الفصل الثالث

يُفترض بالأساتذة أن يكونوا إنكليزاً ، أو ذلك ما كنتُ أظنه . وقد يكون التلامذة إنكليزاً هم أيضاً إنْ كانوا محظوظين؛ وإنْ لم يكونوا محظوظين ، كما هو حالي ، فلن يكونوا من الإنكليز . درست ُ في " مدرسة الجزيرة الإعدادية " من خريف 1941 إلى حين مغادرتنا القاهرة في أيار 1942 ، وعدتُ إليها مجدداً من أوائل 1943 إلى 1946 وبينهما فترة أو فترتا انقطاع طويلتان بعضَ الشيء في فلسطين . في تلك الأيام ، لم يكن في المدرسة أيّ أستاذ مصريّ ، كما لم أَعِ أيّ حضورٍ عربيٍّ مُسلم : فالتلامذه أرمن ويونانيون ويهود مصريون وأقباط ، إضافة إلى عدد غير قليل من أولاد الإنكليز ، بمن فيهم كثرةٌ من أبناء الأسرة التعليمية . ومن أبرز المعلِّمين اثنان : مِسِز بولين ، رئيسة المدرسة ، ومِسِز وِلسون ، كبيرةُ المعلمات ، المتعددةُ المهمات والكليةُ الحضور . والمدرسة كناية عن فيللا كبيرة من فيللات الزمالك ، كانت معدّة سابقاً للسكن الرخيّ ، فحُوِّلتْ طبقتُها الرئيسية إلى قاعات عدة للدراسة ، ندخلها كلَّها من بهوٍ مركزيّ يفضي إلى منصةٍ في أحد طرفيه ، وإلى بوابةِ دخولٍ مهيبةٍ في الطرف الاخر . يرتفع البهو الزجاجيُّ علوَّ طابقيْن ، وهو مزنّرٌ بدرابزون تحيط به مجموعةُ غرفٍ تقع مباشرةً فوق قاعات الدرس المخصصة لنا . لم أغامر بالدخول إلى تلك الغرف إلا مرةً واحدة ، ولم تكن النتيجة سعيدة . فقد صدمتني الغرفُ العلوية لكونها أماكن سرية تنعقد فيها اجتماعاتٌ إنكليزية غامضة . هناك تجد المِستر بولين المرهوبَ الجانبِ ، وهو رجل أحمر الوجه ، وقلما تصادفه في الطبقة الأرضية . لم يكن لي أن أعرف آنذاك أنَّ الرئيسة مسز بولين ، التي كانت ابنتُها في الصف الذي يعلو صفّي مباشرةً ، لم تكن في مصر بصفتها مربيّة وإنما بصفتها صاحبةَ امتيازٍ مدرسيّ وتَمْلك رخصةً لإدارة " مدرسة الجزيرة الإعدادية " لحساب " المجلس الثقافيّ البريطانيّ " . وبعد ثورة الضباط الأحرار سنة 1952 ، فقدتِ المدرسةُ تدريجياً طابعها الأوروبيّ . وعندما انفجرتْ أزمة السويس عام 1956 كانت قد تحولتْ إلى شيء آخر تماماً . وهي اليوم مَدْرَسةُ تدريب مهنية تعلِّم اللغات للبالغين وقد زال كل أثر لماضيها الإنكليزيّ . بعد ذلك ، ظهرتْ مسز بولين وابنتها في بيروت رئيستيْ مدرسة إنكليزية أخرى ، ولكنْ يبدو أنهما أصابتا نجاحاً أقل من نجاحها في القاهرة ، فصُرِفتا من العمل لانعدام الكفاية وصُرِف مستر بولين بدوره لإدمانه الكحول .
كان ل" إعدادية الجزيرة " موقعٌ مناسبٌ في شارع عزيز عثمان ، شارعِنا القصير نسبياً في الزمالك ، الذي لا يتعدى مسيرةَ ثلاثة صفوف من الأبنية تحديداً . وكان الزمن الذي يستغرقني للذهاب إليها والعودة إلى البيت منها يثير دوماً إشكالاً مع أساتذتي وأهلي ، وهو إشكالٌ ارتبط في ذهني ارتباطاً لا ينفصم بكلمتين هما : " التسكُّع " و " الكذب " ، وقد أدركتُ معناهما لارتباطهما باجتيازي المتعرج والمليء بالتخييل لتلك المسافة القصيرة . جزء من تلكُّئي كان بسبب تأخير وصولي إلى أيّ من طرفي الشارع . وجزؤه الآخر كان بسبب افتتاني بالبشر الذين قد ألتقيهم على الطريق ، أو بلمحاتٍ من الحياة يتكشف عنها بابٌ مفتوح هنا وسيارةٌ مارّة هناك أو مشهدٌ قصير على شرفة هنالك . ولمّا كان يومي يبدأ في السابعة والنصف ، فقد كانت مشاهداتي موسومةً لا محالةَ بنهاية الليل ومطلع النهار : الغَفَر المتدثِّرون بزيّهم الأسود وهم ينزعون عنهم ببطء الأغطيةَ والمعاطف الثقيلة ، والسُفْرَجيِّة الناعسون يحثّون إلى السوق لشراء الخبز والحليب ، والسوّاقون يجهّزون السيارات العائلية . نادراً ما شاهدتُ بالغِين من نوع آخر في تلك الساعة ، خلا والداً يواكب طفله ، بين حين وآخر ، إلى " إعدادية الجزيرة " مرتدياً الزيّ المكوّن من قبعة وسروال وسترة رياضية كلُّها رماديةُ اللون مع حواشٍ مزيّنةٍ بطيّات زرقاء فاهية . وأكثر ما كان يستهويني في تسكعي أنه يمكّنني من تطوير تلك المادة الشحيحة من المشاهدات الماثلة أمامي . فثمة امرأة صهباء ، شاهدتُها بعد ظهر أحد الأيام ، أَقْنَعتني ، بمجرد عبورها إلى جانبي ، بأنها قاتلةٌ بواسطة السُمّ ومطلّقة ( وكنتُ قد سمعتُ الكلمة مؤخّراً من دون أن أفقه معناها تماماً ) . والرجلان اللذان التقيتهما يمشيان الهوينى ذاتَ صباح لا شك أنهما من جهاز التحرّي . وتخيّلتُ أنّ الزوجين الواقفين على الشرفة فوقي ويتكلمان الفرنسية قد انتهيا للتوّ من تناول فطور سخيّ مع الشامبانيا . وكان تخييلي عن حيوات الآخرين وخصوصاً بيوتهم مبعثُه انحباسي الضيّقُ في حياتي وبيتي . فأنا أستطيع أن أعدّ على أصابع اليد الواحدة عددَ المرات التي دخلتُ فيها شقة زميل أو بيتَه فترةَ نشأتي . ولا أتذكر مناسبةً واحدة زارني فيها في بيتي صديقٌ من المدرسة أو النادي ، ولعلّ كلمة " صديق " مبالغٌ فيها لوصف الأطفال الأرباب الذين عاشرتُهم . ومن هنا كان شغفي المبكر والأكثر استغراقاً يتجسّد في رغبةٍ لا تقاوَم لتخيّلِ ما قد يكون في داخل بيوت الآخرين : هل تشبه غرفُهم غرفَنا ؟ وهل تعمل مطابخهم بالطريقة التي يعمل بها مطبخنا ؟ وماذا تحتويه خزائنُهم وأمتعتُهم وكيف هي مرتّبة ؟ وما إلى ذلك ، وصولاً إلى أدق التفاصيل - مناضد الليل ، الراديو ، المصابيح ، رفوف الكتب ، البُسُط ، إلخ ... وإلى حين مغادرتي مصرَ عام 1951 ، ظللتُ أفترضُ أنّ ارتهاني البيتيّ هذا كان " لصالحي " وإنْ بطريقة مبهمة جداً . ثم أدركتُ أنّ نمط الانضباط الذي فرضه أهلي عليّ كان يستوجب أن أرى إلى حياتنا وبيتنا بوصفهما القاعدةَ ، بمعنى ما ، لا كما كانا فعلاً : حياةً وبيتاً معزولَيْن على نحوٍ لا يصدّق ، بل يكادان أن يكونا اختباريَيْن .
ومن المهارب النادرة التي سنحتْ لي أحياناً الذهابُ إلى التزلج صباحَ السبت في حلبة تدعى ال" ريالتو " قرب " الفرع ب " ، وهو محل صغير يديره أبي في شارع فؤاد الأول مخصَّصٌ أساساً لبيع أقلام الحبر والهدايا الجلدية الثمينة . وكانت تلك منطقة مكتظة تعجّ بالمحالّ والمخازن الكبرى : هنا " شملا " و " شيكوريل " عبر الشارع ، وهناك " بول فابر " ، محل بيع الأحذية الكبير ، محاذياً " الفرع ب " ، حيث نشتري أحذيتنا الصيفية ( صنادل وأخفافاً ) والشتوية ( أحذيةً مزرّرة أو ذاتَ أربطةٍ ، سَوْداءَ أو بُنّيةً غامقة ) من موظفً أرمنيّ في منتصف العمر ، متعبٍ ومشورَبٍ يرتدي صدرةً ويتكحّل بالكحل الأخضر . أما أحذية التنِس و " الموكاسان " فكانت " سيئة " ، ومن ثم محظورةً على الدوام .
تبدأ المدرسة دائماً في البهو الكبير بإنشاد التراتيل - وكان الترتيلان الأكثر شيوعاً بينها هما " كل الأشياء المشرقة والجميلة " و" من أعالي جبال غرينلاند المجلّدة " - ترافقنا على البيانو مِسِزّ ولسن ، الكليّةُ الكفايات ، بإشراف مِسزّ بولين ، ذاتِ العِظات اليومية المتعالية والمتخمة ، أسنانُها البريطانية المسوّسة وشفتاها المزمومتان تكوِّن الكلماتِ بنفورٍ أكيد وتلقيها على مجموعة هجينة من الأطفال الشاخصين أمامها . ثم نسير في أرتال إلى قاعات الدرس لتلقّي دروس الصباح الطويلة . أُولى معلماتي في " إعدادية الجزيرة " مسزّ ويتفيلد ، التي كنت أشك في أنها إنكليزية مع أنها كانت بارعةً في تمثيل ذلك الدور . ثم إني حسدتها على اسمها . ابنها روني ، مثله مثل أبناء ولسن ، كان مسجّلاً في الإعدادية ( لمسزّ ولسن ابن ، هو ديكي ، وابنة ، هي اليزابيث ، ولمسز بولين ابنتها آن طبعاً ) ، وجميعهم أكبر مني سناً ، وهذا ما عزّز من امتيازات الأنَفَة والتعالي لديهم . الدروس والكتب إنكليزية على نحو ملغز ، نتعلّم فيها عن المروج الخضر والقصور وعن الملوك جون وألفرد وكانوت ، بالجلال الذي يستحقونه ، حسبما يذكّرنا معلمونا بلا انقطاع . لم يكن عالمهم يعني لي الشيء الكثير عدا إعجابي بإنتاجهم اللغةَ التي يستخدمونها ، وقد بدأتُ أنا العربيَّ الصغير أتعلّم عنها بعضَ الأشياء . تجدهم يولون أهميةً مبالغاً فيها لمعركة هايستنغز ولشروح مستفيضة عن الأنْغِلْز والساكسون والنورمان . وإنْ أنسَ لن أنسى إدوارد المعترِف ، ذلك الشيخَ النبيلَ الملتحي المستلقي على ظهره ملتحِفاً عباءةً بيضاء ، ربما لأنه اعترف بما لم يكن يجدر الاعترافُ به . ورغم تماثل الاسميْن ، لم تنشأ صلةٌ منظورة من أيّ نوعٍ بيني وبينه .
تخللتْ دروسَ الأمجاد الإنكليزية تلك تمارينُ متكررة في الكتابة والحساب والإلقاء . ولأني كنتُ ، آنذاك كما أنا الآن ، منجذِباً على نحوٍ متهوّرٍ إلى الكتابة بقلم حبرٍ يُنتج خربشة بشعة إضافةً إلى إحداثه العديدَ من اللطخات والبُقع ، فقد كنتُ متّسخ الأنامل على الدوام . وكانت مسز ويتفيلد خصوصاً تنبّهني بنبرةٍ حادّةٍ إلى تجاوزاتي اللامتناهية : (( اَجلسْ مستقيماً وقمْ بواجبك على نحو صحيح )) ، (( لا تتململ )) ، ثم تضيف فوراً (( واصِلْ عملك )) . ومن ملاحظاتها الحاسمة المألوفة : (( لا تتكاسل )) . فإلى يساري تجلس التلميذة النموذجية آرليت ، وإلى اليمين ناكي ريغوبولوس المطيع النجيب . وحولي أبناء غرينفيل وكوبر وبيلليه ، وهم صبيان وبنات إنكليز مهفهفون ذوو أسماء يُحْسَدون عليها وعيونٌ زرق ولَكْنات فطنة بتّارة .


يتبع إن شاء الله