غير أن كل تلك الذكريات، خلا الأسف على ما مضى، تبددت بعد ايام 1942 الكئيبة. فقد عدنا الى القاهرة في تشرين ثاني/نوفمبر بعد "معركة المعَلَمين" وعدت انا الى "اعدادية الجزيرة" صبيا كثير المشاكل يبتكرون له علاجا مزعها تلو الآخر. فإذا أنا، من سن التاسعة الى حين عيد ميلادي الخامس عشر، منشغل ابدا بممارسة علاجات شفاية شخصيةـ بعد انتهاي الدروس وخلال عطل نهايات الاسبوع: من عزف على البيانو، الى القيام بالتمارين الرياضية، فالذهاب الى مدرسة الاحد، وركوب الخيل والملاكمة.. أضف إليها معناة عطل الصيف في كل صيففي تلك القرية المملة من قرى جبل لبنان التي تعلق بها ابي اكثر من أي مكان اخر على وجة الارض. وكان والدي محور نظام اداري متكامل يتحكم بوقتي دقيقة بدقيقة ويحدد، بناء عليه، موقف ابي من نهاية ايامه وهو نظام لم يترك غير فسحات انفراج نادرة استمتع بها وتمنحني الاحساس بأني منفلت من قبضته.

مزح ابي من شخصه القسوى والصمت المطبق والعاطفة العجيبة، يربط بينها جميعها كرمٌ مفاجئ، لم يُشف عليلي، لسبب ما، وظللتُ، ألى فترة جدّ متأخرة، عاجزاً عن صرف النظر عنها (كأن خطرها زال عني) او عن فهمها فهماً كلياً. ولكن، لما كانت قاعدة تلك البنية الانضباطية المصممة لتسيير حياتي قد انبثقت من مصائب العام 1942، فان خطر الالتزام بوصفاتها الختلفة اورثتني عزعا من الانتكاس الى حالة رهيبة من الفوضى الكاملة والضياع، وهو فزعٌ لا يزال يلازمني.

وسرعان ما تجسدت تلك الحالة الخطرة في اغراءات القاهرة، الجسدية منها والمعنوية، تناديني من خلف اسوار ذلك الروتين الحياتي المبرمج بعناية والمدار بصرامة شديدة. فلم اخرج مرة مع فتاة، بل لم يُسمح لي بأن أزور أماكن اللهو العامة او المطاعم، ناهيك عن ارتيادها. وكان والدي يتناوبان على تحذيري دائما من الاقتراب من الناس في الباص او الحافلة، ومن تناول المشروبات او الاطعمة من محل، او بسطه والاهم انهما صورا لي بيتنا والعائلة على انهما الملجأ الوحيد في زريبة الرذائل المحيطة بنا تلك.

أن أُنثذ نفسي مما كان يحدث لي آنذاك: تلك هي المفارقة التي عشتها. وتصورت ان الاسوء منها هو الانهيار الكامل، ربما كذاك الذي عاناه ابي من صيف العام 1942. والواقع ان ابي انكب بعدها جديا على اعادة بناء تجارته وتنظيم اوقات لهوه، مركِّزا تركيزا مستجدا على هذا الاخير في تنامي ثروته المتسارع. وبحلول العام1951 اقلع عن الذهاب الى مكتبه بعد الغذاء، وبدأ يلعب "البريدج" وقد تحول هذا الى هوسه الأكبر، سبعة ايام في الاسبوع، كل اسبوع من اسابيع السنة، الا حين يكون على سفر. كان يأتي الى البيت لتناول الغذاء في الواحدة و النصف ثم يستسلم لقيلولة تستمر حتى الرابعة، يأخذه بعدها السائق الى النادي ليلعب الورق حتى السابعة والنصف أو الثامنة. وقد يعود الى لعب الورق بعد العشاء.

بعد عطلتنا الصيفية في رام الله، ظهرت مؤلفات عدة لـ "إيلي كولبرتون" في اماكن مختلفة من شقتنا القاهرية، ومعها ادوات لعب البرديج للاعبين منفردين. كما ظهر غطاء جديد من اللباد الاخضر لطاولتي لعب ورق القابلتين للطي اللتين كانتا عندنا. وكان ابي في أماسي الثلاثاء يقصد منزل فيليب سوقي قرب الاهراب للعب " البريدج" صباحا في احد المقاهي. ويثنّي بعد الظهر وأخيرا يترأس مساء طاولة اللعب في منزلنا او عند احد الاصدقاء. وقد ازدادت الهوة اتساعا بيني و بينه بعد ان اكتشفتُ، واكتشف هو مع الاسف اني مُفتَقر الى ايه موهبة في لعب "البريدج". كان ذا طاقة خارقة في الالعاب التي تمارس داخل البيوت، في حين لم اكن أجيد أياً منها. حاولن أن يعلمني لعب " الطاولة" وكانت النتائج كارثية. فبعد ان كان يراقبني وانا أعد الخانات بعناء، ينتزع حجر " الطاولة" من تحت اصبعي بنزق وينقله بسرعة الى الخانة الصحيحة قائلاً: "لماذا تعدّ الخانات هكذا" –وهنا يأخذ بتقليد طريقة عدي للخانات، راسما تكشيرة بلهاء على وعجهه، فكأنني متخلّف عقلياً يسعى يائساً للانتقال من الخانة الثالثة الى الخانة الرابعة –"عندما تكون هذه هي الطريقة الصحيحة للعد؟". ثم يدعوني الى اللعب مجددا، إلا انه ينتهي الى لعب المباراة كلها بمفرده قائلا:" أنها اسرع هكذا!" – وأنا قابع قبالته لا احرك ساكنا فقد لعب دوري ودوره معاً!.

ما من لعبة ورق لم يعرفها، او طقس من طقوس ملاهي الميسر لم يسع لتعليمي اياه، ولكن بلا جدوى، ورغم انها شرح لي اكثر من ثلاثين مرة كيفية لعب البوكر والباكاراه، فإني لم انجح في لعبة هذا ولا ذاك.

خلال صيف 1953، أي بعد عام على تعلمي لعب الـ "بول" في المدرسة الامريكية الداخلية، ظننتُني قادرا على استداجه بخبثٍ للعب مبارة "الكرة رقم 8" في مقهى صغير في ضهور الشوير، قبالة "مقهى السيرك". نسبتُ تردده الى تخوفه من الهزيمة لكن ذلك كان مجرد حيلة. فقد ادركتُ لاحقا انه اصطنع التردد، وربما بعد الاعجاب بي، لكي يشجعني على المضي في الامر حتى النهاية. هكذا نلعب البليارد في الولايات المتحدة" صحتُ صيحتي المظفرة شأن محترفٍ يتحدث إلى مبتدئ، "أما إذا ضربت الكرة جانبيا، فتلك هي الطريقة الانجليزية". أسقطتُ كرتين في الجيب وأخطأتُ الثالثة. فتناول أبي عصا البليارد، وقد تحول فجأة من هوٍ متواضع ومُحابٍ على لاعب محترف مرهوب الجانب. لم تكن مبارتنا تلك بالمباراة على الاطلاق، حتى عندما انتقلنا الى طاولة البليارد ذي الكرات الثلاث حيث ظننتُ اني سأكون أوفر حظاً. فقد رماني في حالةمن الارتباك الكلي والعجز دفعاني الى التأتأة، فأخذت أُلقي باللائمة على العصا حينا وعلى النادل الساخر حينا آخر وعلى قلة التمارين أحيانا. "اذا، يسمونها الطريقة الانجليزية!" قال في الطريق العودة الى البيت، بلهجة لاذعة صادرة عن لاعبٍ يسيطر سيطرة محكمة على ضربةٍ ولفة.

لقد اعفته الالعاب من هذر الكلام. ومن بذل ما يتعدى الحد الادنى من المشاعر. وربما لهذين السببين أدمن لعب الورق وقد بات عنده مبرر وجود. بل كان وسيلة لتحرره من الهواجس الرازحة عليه في قطاع من الحياة رسمت فيه القواعد سلفا ويسير عليه نظام روتيني، ومهربا من مواجهة البشر او الاعمال او المشكلات.

كان "البريدج" وألعاب الورق عموما جزءً من استعادته لعافيته بعد ازمة عام 1942. "انها وسيلة للاسترخاء" على نحو ما قال مرة او مرتين، واصفا تسلية تشغله مالا يقل عن اثنتي عشرة ساعة يوميا خلال عطل الصيف، وأربع ساعات يوميا خلال أيام العمل. ولست اذكر فراغا باعثا على اليأس كتلك الاوقات التي أُضطر فيها وأنا بعد صبي الى مراقبته وهو يلعب الورق. حين أكون جالسا إلى جانبه، كانت كل ورقة ينقفها على الطاولة، وكل رهان وكل تشريح مقتضب يمارسه للدورة المنقضية، تُكرِّس خضوعي العقلي والمعنوي له وتفاقم من احساسي بسطوته علي. كان لا يوجه اليّ اي كلمة واحدة، ولا يلفت نظري الى ما قد يكون مثيراً في الاوراق التي بيده، لا شيء غير الرتابة اللامتناهية لمباراة لعب الورق، ورغبته الواضحة في ان احضرها لاسباب لم أتبيّنها بعد.

كان الوقوف او الجلوس قربه خلال السنوات الاولى بعد حادثة العام 1942 بمثابة عقوبة لي على اساءة التصرف، وفكرة بدائية تفتق عنها ذهن والديّ لإبعادي عن المشاكل عندما لا اكون في المدرسة أو (وهو أمر أسوء) خلال عطل الصيف في لبنان. كان إجباري على مشاهدته يلعب الطاولة او البريدج لساعات متوالية تجربة مخدِّرة للذهن. بل إن تلك الفترات من الملل الالزامي كانت مطالع خطة اشمل للحد من طاقتي على الشيطنه:" وديع، ارجوك خذ الصبي معك"/ تقول امي بائسة "انه يسبب لي مشاكل كثيرة" وحين لا تكون خدمات وديع متوافرة. ترسلني امي في مهمة طويلة وعبثية أو تأمرني: " اخلع ثيابك واذهب فورا الى السرير". ومعلوم ان الكتب والموسيقى وسائر انواع التسلية ممنوعة في السرير. ومثلها الطعام والشراب. وممنوعٌ أيضا اقفال باب غرفة نومي، وهو ما يسمح لامي باقتحامها دون معوقات ودون سابق انذار لتتأكد من اني مقيد بالتعليمات. اما الفائدة الوحيدة من تلك العقوبات القاتلة فهي اني اكتشفت ثلاثة احجار شطرنج في مؤخرة احد الادراج، فأخذتُ أتمرن على رميها والتقاطها، حتى تلعمتُ بمفردي فنّ التلاعب البهلواني بالكرات الثلاث.

يتبع إن شاء الله تعالى