بعد الفَلَقَة بوقت قصير ، تعرضتُ لمواجهة كولونيالية أشدَّ حدةً وسفوراً . ففي طريق العودة إلى البيت عند الغسق عَبْر أحد الحقول المترامية الأطراف لنادي الجزيرة ، اعترضني إنكليزيٌّ يرتدي بذلةً بنيّةً ، ويعتمر خوذةً قماشية ، وتتدلى حقيبةٌ صغيرة سوداء من مقود درّاجته . كنتُ أعرف المستر بيلليه بسبب توقيعه " سعادة الأمين العام " للنادي ولأنّه والد رالف ، زميلي في المدرسة . " ماذا تفعل هنا ، يا ولد ؟ " ، نهرني بصوتٍ بارد هزيل . " أنا راجع إلى البيت " ، قلتُ ، محاولاً التزامَ الهدوء ، فيما أخذ يترجّل من على دراجته ويتقدم باتجاهي . " ألا تعلم أنه ممنوع عليك أن تكون هنا ؟ " سأل مؤنِّباً . فبدأتُ أغمغِم شيئاً عن كوني عضواً في النادي ، لكنه قاطعني بلا رحمة : " لا تجاوبْ ، يا ولد . غادِرِ المكانَ فقط ، وغادرْه بسرعة . ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان ، وأنت عربيّ ! " . وحتى لو لم يسبقْ أن فكرّتُ بنفسي بوصفي عربياً ، فقد أدركتُ مباشرةً أنذاك أنّ معنى النعت مُفْقِدٌ للأهلية حقاً . لم يَقْلق أبي كثيراً عندما أبلغتُه ما قاله لي المستر بيلليه ، واستطردتُ في مرافعتي قائلاً : " لم يقتنع أننا أعضاء [ في النادي ] " . فقد جاء جواب أبي غير المُلْزِم : " سوف أتحدث إلى بيلليه في الأمر " . ولم يُطْرَح الموضوعُ على بساط البحث ثانيةً : لقد فعل بيلليه فِعْلَته وأفْلَتَ من الحساب .
وشدَّ ما يحزّ في نفسي الآن ، بعد مضيّ خمسين سنةً ، أنه على الرغم من أنّ الحادثة لازمتْني مدة طويلة جداً وكانت مؤلمةً حينها ، مثلما هي الآن ، فقد بدا وكأنه يوجد عقدٌ استسلاميّ بيني وبين أبي توافَقْنا فيه على أننا ننتمي بالضرورة إلى مرتبةٍ دنيا . كان هو يعرف ذلك ، أما أنا فقد اكتشفته لأول مرة عندما جابهتُ بيلليه . غير أنّ أياً منا ، آنذاك ، لم يجد أنّ الأمر يستحق نضالاً من أيّ نوع ، ولا يزال ذلك الإدراكُ يُشْعرني بالخجل .
لم تتكشف لي تلك التفارقاتُ في المنظور والواقع إلا بعد عقودٍ من الزمن على مغادرتي " إعدادية الجزيرة " . والحقيقة أنّ القليل القليل مما كان يحيط بي في المدرسة - من دروس وأساتذة وتلامذة ومناخ - قد وفّر لي أيَّ دعم أو مساندة . وأجملُ ذكرياتي عن سنوات " إعدادية الجزيرة " هي نهاية اليوم الدراسيّ عندما أجد أمي دائماً في انتظاري لنتجاذب أطراف الحديث ، فيما هي تغلّف ما تبقّى من نهاري بتفسيرٍ لكلِّ ما قد حدث . كانت تفسّر لي سلوك الأساتذة ، مثلما تفسّر لي مطالعاتي ، بل تفسّرني أنا نفسي لنفسي . كنتُ [ بحسبها ] تلميذاً شاطراً ، إذا استثنينا دروس الخطّ والرسم ، سريعَ الاستيعاب ونافذَ البصيرة ، ولكنني متفاوت العطاء . على أنّ أمي كانت تبدو وكأنها تسلبني إنجازاتي ، بطريقةٍ لا واعية ، بعد أن تمتدحها بقولها " طبعاً ، أنتَ شاطر ، بل فائق الذكاء ، ولكنْ " - هنا توقفني فجأة - " ... ولكنْ ليس هذا إنجازاً حقيقياً من صنعك ، مادام اللهُ هو مَنْ وهبك تلك المواهب " . وخلافاً لوالدي ، كانت أمي تبثّ فيّ عذوبةً سائغة وشعوراً بالدعم يقوّي من عزيمتي . كنتُ أرى نفسي في عينيها كائناً مبارَكاً وكاملاً ورائعاً . إطراءٌ واحد منها عن ذكائي المتفوق أو عن موهبتي الموسيقية أو عن وسامة ملامحي ، يشيلني شيلاً ، ويمنحني شعوراً ، ولو مؤقتاً بالانتماء إلى عالم خيّرٍ واسع . على أني ، مع الأسف ، لا ألبث أن أُدرك مدى قِصَرِ هذا الشعور . فأغتمّ للتوّ متسائلاً ما إذا كان يحق لي أن أكون مستقراً ، وسرعان ما تتزعزع ثقتي مجدداً ويعاودني القلقُ والهواجس القديمة . لم أشك مرةً في أنّ أمي تحبني ، وقد كانت تَجْهر بذلك ، ولكنْ ما إنْ بلغتُ الثانية عشرة أو الثالثة عشرة ، حتى اكتشفتُ كذلك أنها نقدية جذرياً تجاهي وإنْ بطريقة غامضة لا يُفصح عنها الكلام . كانت ذات طاقةٍ مذهلة على استدراجك ، تُقْنعك بالتزامها الكلّي تجاهك ثم ، دون سابق إنذار ، تُشْعرك أنها حاكمتْكَ ووجدتْكَ مقصِّراً . وعلى الرغم من حميمية العلاقة بيننا ، فقد كانت قادرة على الدوام أن تنمّ عن تحفّظٍ غامض وعن موضوعيةٍ لا تفسير كاملاً لها مع أنها تطلق عليّ أحكاماً جائرة تحبطني وتثير غضبي في آن .
عند عودتي إلى البيت بعد الظهر ، كان الخطر الذي يتهدّدني دوماً هو وصولُ إبلاغٍ عبر الهاتف عن أذى ارتكبتُه أو عن درس لم أُعِدَّ له يسممّان الاستراحة التي أصبو إليها بمنأى عن رقابة المدرسة . هكذا فقدتُ تدريجياً الثقةَ بالنفس ، وحلّتْ محلَّها هشاشةُ شعوري بالأمان تجاه الذات والمحيط ، وهو ما زاد من اتكالي ، أكثرَ من أيَّ وقت آخر ، على رضى أمي وحبّها . كان أبي بعيداً جداً عنا خلال أيام الأسبوع ، كأنه مستقيل من كافة المسؤوليات المنزلية ، خلا شراء الفواكه والخضار بكميات هائلة ، يَحْملها إلى البيت خَدَمُ تسليم البضائع ، وهو ما كان يثير مَندبةَ أمي الروتينية : " إنك تُغْرقنا بالبرتقال والموز والخِيار والبندورة ، يا وديع لماذا اشتريتَ خمسة كيلوات إضافية اليوم ؟ أنت مجنون ! " . وقد يردّ عليها ببرود ثم يعود إلى دفن رأسه في جريدة المساء ، إلا إذا كان قد وصل " إبلاغٌ " عني من المدرسة ، أو إذا كان دفترُ علاماتي الشهريّ يَحْمل التحفظ المألوف تجاه سوء سلوكي وتسيّبي أو تسكعي أو تململي ، فإذّاك كان أبي يجابهني بشراسة لبرهة رهيبة أو اثنتين ، ثم ينسحب . وقد ازدادت المجابهاتُ سوءاً في ما بعد ، خصوصاً عندما دخلتُ فكتوريا كولدج .
والحق أنّي اختبرتُ لحظات سعادة متواصلة وإنْ تكن غير متوقعة في " إعدادية الجزيرة " ، أَبْرَزُها تعرّفي إلى المسرح ، مطلعَ عام 1944 . كان أمراً غريباً أن أعود إلى المدرسة ، أولَ المساء ، فإذا قاعاتُ الدرس معتمة وخالية ، والبهو المركزيُّ خافتُ الإنارة وقد بدأ يكتظّ بأناس يملأون الكراسي المصفوفة بذوقٍ متطلِّب . وإذا المنصة القليلة الارتفاع التي تطل منها مسز بولين لإعلاناتها الصباحية قد تحولتْ مسرحاً متكاملاً ، بما فيه الستارة البيضاء المُغضّنة المنسدلة في مقدّمه ، تُعْرَض عليه " مغامرات أليس في بلاد العجاشب " ، وهي الرواية التي أعطتني إياها أمي في ذلك الوقت تقريباً ، فوجدتُها عتيقةً بشكل متعب وعصيّةً على الفهم إجمالاً ... هذا إذا استثنينا ما يزيّنها من رسوم ولاسيّما رسمٌ أثار حيرتي بطريقة مبهمة ، وكان كنايةً عن فأرة تسبح عكس التيار في النهر منخرُها يطوف فوق سطح الماء بصعوبة . أما توصية أمي الغامضة والمخيّبة حين لم أكن أتقدّم في قراءة الكتاب - " ولكنه للأطفال ، يا إدوارد ! " - فلم تبدِّل رأيي فيه ، مع أنّ ما أثار فضولي هو أنني توقّعتُ أن أكتشف شيئاً مختلفاً في الكتاب بعد أن جرى إخراجُه وتمثيلُه على المسرح . " هل يُشْبه السينما قليلاً ؟ " - أذكر أني طرحتُ هذا السؤال على أحد الصبية الأكبر سناً وهو يدفعني إلى أحد الصفوف الأمامية .
ماأزال أستطيع أن أرى وأسمع نتفاً من الإخراج المدرسيّ لـ أليس ، ، وبخاصةٍ حفلة تناول الشاي ، و" الملكةُ الحمراء " تلعب " الكروكيت " زاعقةً : " اقطعوا رؤوسهم ! " . ولكنني أذكر أوضحَ ما أذكر أليس وهي تَخْرج من مغامرةٍ لتدخل في مغامرةٍ وجدناها نحن باعثةً على الضحك مع أنها كانت تَبْعث فيها الذعرَ والضياع . لم أستوعب مجريات الأمور كلها سوى أنها حَوّلت الممثلين تحويلاً كلياً وأضفتْ عليهم هالةً من الجاذبية والغرابة الأكيدتيْن ، وقد كانوا ، خلال النهار ، أولاداً مثلي من تلامذة " الإعدادية " . ولم يكن هذا الحكْمُ ينطبق على أحدٍ قَدْرَ انطباقه على ميشلين ليندل ، وهي الفتاة التي مثَّلتْ دور أليس . أما الآخرون - " صانع القبّعات المجنون " و " أرنب المستنقع البرّي " ، ومَلِكَةُ الكُبَّة [ القلوب ] - فكانوا تلامذةً أكبر سناً ولذا لم يكن لي تعاملٌ كبيرٌ معهم : كوليت أّمييل ، وهي فتاة ضخمة ، نضجتْ قبل الأوان كأنها خُلقتْ لتمثِّل دورَ الملكة ، وهي شقيقة جان بيار آمييل ، زميل دايفيد عدس وجاره ، أَعْرفها بالواسطة دون أن يكون بيننا كبيرُ ألفة . أما الباقون من " الأولاد الكبار " ، فتياناً وفتيات ، فقد كنتُ ألمحهم فقط في أرجاء المدرسة . وخلافاً لهم ، لم تكن ميشلين تكبرني بأكثر من سنة واحدة ، وقد جلستْ مرةً أو مرتين على مسافة صفِّ مقاعد واحدٍ مني في درس اللغة الفرنسية عندما جرى دمجُ الصفوف المختلفة لأسباب مجهولة . لها شامة إلى يسار فمها ، وهي في مثل طولي ، وذاتُ صوتٍ هو أجمل ما سمعتُ من الأصوات من حيث النقاء ، وتتحدث بإنكليزية صحيحة وفرنسية قاهرية .
في دور أليس ، ارتدتْ ميشلين ثوباً أبيض وجواربَ بيضاءَ طويلة وحذاءَ الباليه الأبيض . وكان من المفترض أن توحي بالعفّة ، ولكنها لم تبدُ كذلك إطلاقاً . ذلك أنّ رسالتها الإغرائية الضمنية كانت تتفجّر من خلل ثوبها الضيق المحتشم ببراعة فائقة وهي تخاطب مباشرةً صبياً في التاسعة فتجدبه جذباً ، بل تَخْلبه . لم أشعرْ تجاهها بانجذاب جنسيّ محدّد لأني ببساطة لم أكن أفهم ما هو الجنس ، لكنّ النظر إلى ميشلين ولّد عندي إحساساً أكيداً بالهياج والإثارة مبعثُهما تحوُّلُها الكليّ . والأكثر إثارةً من ذلك كله هو انتقالها ، خلال الأيام الثلاثة من العروض المسرحية ، من زميلةٍ لنا عاديةٍ وباهتةٍ ورتيبةٍ ، إلى كائن تحيط به هالةٌ مؤكّدةٌ من الغواية والسموّ . خلال النهار ، كنتُ أراقب ميشلين تعيش حياتها العادية وأَعْجب كيف أنها تتكلم مثلَنا وتتحمل نقدَ المعلمة وتعاني الصعوبات في دروسها ، دون أن يراعي أحدٌ نجاحَها كممثلة . وإذا هي في الليل الصبيّةُ المميّزةُ الموهوبةُ المتوهجةُ قوةً ومهارةً . شاهدتُ جميع عروض المسرحية ، رغم أنّ أهلي كانوا يعاندونني في كل مرة ، ثم يستسلمون على اعتبار أنّ ذلك " جزء من تربية الولد " ، حسبما شخّص أبي الأمرَ . ثم كان يحلو لي الوقوف صامتاً ، دون ن يَشْعر بي أحد ، خارج بوّابة المدرسة لأشاهدها تغادر . عيناها تبرقان بإثارةِ مَنِ استأثر بالأمسية بمفرده ، وثوبُها الأبيض نصفُ متوارٍ تحت المعطف الأسود الذي يلفّه والدها على كتفيها . كنت أحسّ بشيء من الذنب لأني " أتلصلص " ، ولكنْ ما لبثتْ أن تغلبتْ عليه رعشةُ التخفي ورؤية ميشلين تَخْرج من حياةٍ لتدخل في حياة أخرى .

يتبع إن شاء الله