لا أذْكر كيف كانت لكنتي في تلك الأيام ، لكن الأكيد أنها لم تكن إنكليزية . والغريب في الأمر أنهم كانوا يعاملوننا جميعاً على اعتبار أنه يجب أن نكون - أو أننا نرغب في أن نكون - إنكليزاً ، وهو برنامج لم يُثِرٍ أيّ اعتراضٍ من ريك ورالف وديريك ، وبدرجة أقل من المحليين من أمثال ميشلين ليندل وديفيد عدس وناديا الجندي والداعي .
وكنا نقضي جلّ وقتنا خارج الصفوف في باحة مسوَّرة صغيرة منعزلةٍ عزلةً تامةً عن شارع فؤاد الأول ، وهو الشارعُ الرئيسيّ الضاجّ الذي يصبّ فيه شارع عزيز عثمان ، حيث يقع بيتُنا في الأسفل إلى اليسار . وكان شارع فؤاد الأول مرصوفاً بالمحال التجارية وبسطات الخُضَر ويعجّ بحركة سيرٍ قويةٍ ، يخترقه خطُّ ترامواي ضاجّ وتعْبره حافلاتُ النقل العام بين حين وآخر . ولم يكن ذلك الشارع مدينياً صرفاً ومزدحماً وحسب بل كان ينطلق أيضاً من أحياء القاهرة القديمة ويَعْبر إلى الزمالك من البولاق ، ثم يجتاز ال" جزيرة " الأنيقة ، الهانئةَ في ثرائها ، حيث نَسْكن ، ليختفي أخيراً عبر النيل في إمبابا ، وهي نقيض مزدحم آخر للزمالك ذاتِ السكان الأجانب والشوارعِ الهادئة المرصوفة بالأشجار والمصمّمة بعناية والخالية من المحلات التجارية ، من مثل شارع عزيز عثمان . في " إعدادية الجزيرة " ، كان " الملعب " ، كما يسمونه ، يشكِّل الحدَّ الفاصل بين العالم المدينيّ المحليّ وبين الضاحية الكولونيالية المصطنعة حيث نعيش وندرس ونلعب . وقبل بدء الدروس ، ننتظم في طوابير في الباحة ، كلٌّ بحسب صفّه ، ثم نعود إلى الاصطفاف عند الاستراحات والغداء والانصراف . والدليل على عمق الانطباع الذي خلَّفتْه تلك التمارينُ في نفسي أني لاأزال أذكر إلى الآن أنّ اليسار هو الجهة الأقرب إلى مبنى المدرسة ، وأنّ اليمين هو جهة شارع فؤاد الأول .
نصطف في " الملعب " بانتظارِ أن يتم عدُّنا واستقبالُنا ثم صَرْفُنا : " صباح الخير ، يا أولاد " أو " مع السلامة ، يا أولاد " . على أنّ ذلك الطقس المهذّب كان يخفي مشقّات الوقوف في الطابور ، حيث تجري كافةُ الأمور الكريهة . ومع أننا كنا ممنوعين من التفوّه بكلمة في الطابور ، اللهم إلا جواباً عن أسئلة المعلّمة ، فقد كان أشبه ببازار ومزاد علنيّ ومَحكمة يجري فيها تبادلُ أصناف العروض والوعود الأكثر تهوّراً حيث يتنمّر الكبارُ على الصغار ويتهددونهم بأقسى العقوبات . وكان مُعَذِّبي بنوع خاصٍ هو دايفيد عدس ، وهو صبيٌّ أسمر مفتول العضلات ، يَكْبرني بسنتين أو ثلاث سنوات ، ويستهدف بشراسةٍ أقلامي الحبرَ ومقلمتي وسندويتشاتي والحلوياتِ التي يريدها لنفسه ، ويتحدى على نحوٍ مخيفٍ كلَّ شيء يخصني وكلَّ ما أفعله . فكنزاتي لاتروق له ، وجواربي أقصرُ مما يجب ، وهو يكره سحنتي ويعترض على طريقتي في الحكي . وهكذا كان الرواحُ إلى المدرسة والإيابُ منها بمثابة تحدٍّ يوميّ لي كي أفلت من قبضة دايفيد أو من الكمائن التي يَنْصبها لي ، وقد نجحتُ في المهمتين كلتيهما طوال سنوات دراستي في " إعدادية الجزيرة " . على أني لم أستطع التملّص منه في الطابور ، حيث يُغَضّ النظرُ عن السلوك الفظّ ، على رغم حضور الناظرة ، فيَهْمس عدس ويغمغم تهديداتِه لي وتبرُّمَهُ العامَّ مني عبر صفٍّ من الأولاد المتملمِلين يَفْصل بيننا لحسن حظي .
استبقيتُ عبارتين من عدس في ذاكرتي : واحدةً ظللتُ أرددها ببغائياً سنواتٍ في ما بعد - " إني أعِدُكَ " - ، والثانيةَ لم أنسها لأنها كانت تثير فيّ خوفاً عظيماً عندما يتفوّه بها : " سوف أهشِّم وجهك بعد المدرسة " . وكان يَلْفظ العبارتين ، منفردتيْن أو مجتمعتيْن ، بحماسٍ صادقٍ ، كي لا أقول بلهجة الوعيد ، مع أنه مضى شهرٌ على الأقل على أول مرة رماني بهما قبل أن ألاحظ فراغَ العبارتين وعدمَ قابليتهما للتحقيق . والحال أنّ " المدرسة " التي هدّد عدس أن يهشّم وجهي " بعدها " قد حَمَتْني منه ، على رغم مناخها الطبقيّ الناعس والقمعيّ أحياناً . وكان لدايفيد أخ أكبر منه هو فيكتور ، السبّاح والغطّاس المشهور الذي يرتاد " الكلية الإرسالية الإنكليزية " في مصر الجديدة ؛ وكنتُ معجباً أشدَّ الإعجاب بإنجازاته خلال المباريات المنعقدة في أماكن مختلفة من القاهرة كانت " إعداديةُ الجزيرة " تأخذنا إليها . ولكنْ لم يَرُقْ لي شكلُه مثلما لم يهفّ قلبي لأخيه دايفيد الذي كان يَعْرض عليّ بين الحين والآخر أن ألعب معه ب" الكِلل " .
جرّبتُ العبارتين في البيت - جرّبتُ عبارة " إني أعِدُكِ " على شقيقاتي ، واما عبارة " سوف أهشّم وجهكَ بعد المدرسة " فقد جرّبتها أمام المرآة لأني جبنتُ من تجربتها على كائنٍ حقيقيّ . في المناوشات بيني وبين شقيقتيَّ الكبْرييْن ، كان " الوعد " يعني محاولةَ استقراضِ شيءٍ منهما ( " أعدك بأني سوف أعيده " ) أو بَذْلَ مجهودٍ لإقناعهما ب" كذبة " مستحيلة التصديق أرويها لهما ( " أُقْسِم لكما بأني شاهدتُ اليومَ المرأة الصهباء المجنونة التي تَقْتل بواسطة السمّ " ! ) . على أن أنطي ميليا منعتني من التلفظ بتلك العبارة قدرَ ما أرغب في ذلك ، قائلةً إني يجب أن أتجاوز رتابتَها والنفاقَ الأبله الذي تنطوي عليه وأن أستعيض عنها بعبارة " أنّي أؤكد لك " .
عندما كنتُ في الثامنة ، طردتني إحدى المعلمات من الصفّ ( لم يكن هناك معلِّمون ذكور في المدرسة ) بسبب مخالفةٍ ما ، وهي لم تكن تلجأ إلى العقاب الجسديّ عدا بعض القرعات الخفيفة بواسطة المسطرة على سلاميات اليد . تركتني المعلمةُ خارج الباب ثم استدعت مِسزّ بولين ، التي جرّتني جراً ، وهي متجهمةُ الوجه ، نحو السلّم المؤدي إلى البهو الرئيسيّ . " إمشِ ، إدوارد ، عليكَ أن تقابل مستر بولين في الطبقة العليا ! " . مشت أمامي ثم توقفتْ عند أعلى السلّم وأمسكتني من كتفي اليسرى وقادتني إلى الباب المغلق قائلةً : " انتظِرْ هنا " ثم دخلتْ . ولم تمضِ برهة حتى عادت مؤشّرةً إليّ بالدخول ، ثم أَوصدت البابَ خلفي ، وإذا أنا ، لأول وآخر مرةٍ في حياتي ، في حضرة المِستر بولين .
انتابني فزع مباغت من هذا الإنكليزيّ الضخم ، الأحمرِ الوجهِ ذي الشعر الرمليّ اللون ، وهو يشير إليّ بأن أتقدم نحوه . لم نتبادل كلمة ، فيما رحتُ أقترب ببطء إلى حيث يقف قرب النافذة . أذْكر سترة زرقاء ، وقميصاً أبيض ، وحذاء من الجلد المزأبر ، وخيزرانةً قصيرةً تقع في منزلة وسطى بين مهماز الخيل والعصا القصيرة . كنت متوجساً ، لكني أدركتُ ، وقد بلغتُ ذروة الرعب ، أنه لا يجوز أن أنهار أو أبكي . جذبني من قذالي ثم دفعني نحو الأسفل بحيث بتّ منحنياً نصف انحناءة . ثم رفع الخيزرانة باليد الأخرى وهوى بها على مؤخرتي ثلاث مرات ، فتعالى صفير الخيزرانة تشقّ الهواء أعقبتْها فرقعةٌ مكتومة حين أصابتني . كان الألم الذي شعرتُ به أقلّ من الغضب الذي سرى في أوصالي مع كل ضربة من الضربات التي سددها لي بولين وهو لا يزال ملتزماً الصمتَ . مَنْ هو هذا الوحش البشع ليضربني على هذا النحو المهين ؟ وكيف أمكنني أن أكون بلا حَيل إلى هذا الحد و" ضعيفاً " كل هذا الضعف - وقد بدأتْ هذه الكلمةُ تكتسب دلالة هامة في حياتي - بحيث تركتُه يعتدي عليّ ويفلت من العقاب ؟
كانت تجربة الدقائق الخمس تلك لقائي الوحيد مع بولين . لم أعرف اسمه الأول ولا أيَّ شيء آخر عنه سوى أنه جَسَّد أول تجربة علنية لي في " القصاص " الموضوعيّ . وعندما أبلغتْ إحدى المعلمات والديّ بالحادثة ، قال لي أبي : " أترى ، أترى كم أنت شيطان ؟ متى تتعلم ؟ " . ولم يبدر في نبرة صوته أو صوت أمي أيُّ اعتراض على بذاءة العقوبة ذاتها . أبي : " ندفع أموالاً طائلة لتذهب إلى أفضل المدارس ، فلماذا تضيّع الفرصة على نفسك هكذا ؟ " فكأنه يتغاضى عن حقيقة أنه يدفع أمواله الطائلة للمستر والمسز بولين لكي يعاملاني على هذا النحو . أمي : " إدوارد ، لماذا توقع نفسك في كل هذه المشاكل ؟ " .
هكذا أمسيتُ جانحاً ، أنا إدوارد مرتكبَ المخالفات التي تستحق العقاب ، من خمول وتسكّع ، والذي يتوقّع دائماً أن يُقبض عليه متلبّساً بفعل محظور يستدعي الاحتجاز بعد الدروس أو ، بعد ذلك حين كبرتُ ، صفعةً قويةً من المعلّم . وقد منحتني " إعدادية الجزيرة " اختباري الأول لنظام مُحكَم أنشأه البريطانيون كمهمة كولونيالية . كان الجوّ جوَّ طاعة عمياء يؤطِّرها إذعانٌ بغيض عند المعلمين والتلامذه على حد سواء . ولم تكن المدرسة مثيرة بما هي مكان للعلم ، ولكنّها زوّدتني بأول اتصال مديد مع السلطة الكولونيالية من خلال الإنكليزية القحة لأساتذتها وللعديد من التلامذة . ولم تكن لي علاقات متصلة بأولاد الإنكليز خارج المدرسة ، ذلك أنّ حَبل سُرّة سُرّياً كان يجمعهم ويخفيهم في عالم آخر مغلق عليّ . فأدركتُ تمام الإدراك كيف أن أسماءهم صحيحة تماماً ، وملابسهم ولكناتهم ومعاشراتهم مختلفة كلياً عن ملابسي ولكنتي ومعاشراتي . ولا أذكر أني سمعتُ أياً منهم يشير مرة إلى " الوطن " ، غير أني ربطتُ فكرة " الوطن " بهم ، وإذا " الوطن " ، بمعناه العميق ، هو ما أنا مستبعد عنه . وعلى الرغم من أني لم أكن أحبّ الإنكليز أساتذةً أو نماذجَ أخلاقيةً ، فإني لم أرَ في وجودهم في طرف الشارع أمراً غريباً أو باعثاً على القلق . كان ذلك ببساطة سمةً غيرَ مميزة من سمات القاهرة ، المدينةِ التي أحببتها على الدوام دون أن أشعر مرةً بانتمائي إليها . ولقد اكتشفتُ أنّ شقّتنا كانت مستأجرة وأنه على الرغم من أنّ بعض أولاد " إعدادية الجزيرة " ظنوا أننا مصريون فقد كان ثمة ما هو " نشاز " وفي غير مكانه في أمرنا ( وفي أمري أنا خصوصاً ) دون أن أدرك تماماً ما هو .
ظل بولين ساكناً ذاكرتي ، لاينمو ولايتحول ، مثلَ الغُول في حكايات الأطفال . وهو بلا شك شخصية من شخصيات طفولتي لا دور له فيها سوى أنه ضربني بالسوط بتلك البساطة . بعد خمسين سنة تماماً ، وخلال زيارة للقاهرة ، كنتُ أتصفح كتاباً لباحث مصريّ عن مئتيْ عام من الاهتمام الثقافيّ البريطانيّ بمصر ، فقفز اسمُ بولين في وجهي من إحدى الصفحات . كانت الإشارة إليه هذه المرة بوصفه كيث بولين ، العضو في فريق من كتّاب بريطانيين ثانويين سكنوا القاهرة أيامَ الحرب وعُرِفوا باسم " شعراء السمندل " . و " السمندل " هو عنوانُ مجلةٍ أدبية استوحت اسمها من ملاحظة تافهة لأناطول فرانس يقول فيها : " يجب أن يكون المرء فيلسوفاً لكي يستطيع رؤية السمندل " . وفي مرحلة لاحقة ، أرسل لي صديقٌ قاهريّ خَدُومٌ صورةً عن عدد آذار/ مارس 1943 من المجلة ، وهو العدد الذي ظهر في الأسواق في الوقت الذي كان فيه المستر بولين يَجْلدني بالسوط ، أو ربما كان يَجْلد صبياً آخر . ولما تأكدتُ من أنّ مستر بولين الذي أعرف هو نفسُه كيث بولين ، الكاتبُ في السمندل ، فقد أخذتُ أقرأ ترجمته الإنكليزية ، بالشعر الحرّ ، لقصيدةٍ بعنوان " ساعات الصيف " لشاعرٍ يُدعى ألبرت سامين . وهاك مطلع القصيدة :
هاتِ الكأسَ الذهبية ،
البلّور بلون الحُلم ،
وحبّنا سوف يتفتّح
مفرِطاً ، عنيفَ الأريج ...
وتلك هي الخاتمة :
معصورٌ خمرُ الصيف المذهّب
فليلطّخِ الدراقنُ القرمزيّ المذبوحُ
بهاءَ نهدكِ الأبيض .
داكنةٌ الغاباتُ ، خاويةٌ وعبثية ...
وهذا القلب الفارغ الذي لن يجد الراحة
يتوجّع بنشوة الألم .
ما أشد تكلُّف ، بل حذلقةَ ، هذا الشِعر ، بكلامه وتركيبه المزخرفيْن ( " دراقنٌ قرمزيّ " ) ومشاعرِه المغالية وغير الواقعية بل والتافهة ( " يتوجّع بنشوة الألم " ) . وقد أوحى إليَّ البيتُ الأول - "هاتِ الكأس الذهبية " - بأنه استعادةٌ كاريكاتورية لتجربةِ جَلْدي بالسوط على يد المستر بولين . فهل يُعقل أن يكون كيث قد باح بالكلمات التالية لزوجته حين كانت تَفْتح البابَ لإدخالي إلى الفَلَقة : " سوف يتفتّح حبُّنا ، عنيفَ الأريج " ؟ . مهما حاولتُ ، فلن أستطيع التوفيق بين الخضوع الصامت المرهوب الذي أُجبرتُ جسدياً عليه ، وهو يَجْلدني ، وبين ذلك الشُوَيعِر المتكلّف الذي أَدّبني في الصباح وراح يَنْظم " ساعات الصيف " المقززة تلك بعدَ الظهر ؛ وهو ، إلى ذلك ، شخصٌ رائعٌ ولا شك ، يشنّف أذنيه بمقطوعات موسيقية ل" شاميناد "* ليلاً .



* مؤلفة موسيقية فرنسية من الدرجة الثانية . ( م )


يتبع إن شاء الله