ومن عاداتي في ذلك الزمان المعاينةُ الدائمةُ لواجهات المطاعم والملاهي المحظورة عليّ ، تزيِّنها يافطاتٌ تعلن : (( نرحِّب بكافة الرُتب )) ، فلم أفقه معناها هي أيضاً . وصَدَفَ أنَّ أحد هذه الأمكنة المحظورة - مطعم " سولدز" - يقع في بناية " إيموبيليا" قُرْبَ (( شركة السهم للقرطاسية )) Arrow Stationary Company لصاحبها عمي أسعد ( وهي هِبَةٌ له من أبي ) وكان كثيراً ما يأخذني إليه . "أَطعِم الصبيَّ " ، يَنْهر عمي الموظَّفَ الناعسَ القابعَ وراء المنضدة المستطيلة ، فأروح أَلْتَهِمُ سندويتشات الجبن واللفت المخلَّل حتى أُتْخَم . في البدء ، ظننتُ أنّ عبارة " كافة الرتب " تعني أنّ المدنيِّن من أمثالي مسموحٌ لهم بالدخول ، على أنِّي سُرعان ما أدركتُ أني لا أملك أيّ رتبة . وكان مطعم " سولدز" والعم " آل" ، كما كنا نسمّيه ، يرمزان إلى برهةِ حريةٍ ، مؤقتةٍ ، قصيرةٍ جداً ، بل زائلةٍ ، نظراً إلى قوانين الغذاء الصارمة التي كانت تَفْرضها عليَّ أمي .
بحلول العام 1943 ، بدأ والداي يَفْرضان عليّ نظامَهما الانضباطيَّ بصرامةٍ كاملة ، بحيث أنّ عبارة العم " آل " الصادرةَ من القلب - " أَطْعِمِ الصبيَّ " - قد اكتسبتْ عندي ، حين مغادرتي مصر إلى الولايات المتحدة عام 1951 ، عذوبةَ حنينٍ سخيفٍ وسعيدٍ معاً هيهاتَ أن تُستعاد . وعندما توفي العم " آل " في يافا بعد ذلك بأربع سنوات ، كان مطعم " سولدز " قد أَغلق أبوابه هو أيضاً .
خلال النصف الأول من الحرب أَخَذْنا نقضي أوقاتاً أطول من المعتاد في فلسطين . عام 1942 استأجَرْنا منزلاً لقضاء عطلة الصيف في رام الله ، شمال القدس ، ولم نعدْ إلى القاهرة إلا في تشرين الثاني / نوفمبر . ذلك الصيفُ غيّر مجرى حياة عائلتنا على نحو دراماتيكيّ ، إذْ طرأ تحوّلٌ على تحركاتنا بين القاهرة والقدس ، وقد كانت قَبْلاً فجائيةً ومرتبكةً . كنا نسافر عادةً في القطار من القاهرة إلى اللِدّ مع اثنيْن من طاقم الخدم على الأقل ، وكميةٍ كبيرةٍ من الأمتعة ، ويُخيِّم علينا جوٌّ محموم ، في حين أنّ العودة كانت دائماً أيسرَ وأقلَّ هياجاً . ولكنَّنا في ذلك العام 1942 لم نستقلَّ القطارَ ، أنا وأمي وشقيقتاي روز ماري وجين وأبي ، بل ارتحلنا بالسيارة . وبدلاً من ركوب قطار " الحافلات السريريّة " الفخم من محطة " باب الحديد" القاهريّة ، للقيام برحلة الساعات الاثنتيْ عشرة إلى القدس ، اضطررنا في أيار/ مايو من ذلك العام إلى الفرار أمام زحف الجيش الألمانيّ المداهِم في سارة أبي البليموث السوداء ، وقد طُلِيَتْ مصابيحُها باللون الأزرق للتعتيم ، وتكدَّستْ حقائبّنا الجلدية التي وضّبناها على عجلٍ فوق رفّ الأمتعة وداخل صندوق السيارة . استغرقتِ الرحلةُ إلى قناة السويس ساعاتٍ عديدةً التقيْنا خلالها عدة قوافل عسكريةٍ بريطانيّةٍ تتّجه صوب القاهرة ، وهو ما اضطرنا إلى مجانبة الطريق والانتظارِ ريثما تمرّ الدباباتُ والشاحناتُ وناقلاتُ الجنود من أمامنا متجهةً إلى معركةٍ أسفرتْ عن هزيمةٍ لقوات الحلفاء سوف يَعْقبها هجومٌ بريطانيٌّ مضادّ تُوِّج بمعركة " العلمَيْن " في تشرين الثاني/ نوفمبر .
اجتزنا الرحلة الطويلة ليلاً وفي صمت مُطْبق . وكان أبي يتعامل مع طرقات سيناء غيرِ المحددة المعالم ، بعد أن عَبَرْنا قناةَ السويس عند جسر القنطرة دون احتفالٍ ولا جلبة ، إذ ألفيْنا مركزَ الجمارك مهجوراً عندما بلغناه بُعيْدَ منتصف الليل . هناك التقينا السيارةَ المدنيةَ الوحيدةَ السائرةَ في الاتجاه نفسه ، وكانت سيارةً مكشوفةً يقودها رجل أعمالٍ يهوديٌّ من القاهرة لا يصطحب معه أيَّ راكبٍ ولا يحمل من الحوائج غيرَ زجاجاتِ المياه المثلجة ومسدَّسٍ . تَعَرَّفَ الرجلُ إلى أبي ، واقترح أن نخفِّف عن البليموث بعضاً من حمولتها - فنقلنا عدةَ حقائبَ ضخمةٍ إلى سيارته - وطَلَبَ ، في المقابل ، أن نَسْمح له بأن يسير في أعقابنا . أَذْكر جيداً التعبير الذاهلَ المتْعَبَ على وجه أبي وهو يوافِقُ على هذا الترتيب الأعرج . وهكذا مضينا بصمتٍ خلال الليل ، السيارةُ الثانية تحثّ السيرَ وراء الأولى ، ووالدي يتولّى بمفرده رفعَ الرمال عن الطريق الضيّقة الملتوية في تلك الليلة الليلاء ويتحمّل ، فوق ذلك ، ضغطَ عائلته الصغيرة داخل السيارة ، فيما رجلُ الأعمال اليهوديُّ المصريُّ في الخارج يستعجله من الخلف ، موقناً أنَّه يفرّ إنقاذاً لحياته .
في مَطْلع ذلك الشتاء سمعتُ صفّارات الإنذار تَزْعق إنذاراتِ ال " خطر " ثم تعود لتُطْلق إعلاناتِ ال " أمان " . وخلال غارةٍ ألمانيةٍ ليلية ، بينما كنتُ فوق ذراعيْ أبي ، مُلْتحفاً ببطانية ، يحملني إلى المرأب - الملجأ ، دَهَمَني شعورٌ استباقيٌّ غامضٌ ب" أننا " في خطر . ومن الطبيعي أنّ المغزى السياسيّ ، ناهيك عن العسكريّ ، لِوَضْعنا ، كان يتعدّى مداركَ الطفل ذي السنوات الست ونصف السنة الذي كنتُه . على أنّ أبي ، بصفته مواطناً أميركياً في مصر ، التي تنتظر إنزالاً للقوات الألمانيّة بقيادة رومل على الإسكندريّةِ فالقاهرةِ ، لا بد أنَّه فكر بأنِّه مستهدَفٌ بمصيرٍ لا يُحسَد عليه . وكان قد غطَّى جداراً كاملاً من مدخل المنزل بخرائط ضخمةٍ لآسيا وإفريقيا الشمالية وأوروبا . وكان كلَّ يومٍ يحرِّك الدبابيسَ الحمراء ( قواتِ الحلفاء ) والسوداءَ ( قوات دول المحور ) من موقعٍ إلى آخر لقياس التقدم والتراجع الذي يحقِّقه كلٌّ من المعسكريْن المتنازعيْن . بَدَتْ لي الخرائطُ مثيرةً للقلق أكثرَ منها غزيرةَ المعلومات ، فكنتُ أطالبه ، بين وقتٍ وآخر ، بأنْ يَشْرح لي مجريات الأمور ، فيُعْضِله الأمرُ؛ وقد كان مشتَّتَ الذهن ومهموماً وشارداً . ثم غادَرْنا فجأةً إلى القدس في تلك الرحلة الليليّة الصعبة . يومَ تقرَّرَ الرحيل ، جاء إلى البيت لتناول الغداء وطلب من أمّي ببساطةٍ أن توضِّب الأمتعة وتتهيَّأ للسفر ، وانطلقنا عند الخامسة من بعد الظهر ، تتهادى بنا السيارةُ في شوارع القاهرة شبهِ الخاوية . كان زمناً موحشاً ومحيِّراً ، نَهْجر فيه عالمي الأليفَ دون سبب ، متّجِهين نحو الغسق الكئيب .
ظلّت صُوَر أبي في انغلاقه وصمته ، وهي صُوَرٌ توالت خلال ذلك الصيف الطويل والمربِكِ والغريبِ في رام الله ، تراودني مدى سنوات: جالساً على الشرفة ، محدِّقاً إلى البعيد ، يدخِّن بلا انقطاع . " بلا ضجة ، يا ادوارد " ، تَنْهَرني أمي ، " ألا ترى أنّ أباك يحاول أخذَ قسطٍ من الراحة ؟ " . ثم نذهب في نزهةٍ في البلدة الوَريِقة الأنيسة ذاتِ الأكثريّة المسيحيّة ، شمالَ القدس ، وأنا متشبِّثٌ بتلابيبها بعصبيةٍ بالغة . لم يَرُقْني منزلُ رام الله ، مع أنَّه شكَّلَ الإطارَ المثاليَّ لذهول أبي وكآبته في محنته الغامضة . وكان هناك درجٌ خارجيٌّ شديدُ الانحدار ، يَصْعد موارباً من حديقةٍ يَفْصل بين أرجائها ممرٌّ حجريٌّ على جانبيْه أثلامٌ من التراب البُنّي لا يَنْبت فيها غيرُ بعض العلّيق ، وثمة شجرتا سفرجلٍ هزيلتان تَحْرسان البيتَ بمحاذاة شرفة الطبقة الأولى حيث يقضي أبي جلَّ وقته . أما الطبقة الأرضيّة فمقفلة وخالية . ولما كنتُ قد مُنعتُ من الدَّوْس على الأثلام ، فإنَّه لم يبقَ لي من ملعبٍ غيرُ الممرّ الحجريّ الضيّق بين البوّابة والدَّرَج .
لم أَفقهْ ما الخطب ، لكنّ رام الله كانت المكانَ الأوَّلَ الذي سمعتُ فيه عبارةَ " انهيار عصبيّ " مصحوبةً بضرورة الحرص على " راحة بال " أبي ، وهي عبارةٌ اقتَبَسَها من كتاب بالعنوان نفسه كان موضوعَ أحاديث عديدةً له مع أصدقائه . حَرَمَتْني صيفيّةُ رام الله ، بكسلها المضني ، مما أحتاج إليه بداهةً من تمحيصٍ وتفسيرٍ ، أنا الطفلَ اللامعَ ذا السنوات الستّ والنصف . هل كان أبي يخشى شيئاً ما - أول سؤال وددتُ طرحه - : لماذا يَجْلس هنا تلك الفتراتِ المطوَّلةَ ولا يتفوّه بكلمة؟ وجواباً على سؤالي ، كانوا يَصْرفونني إلى نشاطٍ مفيدٍ ، أو يَفْرضون عليّ عقوبةً ما ، أو يرمونني بإشاراتٍ ملغزةٍ وناقصةٍ لا تَشْفي الغليل . سمعتُهم يُعْربون عن قلقهم المتزايد من الارتفاع المباغت في ضغط دمه . وقيل أيضاً إنّه أرسل ابنَيْ عمي أسعد ، آبي ( ابراهيم ) وشارلي ، إلى أَسْمَرا ، فانشغل بالُه - حتى المرض - من أن يتعرَّضا للقتل هناك . وقيل أيضاً إنَّ رجل أعمالٍ قاهرياً مشبوهاً حاول عَبَثاً إغراءَ أبي بصفقةٍ تجاريةٍ من صفقات الانتفاع من الحرب ( وعرفتُ أنَّ أبي رَفَضَ العرض ) .
ولكنْ ، هل تشكِّل تلك الأحداثُ سبباً كافياً لانهيارٍ عصبيّ ؟
مهما يكن السبب ، فما إنْ عدتُ إلى القاهرة ، حتى بدأ مسارُ تحوّلٍ في حياتي ، بل شجّعتني أمي خصوصاً على الاعتقاد أنّ المرحلة الأّوفر سعادةً والأقلَّ إشكالاً من حياتنا قد ولّتْ إلى غير رجعة . فانتكستُ أكثرَ فأكثرَ في حالة عمومية من التسيُّب . " أنت شاطر جداً " ، كانت تقول المرَّةَ تلو الأخرى ، " لكنَّكَ بلا شخصيّة وكسول وشيطان " ، الخ . وقد حَدَّثَتْني أيضاً عن إدواردٍ سابقٍ ، يسمُّونه أحياناً " إدوارد بيانكو " ، وَرَوَتْ لي مآثره ومواهبَه وإنجازاتِه بما هي إرهاصاتُ وَعْدٍ مبكّرٍ لفترةِ ما قبلَ 1942 مالبثتُ أن خُنْتُه . ومنها علمتُ أنّ إدوارد ذاك حَفظَ عن ظهرِ قلبٍ 38 أغنيةً وترنيمةً لتنويم الأطفال ، يغنّيها أو يلقيها إلقاءً ببراعة كاملة ، وهو لم يتجاوز السنةَ والنصفَ من العمر . وقصّت عليّ أيضاً أنً ابن عمي آبي ، عازِفَ ال " هارمونيكا " الماهر ، دَسَّ ، عن قصدٍ ، نوطةً نشازاً في أدائه لأغنية " جون بيل " ، فأَطْبق إدوارد قبضتَيْه وأَغْمَضَ عينيْه وزَعق انزعاجَه من النشاز ثم غنَّى الجملةَ الموسيقيةَ الصحيحة... وأنّ إدوارد كان يَنْطق بجُملٍ كاملةٍ في الإنكليزية والعربية وهو لم يتجاوز خمسة عشر شهراً ، باستثناء استخدامه الهجينِ ل " أنتَ " ، بدلاً من " أنا " ... وأنّ مَقْدرته على قراءة البسيط من النثر كانت ناميةً جداً وهو بعدُ في الثانية والنصف أو الثالثة ... وأنَّه أجاد الحسابَ والموسيقى في الثالثة أو الرابعة بمثلِ ما يجيدها ابنُ ثماني سنوات أو تسعٍ . وقالت إنَّ هذا الإدوارد السابق ، المتقدِّم على عمره ، كان وسيماً ، لعوباً ، سريعَ الخاطر ، حاذقاً ، يستمتع باللعب الصاخب مع أبيه السعيد . لم أستذكر أياّ من كل ذلك بنفسي ، لكنّ نسْجَ أمي الدائمَ على هذا المنوال ، معزَّزاً ببضعة " ألبومات " من الصور الفوتوغرافية لتلك السنوات - بما فيها صورٌ عن صيفٍ رومانسيّ في الإسكندرية - أكدّتْ مزاعمها .


يتبع إن شاء الله