ظننتُ أول الامر أن ممارسات والديّ التأديبية ترتبط بالعطل المديدة، عندما تُغري فترات الفراغ المطولي شخصي الفضولي والمتشيطِن بأن يخرق المحرمات. على أنها مالبثت أن امتدت الى حياتي في القاهرة أيضا. والحال أني كنت أملك معينا لا ينضب من الفضول، نحو البشر والأشياء على حد سواء. فتنزل بي العقوبات لقراءتي الكتبالممنوعة، والادهى عندما يُلقى القبض عليّ مطالِعا في ألبومات التواقيع ودفاتر الملاحظات والكرّاسات والاشرطة المصورة والعجالات والمدوّنات العائدة لصديقاتي وزميلاتهن ووالديّ. وكان الحكم الصدر علي باستمرار هو "الفضول قتّال" على أني كنت بذلك اسعى للانعتاق من الاقفاص المختلفة التي حُبِست فيها. وهو ما أورثني شعورا دائما بالتذمر، الى ان صرت اجدني كريهاً إلى حد كبير. و لما كنتُ مجبرا على أداء فروضي المدرسية وممارسة الالعاب الرياضية ككرة القدم مثلا-وقد سجلت فيها اخفاقات مدوّية- ومجبراً على أن أكون في الآن ذاته الابن والشقيق المطيع والتمِّم لواجباته الدينية، فقد بدأتً استمد لذة سرية في ممارسة (أو قول) كل ما منشأنه مخالفةُ القواعد او تجاوز الحدود التي يفرضها أهلي. وكنت دائما اتناوص من خلف الابواب المشقوقة، وأطالع الكتب باحثا عما أُخفيَ عني، وأُنقّبُ في الادراج والخزائن ورفوف الكتب والأظرف البريدية وقصاصات الورق علني اجد شخصيات تتلاءم خلاعتها الآثمة مع شهواتي.

وسرعان ما شُغفت بفعل الاكتشاف الذي توفّره القراءة. وقد كان نصف نشاط العائلة التجاري في فلسطين –"شركة التعليم الفلسطينية"- يتعلق ببيع الكتب، وقسم صغير منه يتعلق بنشرها. على أن أبي أدار في مصر، بالشراكة مع عمه بولس وأولاده، شركة مكرسة كليا للتجهيزات المكتبية والقرطاسيات، يبيعونقشما منها في القدس وحيفا أيضاً. وفي كل زيادة يقوم بها أحد أفراد عائلتنا الى القدس كنت اتلقى هدايا من الكتب المناسبة مستَلّتة مباشرة من على الرفوف، وهي لا تزال تحمل ملصق الاسعار وبطاقات التعريف. وقد انقسمت تلك الكتب المناسبة الى فئتين عامتين: كتب الاطفال من نمط ما هو صادر عن أ.أز ميلنة وإنيد بلايتون، وكتب معلومات مفيدة مثل كتاب كولنز لمعارف الشباب الذي أُهدي إلي وانا بين التاسعة والعاشرة. وقد وفّر لي ساعات طويلة من التسلية وأنا أحاول هتك اسرار تلك المسمّاة "كاليتا" وفي "فقيرة" هندية تجترح المعجزات من حيث استعراض القوة ومعاقبة الذات في " سيرك برترام ميلز". لم أكن قد زرت السيرك بعد –إذ لم يظهر "سيرك تونيي" في القاهرة الا بعد أربع سنوات –ولا كنتُ أدري كيف تكون الحياة في سيركٍ أوروبي، باستثناء ما ورد عنه من اشارات مقتضبة في مؤلفات السيد غاليانو، الصادرة عن دار بلايتون، كان حسبي أن "كاليتا" غامضة الأصل وأنها –في الصور المنمنمة والمحبحبة السطح والمشوشة التي ترافق النص –ترتدي ما بدا انه ثوبُ من قطعتين لم اشاهد مثله من قبل، وهي قادرة على تطويع جسدها للقيام بحركات مذهلة تفوق الخيال.

شكَل لي ذلك خرقا اكيد لقواعد الادب والحشمة الصارمة التي كنتُ ارزح تحتها. ثم إنّ التواءات جسدها كانت مفارقة مع قوانين الطبيعة، وهذا ما زادها إثارة. فالكتاب يصفها مستلقية على ظهرها تحمل كتلة حجرية ضخمة على بطنها العاري، ويقف خلفها رجل نص عار يعتمر عمامةً ويحمل مطرقة جبارة يهوي بها على الحجر. وإذا بصورة كاملة للمشهد، مع المطرقة متوقفة على منتصف الطريق الى بطنها، تؤكد المأثرة. وكانت "كاليتا" قادرة أيضا على السير حافية على الزجاج الكسور، والاستلقاء على سرير من المسامير، على أن مغامرتها الكبرى كانت عن تُدفن تحت الارض دقائق عدة، وها هي صورة اخرى تمثِّلها مرتدية ثوب سباحة، ترتسم على وجهها ابتسامة الارتواء الشهواني، فما هي تحمل تمساحاً ضخم الجنة ومخيفاً الى أبعد حد.

قرأتُ وأعدتُ قراءة الصفحات الثلاث المطبوعة على ورق محبحب عن "كاليتا" وتفحصتُ وأعدتُ تصفح الصورتين اللتين كانتا تنتزعان إعجابي كلما فتحتُ الكتاب. والمفارقة أن نواقص الصورتين –حجمهما المنمنم، واستحالة تمييز جسد المرأة فيهما بوضوح، والبعاد المنفر بينهما وبيني- سيطرتْ عليّ، بل فتنتني لأسابيع وأسابيع، فحلمتُ بأني عرفت "كاليتا" وأنها أخذتني الى مقطورتها وأَرتني مزيدا من مآثرها المروّعة (مناعتها تجاه اشكال أخرى من الألم الحاد، وأنماط مجهولة من اللذة، بل ربما استمتاعها بالألم واللذة معا، واحتقارها الحياة المنزلية ومقدرتها على الغوص إلى أعماق غير مألوفة والتهامها الحيوانات الحية وامتصاصها الفواكه بطريقة مستنكرة اخلاقيا)، وانها كلّمتني عن تحررها من الاحاديث المجاملة من مسؤوليات الحياة اليومية. ومن خلال تجاربي مع كاليتا، نَمَت عندي عادة التطويل الذهني للحكايات الموجودة في الكتب، موسّعا حدودها، بحث أصير داخلها، فأدركتُ تدريجياً أني بذلك أستطيع أن أكون مؤلّف ملذاتي، ولاسيما تلك التي تنأى بي أبعد ما يمكن عن تسلط العائلة والمدرسة الخانقتين. فأصبحت قابليتي لأن أتظاهر بأني أدرس أو أقرأ أو أتمرن على البيانو فما أنا في الوقت ذاته، أفكر في أشياء مغايرة تماماً وحميمية جداً مثل "كاليتا" من مميزات حياتي، تزعج اساتذتي وأهلي ولكنها تثير فيّ الاعجاب بالنفس.

كان ثمة مصدران للحكايات التي أمكنني الشطح فيها: الكتب والأفلام. حكيات الجن والقصص التواراتي، قرأتهها لي أمي وجدتي، لكني تلقيتُ هدية لعيد ميلادي السابع كتابا عن الاساطير الاغريقية، فَتَح أمامي عالما بأكمله. ولم يقتصر الامر على الحكايات ذاتها، وإنما تعدها الى العلاقات التي يمكن اقامتها بينها. "جيسون" و"الأرغونوط": "ييرسيوس" و"عقدة الغرغون" "ميدوزا" و"هرقل" ومعامراته الاثنتا عشرة: هؤلاء كانوا اصدقائي وشركائي وأنسبائي وأبناء عمومتي وأبناء خؤولتي وأساتذتي ("شيرون" مثلا). عشت برفقتهم وتخيلت بدقة متناهية قصورهم وعرباتهم والسفن ذوات صفوف المجاذيف الثلاثة. وتصورتهم وقد فرغوا من قتل الاسود والمسوخ. وحررتهم ليعيشو في نعمة وفيرة منعتقين من الاساتذة البغيضين والاهل المستبدين. فإذا "ييرسيوس" و" جيسون" يتحادثان في رواق خيالي" ييرسيوس" يعبر لـ "جيسون" عن مشاعره ازاء مشاهدته "ميدوزا" على ردعه، و "جيسون" يخبره عن ملذات "كولشيس" وكلاهما يعجب كيف قتل هرقل الافاعي بعد في المهد.

أما المصدر الثاني للحكايات فكان الافلام، ولا سيما مغامرات ألف ليلة وليلة التي يمثل فيها بانتظام جونحول ومارييا مونتز وطورهان بيك وسابو، ومسلسل "طرزان" لجوني ويسمولر. عندما يرضى عني الاهل، تشتمل متع يوم السبت على حضور حفلة سنما بعد الظهر، ... شرط أن تتولى امي المتطلبةُ اختيار الفيلم، طبعا. الافلام الفرنسية والايطالية محظورة، بطبيعة الحال، وأما المسموح من أفلام هوليوود فهو ما تفتي به امي أنه "مناسب للاطفال. وهذا يشمل أفلام لوريل وهاردي، والعديد من افلام آبوت كوستيللو وبيتي غرابل وجين كلي ولوريتا يونغ، وغيرها من الافلام الموسييقية والكوميديات العائلية، التي تمثل فيها كليفتون وبّ وكلوديت كلوبير وجينيفر جونز (ذات الاداب المقبول في أغنية برناديت، والردئ جدا في الخارج عن القانون) وخييلات والت ديزني، وأفلام ألف ليلة وليلة التي كانت تحوز الرضى اذا مثل فيها جون هول وسابو (وتثير العبوس اذا كانت الجلوس في مقاعد السينما الوثيرة اكثر من مشاهدة افلام هوليوود بذاتها- التي اجدها لونا همجياً من قصص الخيال العلمي لا يقابلها شيء من الحياة الحقيقية- هو مصدر استمتاعي المترف بحريتي المكرسة في ان ارى الناس من دون أن يراني أحد.
لاحقاً، شغفتُ بكل عالم طرزان كما جسده جوني ويسمولر، ولكني شغفت بنوع خاص بزوجته جين، بشهوانيتها العذرية، في فيلم "طرزان وزوجته" على الاقل وهما يثبان مرحا في عشهما الحميم المبني على أغصان الشجر، حيث تبدو اسباب الراحة الحرفية فيه كأنها تقطيرُ مبسط وصاف لحياتنا كعائلة متوحدة في مصر.
وما إن تظهر كلمة "النهاية" على الشاشة، في "ابن طرزان" أو "كنز طرزان السري" حتى يشطح بي الخيال، فأروح أروي ما تلا ذلك من أحداث للعائلة الصغيرة في عشها على الاشجار وكيف تولوا تربية "السكان المحليين"وصادقوهم، ومن زارهم من أقرب جين والحيل التي علمها طرزان للصبي "بوي"، وهلم جرا. ومنهى الغربة في الامر انه لم يخطر في بالي قط أن علاء الدي وعلي بابا وسندباد السينمائيين –الذي حاكيتُ محاكاة كاملة الجن الذي يراودهم وأصدقاءهم من اهل بغداد اضافة الى سلاطين في الاستيهامات التي الجأ إليها هرباً من دروسي، لم يكونوا يجيدون العربية بل يتكلمون الانجليزية بلكنة امريكية ويتناولون اطعمة غامضة لعلها من صنف الـ "سويت ميتس" .. أم تراها اشبه بيخنات الارز وشرائح لحم الضأن؟ ما لم استطع ان اتبيّنه قط.

اختبرت خلال السنة الاولى من دراستي في "مدرسة الاطفال الامريكيين" في القاهرة وانا بعد في العاشرة والنصف، احدى برهات الحبور النادرة قبل بلوغي الثامنة عشرة، وكنت أقفعند اول محطة على السلم الكبير، مشرفاً على غرفة مليئة بالوجوه، أروي بمهارة فائقة حكايات "جيسون" و"ييرسيوس" مستمتعا بتفاصيلها النيّقة اللامتناهية –هوية "الارغونوط" و"النعجة الذهبية، وأسباب المصيبة التي حلّت بـ "ميدوزا" وتكملة قصة "ييرسيوسط و"آندومادا" متنعما لأول مرة بأفراح الابداع الادبي والانعتاق وقد حًرمتها في دروس الفرنسية والانجليزية والتاريخ وانا الضعيف فيها جميعاً إلى أبعد حد. وكان لي من الطلاقة والتركيز في رواية تلك الحكايات والتفكر فيها ما منحني لذة فريدة لم أكن لأعثر عليها في أي مكان آخر في القاهرة.

وكنت قد بدأت أيضا في تذوق الموسيقى الكلاسيكية بجدية كبيرة. على انه في تعلمي دروس البيانو، وقد بدأتها في السادسة، اختزلت ملكتها الذاكرة والميلوديا عندي في التدرب على السلالم الموسيقية وممارسة تمارين "سزيرني" وأمي حادبة عليّ او جالسة الى جانبي. فكانت النتيجة شعوري المتزايد أن ثمة ما يعوق تنمية شخصيتي الموسيقية. لم أشترِ الاسطوانات، ولم استمتع بحفلات اوبرا اختارها بنفسي قبل بلوغي الثامنة عشرة. ولما كان موسم القهرة الموسيقي للأوبرا والباليه محظوراً علي. فقد لجأت الى ما تقدمه الـ "بي بي سي" والاذاعة الحكومية المصرية من برنامج، وكانت متعتي الكبرى الاستماع الى برنامج الاذاعة البريطانية من خس واربعين دقيقة يذاع بعد ظهر يوم الاحد بعنوان"ليلا في الاوبرا" وقد اكتشفت باكرا جدا، من خلال الكامل في الاوبرا لغوستاف كوبيه، اني اكره فيردي وبوتشيني، لكني اهوى القليل مما اعرفه عن شتراوس وفاغنر اللذين لم اشاهد اعمالها الاوبرالية الا حين شارفت على نهاية المراهقة.



يتبع إن شاء الله..