساً بل حُلُمياً . هناك كنتُ أتحرّر من ذلك الشعور الحادّ بالوحدة الذي أخذ يَقضَ مضجعي فيما بعد ، حين بلغتُ الثامنةَ أو التاسعة . وعلى الرغم من أنِّي كنتُ أشعر بانحسار وطأةِ التنظيم المُحْكَم للمكان والزمان ، وهو تنظيمٌ كان محورَ حياتي في مصر ، فإنِّي لم أستطع الاستمتاع كلياً بذلك التحرر النسبيّ منه الذي عشتُه في القدس . كنتُ أرى إقامتي المقدسيّة سارّةً ، لكنْ يعذِّبني فيها أنَّها طليقةٌ ومؤقَّتةٌ بل وزائلة . وقد تبيّن لاحقاَ أنَّها فعلاً كذلك . أما جغرافية القاهرة وبيئتُها الأغنى دلالةً والأشدُّ كثافةً فكانتا تتركّزان بالنسبة إلينا في الزمالك ، وهي الجزيرة التي تتوسّط النيلَ بين المدينة القديمة إلى الشرق والجيزةِ جهةَ الغرب ، يَسْكنها الأجانبُ والأغنياءُ المحليون . وقد انتقل أهلي إلى الزمالك سنة 1937 عندما كنتُ لا أزال في الثانية . وخلافاً للطالبية المتجانسةِ السكّان من تجّارٍ ومهنيِّين ميسورين ، لم تكن الزمالكُ تشكِّل جماعةً موحَّدةً وإنَّما كانت أشبهَ بالمركز الكولونياليّ الأماميّ يتحكّم فيه الأوروبيُّون الذين لم يكن لنا - أو لم يكد يكون لنا - اتصالٌ بهم . وقد أنشأْنا عالَمنا الخاصَّ داخل الزمالك . وكان بيتُنا شقةً فسيحةً في الطبقة الخامسة من 1 ، شارع عزيز عثمان ، تُطلّ على ما يسمَّى " حديقة الأسماك " وهي منتَزَهٌ صغيرٌ مسوَّرٌ ذو تلة اصطناعيَّة ( ال"جبليّة") وحوضٍ صغيرٍ ومغارةٍ ، تخترقه مرجاتٌ خضراءُ ومسالكُ متعرِّجةُ وتحفّ به أشجارٌ كبيرة . وفي " الجبليّة " تشكيلاتٌ صخريّة ومنحدراتٌ ، اصطناعيَّةٌ هي أيضاً ، نعدو عليها صعوداً أو نزولاً بلا انقطاع . وكنتُ أقضي جُلَّ أوقات اللعب في " الحديقة " ، كما كنا نسمّيها ، خلا أيامَ الآحاد والأعياد ، دائماً قيدَ المراقبة ، تحت مرمى صوتِ أمي يترامى إلينا ، أنا وشقيقاتي ، دائمَ الوضوح في غنائيَّته .
هناك أمثِّل أدوار " روبنسون كروزو " أو " طرزان " وألعب " الاستغمّاية " ، عندما تنضمّ أمي إليّ ، فأختفي عنها ثم أعود إليها . وكانت أمي تلازمنا باستمرارٍ تقريباً في أركان عالمنا الصغير ، جزيرةً صغيرةً تُحْدِق بها جزيرةٌ أخرى . في تلك السنوات الأولى ، كنتُ أرتاد مدرسةً تَبْعد بضعةَ صفوف من البنايات عن منزلنا ، هي " مدرسة الجزيرة الإعداديّة " . وللرياضة ، كنّا نقصد " نادي الجزيرة الرياضيّ " ، وفي عطل نهاية الأسبوع ، " نادي المعادي الرياضيّ " حيث تعلّمتُ السباحة . ولسنواتٍ ، كان يومُ الأحد يعني لنا " مدرسةَ الأحد " ، تلك المحنةَ العبثيةَ الواقعةَ بين التاسعة والعاشرة صباحاً في " إعداديّة الجزيرة " يليها القدّاسُ الصباحيُّ في " كاتدرائيَّة جميع القدّيسين " . أما في أماسيِّ الآحاد ، فكنتَ تجدنا في كنيسة الإرساليّة الأميركيّة في الأزبكيّة ، نَتْلو - كلَّ أحديْن من ثلاثة آحاد - صلاةَ المساء في الكاتدرائيّة ذاتها . المدرسة ، الكنيسة ، النادي ، الحديقة ، البيت - كان هذا الحيّزُ المحصورُ والمحدَّدُ بدقةٍ من هذه المدينة الجبارة يختصر عالمي كلَّه حتى سنواتٍ متأخِّرةٍ من مراهقتي . وإذْ أضحى جدولُ أعمال حياتي أكثر تطلباً ، فقد كانت الانحرافاتُ المؤقتةُ عنه بمثابة استراحاتٍ تَخْضع لإجازاتٍ صارمةٍ تعزِّز من سطوته عليّ .
من الطقوس الترفيهيَّة الأساسيّة لسنواتي القاهريَّة " مشوارُ السيارة " حَسبَ تعبير أبي ، تمييزاً له عن السَّوْق اليوميّ بالسيارة إلى العمل . خلال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ، كان أبي يملك مجموعةً من السيارات الأميركيَّة السوداء ، كلُّ واحدةٍ منها أكبرُ من سابقاتها : سيارة فورد ، وسيارة بليموث " سيدان " ممتازة ، ثم اقتنىعامَ 1948 سيارة كرايزلر " ليموزين " ضخمة . وكان دائمَ الاستخدام للسَّائقين ، وقد أجاز لي التحدُّثَ مع اثنيْن منهم ، فارس وعزيز ، حين لا يكون معنا في السيارة . أما خلال رواحه إلى العمل وإيابه منه ، فيصرّ على الصمت الكامل . وعندما أرافقه ، يبدأ الرحلةَ من البيت في مزاج بيتيٍّ ، إذا جاز التعبير ، مستجيباً لحديثي ، إلى حدٍّ ما ، بل قد يتكرَّم عليَّ بابتسامة ، إلى أن نبلغ " جسر البولاق " الذي يَصِلُ الزمالكَ باليابسة ؛ وإذّاك ينكمش تدريجياً ويَصْمت ، ثم يتناول أوراقاً من حقيبته ويأخذ يراجعها . ومع وصولنا إلى تقاطع " الإسعاف " و " المحاكم المختلطة " ، على تخوم المركز التجاريّ الأوروبيّ ، يكون قد انغلق دوني كلياً ، فلا يجيب على أسئلتي بل لا يكاد يَعْترف بوجودي . هكذا يتحوّل أبي إلى ربّ عملٍ مهيب ، أيْ إلى شخصيةٍ ما لبثتُ أن كرهتُها وخشيتُها ، لأنَّه كان يبدو فيها مثلَ نسخةٍ أضخمَ وأقلَّ آدميَّةً عن الرجل الذي يُشْرِف على حياتي .
في الأماسيِّ والأعياد ، كان يستغني عن السائق ويأخذنا في " مشاوير سيارة " يقضيها هذا البطريركُ المضيافُ في الثرثرة والنكات ، فأُدرِك بطريقةٍ نصفِ واعيةٍ أنّ تلك المشاوير هي بمثابة انعتاقٍ له قبل أيّ شيء آخر . كان يَنْزع عنه السترةَ وربطةِ العنق ، مقتصِراً على القمصان ذاتِ الأكمام القصيرة أو ستراتِ الشتاء الرياضية ، ويتّجه إلى واحدٍ من أمكنة ترفيهٍ معيَّنةٍ سَلَفاً : ال " مينا هاوس " ، بعد ظهر الأحد ، لاحتساء الشاي والاستماع إلى حفلةٍ موسيقيّة متواضعة ؛ وإلى " السدود " بعد ظهر أيام السبت ، وهو كناية عن سدٍّ منمنمٍ بناه البريطانيون على دلتا النيل تُحْدِق به المتنزهاتُ الخضراء وتخترقه سكّةٌ للعربات كانت وظيفتُها الغامضةُ تثير استيهاماتِ الهربِ لديّ ( واستحالتَه كذلك ) ، نتجوّل فيها كما يحلو لنا ، نأكل السندويتش هنا أو نَقْضم تفاحةً هناك ، على مدى ساعتيْن أو ثلاث ساعات . أيامَ الأعياد كان محتوماً أن نعرِّج على الأهرام في طريقنا إلى الصحراء الغربية ، حيث نتوقَّف عند نقطةٍ غير معيّنة ، فنَفْرش بطانياتنا أرضاً ونُخْرج وجبةَ طعامٍ سخيةً ، ثم نتسلّى بقذف حجارةٍ على أهدافٍ ما ، والقفزِ على الحبل ، واللعبِ بالكرة . وحدنا كنا ، خمسةً أو ستةً أو سبعةً ، بحسبِ درجة نموّ العائلة . لم نَرْتَدْ مرةً مكاناً عاماً كمقهى أو مطعم ، باستثناء ال" مينا هاوس" ، ولم نذهبْ مرةً برفقة أحد . ولم نقصدْ مرةً مكاناً معروفاً ، بل نتوقّف عشوائياً في بقعةٍ ما متفرعةٍ من الطريق الصحراوية . وفي أماسيِّ الأعياد ، كنا نتجوّل جنوبيَّ " باب اللوق " حيث الأبنية الحكوميّة تتلألأ بألوف الأنوار الكهربائيّة ذاتِ الألوان الصفراء الرمليّة وبأضواء ال" نيون " الخضراء الفاقعة . وكانت تلك الأبنية تشكِّل " الإنارات " ، كما يسمّيها أبي ، نزورها بمناسبة عيد ميلاد الملك أو افتتاح دورات البرلمان .
لِشِدَّةِ ما كنتُ محمياً ومحْتَجَزاً داخِلَ ذلك العالَم الصغيرِ الذي بناه أهلي ، لازمني شعورٌ بأنّ وراء حدود العادات والرحلات المبرمَجَةِ بدقةٍ متناهية ، عالماً كاملاً يتأهّب لاختراق السدود لِيغمرِنا بلْ لِيجرفَنا جرفاً تحت لُجَجِه . مطلعَ الأربعينيّات ، كانت القاهرةُ مدينةً مكتظّةً بالسكّان إلى حدٍّ كبير ، تمركَزَ فيها ألوفُ الجنود من جيوش الحلفاء خلال الحرب العالميّة الثانيّة ، أَضِفْ إليهم عدةَ جالياتٍ أجنبيّة كبيرة من إيطاليين وفرنسيين وإنكليز ، ناهيك عن الأقليات القاطنة فيها أصلاً مثل اليهود والأرمن والسوريين - اللبنانيّين ( الشوام ) واليونانيِّن . وقد تُطالِعك بالمصادفة في القاهرة مسيرةٌ للجنود هنا ، أو استعراضٌ عسكريٌّ هناك . ومع أنّ أبي وعدني مراراً بأن يأخذني إلى أحد المهرجانات العسكريّة الترفيهيّة ، فقد أَخْلَف بوعوده في كل مرة . في القدس ، كما في القاهرة ، شاهدتُ مسيرات الجنود البريطانيين وجنود ال" أنزاك " * يَنْفخون في الأبواق ويَقْرعون الطبول ، على أنِّي لم أَفْهم لِمَ كان يتمّ ذلك ولأجل مَنْ ؟ فافترضتُ أنّ هدف أولئك الجنود في الحياة أسمى من هدفي أنا ، وأنَّه - مِن ثَمَّ - أعمقُ من أنْ أدركه .

* " القوات الأوسترالية النيوزيلاندية المشتركة " .

يتبع إن شاء الله