لم يكن لي أنْ أختبر انتقالاً كمثل هذا الانتقال . كان ثمة بالتأكيد خللٌ ما في حياتي ابتُكِرتْ له علاجاتٌ منتظمةٌ تقع كلُّها خارجْ المدرسة ، مع أنّ العديد منها مجردُ امتداد لها . عام 1946، في سنتي الأخيرة في " إعدادية الجزيرة " ، أودعوني بعد ظهر يومين من كل أسبوع منزَل آل غرينوود ، عبر خط سكة الترامواي ، لتمارين رياضية إضافية . وكسائر الأولاد الإنكليز في المدرسة الذين لم يكن آباؤهم معلِّمين ، كان جيريمي غرينوود ابناً لموظف كبير في إحدى الشركات ، تحيط بفيللته في الزمالك ، التي لم أدخلها قط ، حديقةٌ كبيرةٌ وسورٌ عالٍ . وكان مدرّب مصريّ نحيل ، ويرتدي الزيّ الأبيض المهفهف للاعبي الكريكيت ، يقود حفنةً من الأولاد لساعة من التمارين السويدية على المرج ، يليها الركضُ وتقاذُفُ الكرات واحدنا للآخر . لم أتعلم أية مهارات في الدروس عند آل غرينوود ، ولكنني بصفتي الولدَ الوحيدَ غيرَ الإنكليزيّ تعلمتُ شيئاً عن " اللعب حسب الأصول " و" الروح الرياضية" [ " الرجولة الرياضية " بالإنكليزية ] ، وهي كلمةٌ أذكر جيداً أنّ مدرِّبنا كان يلفظها مشدِّداً على " رجولة " وهو يلثغ بحرف الراء . وأدركتُ أنّ العبارتين كلتيهما تتعلقان بالمظهر : فـ " اللعب حسب الأصول " يعني أنْ تعترض بصوتٍ مرتفع لدى أحد البالغين بأنّ ما فعله خصمُك لم يكن " حسب الأصول " ، و" الروح الرياضية " تعني عدم الإفصاح عن مشاعر الغضب والحقد الحقيقية [ التي تَكنّها لخصمك ] . ولأني الولد غير الإنكليزيّ الوحيد في حصص بعد الظهر عند آل غرينوود فقد امتلكني شعورٌ عميقٌ بالحرج والهجران .
بعد بضعة أسابيع تعيسة وعديمة الجدوى من التمارين ، نُقِلتُ إلى فرقة جراميز كشفية ، كانت بقاياها الممرّغة بالأوحال - إذْ لم تلتئم الفرقةُ مرةً بكامل أعضائها - تجتمع بقائديها خلف سقيفةٍ في أراضي " نادي الجزيرة " . كنا نجلس القرفصاء كثيراً ونزعق أكثر في وجه الريح " آكي - اي - لا ، سوف نبذل جهدنا " . وكنتُ فخوراً تحديداً بطقس الولاء هذا لأنه وضعني علناً ، ولأول مرة ، في الصفوف الأمامية مع الأولاد الإنكليز ومع دايفيد عدس الكريه الذي اكتسبتُ مناعةً ضد تهديداته التي كان يوشوش بها في طوابير الجراميز أيضاً . كنا نجتمع بعد ظهر كل أربعاء وسَبت ، وأنا أزهو بالقميص والشُورت الخاكييْن ، والفولار الأحمر ذي العقدة الجلدية البنّية ، والجواربِ الخضراء الأنيقة ، ورباطِ الجوارب الأحمرِ . ولَم يَرُق الأمر لأمي إذ رأت فيه عمليةَ عسكرةٍ لشخصيتي ؛ ولما كانت قد شاركتني القراءة عن " موغلي " و" كاآ " و " آكيلا " بل عن " ريكي - تيكي - تافي " ، فإنها لم تكن راضيةً عما يَفْرضه الإنكليزُ من تراتب وسلطة على ولدها ، وكانت تكاد لا تكترث بزيّي . أما شقيقتاي روزميري وجين ، ولهما من العمر سبعُ سنوات وأربعُ سنواتٍ على التوالي ، فقد روَّعتْهما لحظاتٌ من الفزع خلال هتافاتي والصيحات التحميسية .
لم يقل أبي شيئاً يُذْكر عن هذا الموضوع ، إلى أنْ جاء اليومُ الذي سمعني فيه أتدرب على القَسَم ، وتحديداً المقطع المتعلق بالله والملك . " لماذا تقول ذلك ؟ " ، سألني وكأني أنا مؤلِّفُ الكلمات . " أنت أميركيّ ، ونحنُ ليس لدينا مَلِكٌ ، بل رئيسُ جمهورية . أنت مخلِص للرئيس . لله والرئيس . " صُدِمتُ للحظة ( فلم تكن لي فكرةٌ عمّن يكون ذلك الرئيس ولا عن الدور الذي يلعبه في حياتي . أما الملك فكان بالنتيجة آخرَ من درستُ عنهم ضمن سلالة طويلة ، من إدوارد المعترِف إلى البلاتانيني وآل ستيوارت ومَنْ أَعْقبهم ) فنأنأتُ ببعض كلمات الاحتجاج الخفيفة : (( " الله والرئيس " لاتصلح )) ، على نحو ما بادرتُ بالقول . ثم رحتُ أنوح شاكياً : " لا أستطيع أن أقول ذلك ، دادي ، لا أستطيع " . فارتبك لرفضي المثير للشفقة أولَ الأمر ، وهو لم يكن يتصوّر ما الذي يعنيه لولدٍ ابنِ تسعِ سنوات أن يتحدى سلطاتَ جراميز الكشافة في نقطةٍ دقيقةٍ من نقاط التعبير عن الولاء التام . فالتفتَ إلى أمّي وقد كانت على مقربة منا ، كما هو الحال دوماً ، وقال لها بالعربية " هيلدا ، تعالي ، شوفي شو بو إبنك " .
لأول مرة استوعبتُ معنى تقصيري عن توقعاته عني . ثم كانت حادثة ثانية ، ارتبطتْ هي أيضاً بالجراميز . ففي أصيلِ يوم سبتٍ رائع ، أُخِذتْ مجموعةٌ من الجراميز إلى ملعب كرة القدم القريب الواقع على الطرف الآخر ، الأكثرِ انكشافاً ، من سقيفة نادي الجزيرة . وكانوا قد أعلنوا عن مباراتنا ضد جراميز نادي هليوبوليس قبل ذلك بأسبوع . وبسذاجةٍ ، دعوتُ أبي - وكان لاعبَ خط هجوم عظيماً منذ ثلاثين سنة في القدس - لحضور المباراة ومشاهدتي أواصل التقليد العائليّ . وكان ابنُ عني ألبرت ، عضوُ فريق الدرجة الأولى في مدرسة سان جورج ، يُشْبه أبي شَبَهاً كبيراً من حيث المظهرُ والاهتمامُ بالألعاب الرياضية ، رشيقاً وسريع الجري ، مثلما كان عمّه وديع . وكنت أتمنى أن أكون مثل ابن عمي . ومهما يكن من أمر ، فقد ماهيتُ بين ابن عمي وأبي عندما كان في عمره ، وافترضتُ ، بتشجيعٍ ليس بالقليل من ابن عمي اللامبالي ، أنّ أبي لاعبٌ عظيمٌ سوف يقدّر لعبي . " أرجوك أن تأتي لتشاهدني ألعب " ، قلتُ . وهو بدوره ، لم يفاجئني سلباً ، فأتى .
أغفلتُ التزوّد بحذاء كرة القدم ، وأغفل الأمرَ مثلي رئيسُ فريق الجراميز ، فإذا أنا اللاعبُ الوحيد في الملعب يركض في حذاء بُنيّ فخم من محلات بول فابر . عُيّنتُ في أحد مواقع نصف المؤخرة ، فوجدتُني فجأةً في ضياعٍ كامل حول ما يترتّب عليّ أن أفعله. وكانت مفاجأتي الكبرى عندما أدركتُ ، كأنما للمرة الاولى ، أني لم ألعب ضمن فريق كرة قدم من قبلُ ، وأنّ أبي ، الواقف ملهوجاً على مسافة خمسين قدماً تقريباً مني ، يشاهد ابناً ليس عديم الكفاءة وحسب بل هو أيضاً أخرقُ بطريقة مُهينة ، ويَلْعب في موقع لا شأن له به . بدت قدماي ضخمتين وثقيلتين جداً في آن . رَفَستُ في اتجاه أولِ كرةٍ توجهتْ صوبي فأخطأتُها كلياً . باختصار ، كانت تلك بدايةً رائعة للعبٍ يفتقر إلى ميزةٍ على الإطلاق . " سعيد " ( لَفَظَها " سايد " ) ، نَبَر أحدُ المعلّمين ، " تحرّكْ أكثر . لا يجوز أن تبقى واقفاً هكذا لا تأتي حراكاً ! " ورأيتُه لاحقاً يرمقني بنظرةٍ لائمة لأني أكلتُ ثلاث حصص برتقال أو أربعاً خلال الاستراحة بدلاً من واحدة أو اثنتين . وكنتُ في الشوط الثاني ، بمثل ما كنته في الأول ، يشلّني الجبْنُ والتردد . وخسرنا .
بعد القدّاس ، في اليوم التالي ، اعترضني أبي في الممر المؤدي إلى غرفة الطعام وكنا على أهبة تناول الغداء . وكان ذلك من المرات النادرة التي يشاركنا فيها أناسٌ آخرون ، أَيْ أفرادٌ من العائلة، وجبةَ الأحد الرئيسية ، وهو ما أضفى بعضَ الحيوية على يوم من التقوى الإجبارية عادةً ما يكون رتيباً . فخمّنتُ أنّ المواجهة مع أبي لن تكون سارّةً . أمسكني من كتفي بعد أن أدارني أمامه ، فإذا كلانا يواجه الممر . وفيما هو يسّدد ضربةً بقدمه تقليداً لرفسةِ كرةِ القدم ، بدأ يقول : " شاهدتُك بالأمس " . برهة صمت . " أنت ترفس الكرة ثم تلازم مكانك . يجب أن تَلحق الكرة . أنْ تتحرك ، تتحرك ، تتحرك . لماذا تلازم مكانك ؟ لماذا لا تهجم وراء الكرة ؟ " وأرفقَ السؤالَ الأخير بدفعةٍ قوية قذفتْ بي إلى الطرف الآخر من الممر في ملاحقة افتراضية لكرة قدمٍ غيرِ موجودة . فما كان مني إلاّ أن تعثّرتُ بقوةٍ استعدتُ بعدها توازني بطريقة تخلو كلياً من الأناقة . ولم يكن لي ما أقوله على الإطلاق .
لا أدري إنْ كان إحساسي بعدم اللياقة البدنية - الصادرُ عن شعور بأنّ جسمي وشخصي لا يسكنان على نحوٍ طبيعيٍّ الفسحاتِ المعيّنةَ لي في الحياة - قد نَجَمَ عن تلك المصيبة الرهيبة التي رماني بها أبي ، ولكني أجدني دائماً أعزو ذلك الإحساسَ إلى ذلك الحدث . فقد بدأتُ أكتشف أنّ الجسم والشخصية متلازمان في تفحّص أبي لسلوكي . وإذا الموضوع المستدام لتعليقاته ، منذ اليفاعة حتى نهاية دراستي الجامعية ، هو ميلي إلى عدم الذهاب بعيداً بما فيه الكفاية ، واكتفائي بملامسة السطوح ، وعدم " بذل قصارى جهدي " . وفي كل تنبيهٍ إلى إحدى تلك النواقص كان يؤدي إشارةً معينة بيديه : القبضة المضمومة المشدودة إلى كتفه للحال الاولى ، ورفرفة اليدين من اليسار إلى اليمين للحال الثانية ، وهزّ الإصبع للثالثة . وغالباً ما يَسْتشهد بمباراة جراميز الكشافة في كرة القدم تدليلاً على ما يعنيه ، فأستنتجُ من ذلك أني لا أتمتع بالقوة المعنوية اللازمة لبذل " قصارى جهدي " . كنتُ ضعيفاً بكل معاني الكلمة ، ولا سيّما بالقياس إليه ( وقد اكتشفتُ بنفسي هذه المقارنة غيرَ المفصَحِ عنها ) .



يتبع إن شاء الله