جيمس زغبي: النفاق وحقوق الإنسان

الاتحاد الاماراتية GMT 22:00:00 2005 الأحد 10 أبريل
قبل خمس سنوات خلت، كنت قد التقيت الوزير الإسرائيلي الحالي، ناتان شرانسكي لقاءً قصيراً. وقتها كنا ننتظر معاً في قاعة الانتظار الخاصة بضيوف لقاءات شبكة "إن. بي. سي" التلفزيونية. فشعرت بأنني في حاجة للحديث إليه. بل الواقع أنني ظللت أشعر بتلك الحاجة، منذ أواخر عقد الثمانينيات. حينها تذكرت جيداً، مواقف شرانسكي، يوم أن كان أحد "سجناء الضمير" في السجون السوفيتية سابقاً. كما تذكرت الفرحة الغامرة التي أحاطت بإطلاق سراحه فيما بعد. لكن وبين ما تذكرته، صمته في بادئ الأمر على طريقة معاملة إسرائيل للسجناء الفلسطينيين، ثم جهره بصوت النقد والاستهجان، لتلك المعاملة بعد وصوله إلى إسرائيل. وفيما جال بخاطري في لحظات الانتظار تلك، كيف أن السلطات الإسرائيلية روضت ذاك البطل المدافع عن حقوق الإنسان فيما مضى، ولم تكتف بإخراس صوته الناقد فحسب، بل حولته إلى مدافع عن الحكومة الإسرائيلية، ومعتذر عما تقوم به من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان! بل وحين اقتحم شرانسكي الحياة السياسية الإسرائيلية، انضم إلى كتلة اليمين، وباشر انتهاكات حقوق الإنسان، بحكم موقعه وزيراً في الحكومة الإسرائيلية!.

وما كان دافع كل هذا الاهتمام بالتطورات التي حدثت في مسيرة شرانسكي، سوى أملي في أن أراه يوماً وهو يتصرف على نحو مختلف عما فعل. وكان صديقي الدكتور إسرائيل شاهاك – الذي كان سجيناً وضحية لجرائم إساءة معاملة المعتقلين وتعذيبهم في السجون النازية، ثم أشرف لاحقاً على تأسيس جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان والحقوق المدنية في إسرائيل- قد بعث إلي، بعدد من القصاصات والتقارير المنشورة في الصحف الإسرائيلية، عن مسيرة شرانسكي. وكان كلانا – أنا وصديقي الدكتور شاهاك- قد خاب أمله في ألا ينظر شرانسكي إلى مسألة حقوق الإنسان بمنظار واحد، ويقيسها بمعيار واحد أيضاً. فقد ثبتت انتقائيته وازدواجية معاييره إزاء حقوق الإنسان.

لكل هذه الأسباب مجتمعة، فقد انتظرت في القاعة تلك، حتى أنهى شرانسكي المكالمة الهاتفية التي كان منشغلاً بإجرائها، ثم جئته وتبادلنا معاً التحية والمجاملة. لكن وبعد ذلك مباشرة، أخبرته بأنني من المتابعين لمسيرته وحياته السياسية، وصارحته بمدى شعوري بخيبة الأمل، إزاء خضوعه وخنوعه أمام الضغوط التي تعرض لها في إسرائيل. وقلت له إن صوته كان ممكناً أن يكون على قدر كبير من الأهمية في حفز حقوق الإنسان والحقوق المدنية في بلاده، لكنه وللأسف انحنى وفقد شجاعته، وآثر التزام الصمت. أصغى الرجل إلى ما قلت، وطنطن بكلمات فهمت منها أنه يرمي للقول إنني لا أعي مدى خطورة "التهديد الفلسطيني" لأمن إسرائيل ومواطنيها. كما لاحظت أيضاً أنه تفادى قدر ما استطاع، أن تقع عينه على عيني مباشرة، طوال مدة حديثي معه. وعلى الرغم من أنني كنت أنوي مواصلة الحديث، إلا أن انصراف عينيه عني، وطأطأة رأسه طوال الوقت، وصمته الجليدي، كلها كانت مؤشرات واضحة منه على عدم الرغبة في مواصلة الحديث. هل ذلك من باب الاستحياء وتأنيب الضمير يا ترى؟ كلا فالأرجح أنه آثر عدم تضييع الوقت مع شخص "كافر" مثلي حسبما يعتقد هو!.

درس المصداقية هو الفائدة العظمى التي نخرج بها، عند مراجعتنا لسيرة شرانسكي هذه، وما آل إليه من صمت وخذلان إزاء أهم ما آمن به وناضل من أجله خلال فترة طويلة من حياته. ولما كانت المصداقية وتفادي النفاق والرياء، فيما هو أساسي وجوهري في حياة الأمم والشعوب قاطبة من الأهمية بمكان، فإن علينا نحن العرب أن نتوخى المصداقية ونتفادى الرياء فيما نعلنه من التزامات إزاء صيانة حقوق الإنسان. فمثلما ننتقد انتهاكات أميركا لحقوق الأسرى العراقيين، وانتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين، فإن علينا أن ننتقد الممارسات ذاتها، حين تصدر عن الحكومات والأنظمة العربية. ومن باب المصداقية نفسها، فإن علينا ألا نكيل بمكيالين فيما يتصل بانتهاك هذه الحقوق، سواء كان هذا الانتهاك أجنبياً أم نابعاً من واقعنا العربي.