أما جذعي فلم يُثر أي تعليق يذكر إلى أن بلغت الثالثة عشرة، أي قبل سنة من انتسابي الى "فكترويا كوليدج" عام 1949. تعرف أبي الى رجل في نادي الجزيرة يدعى السيد مراد كان قد فتح للتو نادياً للتمارين الرياضية في شقة بشارع فؤاد الاول في الزمالك، لا تبعد اكثر من نسف ميل عن بيتنا. ولم يمضِ وقت طويل حتى وجدتني مسجلا عنده في لثلاثة دروس في الاسبوع مع نصف دستة من الكويتيين امّو القاهرة للدراسة. تضمنت التمارين ثني الركبتين وتقاذف "الكرات الطبية" ورفع الاثقال وتنمية عضلات البطن والهرولة والقفز (وكل ذلك في حجرة مربعة منمنمة). وسرعان ما صرت كبش المحرقة لمعلمنا النحيل، السيد رجب، الذي كان يصيح بي بإنكليزية متغطرسة "مزيداً من الجهد" "فوق، تحت، فوق، تحت" إلخ. ووقعت الواقعة بعد مضي اسابيع معدودة: " هلّم إدوارد" قال مزيدا من التمارين تقوية عضلات البطن التي أقوم بها، "يجب أن نعيد الى بطنك هذا شكله" وعندما قلت إني ظننت أن ظهري هو الهدف من وجودي في ناديه الرياضي، وافقني لكنه أردف قائلا إن جذعي ليس صلبا بما فيه الكفاية "في كل الاحوال، هذا ما يريدنا والدك أن نفعله". لم اُثِر الموضع قط مع أهلي، لجرجي الكبير الناجم عن معرفتي رأيهم في جذعي. وهكذا تولّد شَرخٌ آخر في علاقتي بجسدي. وإذ ارتضيت الحكم الصادر عليّ، استنبطت النقد وازداد حرجي وانعدام ثقتي بهويتي الجسدانية.

أصبحت يداي الاشكاليتان الميدان المميز لاهتمام امي النقديّ. وعلى الرغم من أني كنت ادرك، ولو بطريقة غ امضة اني لا أشبه آل سعيد (وهو قصار وجسامٌ شديدة السمرة) ولا أقاربها من آل موسى (وهو بيض البشرة، متوسطو القامة والبنية، ولهم أصابع وأطراف أطول من المعتاد)، فقد اتضح لي أني املك طاقات من القوة الجسدية ومن المؤهلات الرياضية حُرِمها سواي. فعند بلوغي الثانية عشرة، كنت اطول بكثير من أي فرد آخر من أفراد العائلة، وبفضل إلحاح أبي المستغرب، جمّعت علما وخبرة في ألعاب رياضية عدة، بما فيها كرة المضرب والسباحة وكرة جمعت علما وخبرة في ألعاب رياضية عدة، بما فيها كرة المضرب والسباحة كرة القدم (وعلى الرغم من اخفاقي الملحوظ فيها) وركوب الخيل وألعاب الميدان والكريكيت وكرة الطاولة والملاحة البحرية والملاكمة. ولئن كنتُ لم أبرّز في أي منها فلأن خجلي الشديد عطّل قدرتي على السيطرة الخصم، على انه تمت عندي مهارة طبيعية كبيرة فيها جميعا. وهذا ما سمح لي أن أنمي، عبر السنين، قوتي البدنية وبعض العضلات وزخما ونفسا خراقين وما أزال أتمتع بهاتين الميزتين الاخيرتين. كانت يداي كبيرتين بنوع خاص، ومعروقتين بطريقة استثنائية ورشيقتين، فإذا بهما في عين أمي تارة موضع اعجاب حد العبادة (الأنامل المطاولة النحيلة، أشكالها المتناسقة، ورشاقتها الرائعة) وطورا موضع ادانة شبه هستيرية ("يداك هاتان أدوات قاتلة"، "سوف تُوديان بك على التهلكة"، "حذارِ").

رأت أمي في يدي كل شيء سوا أنهما يدان. رأت فيهما مطرقتين وكلاّبتين وهراوتين وأسلاكا فولاذية وأظافر ومقصاتٍ. وحين يهدأ روعها ويسكن هياجها، تراهما أرفع أنواع الادوات، وأكثرها رقة، أما مصدر اهتمام أبي بيديّ فكان أظافري التي كنت اقضمها باستمرار، فحاول لعقود من الزمن ثنيي عن فعلتي الى درجة انه خضّبهما بمحلول طبي كريه المذاق ووعدني بحفلة مانيكور فاخرة عند "شي جورج" الحلاق الفخم الذي يقص له شعره في شارع قصر النيل لكنه عبثا حاول مع اني كنت احيانا كثيرة اخفي يدي في جيوبي، وانا اتفادى تحديقه حتى لا يلفت "ظهري؟ نظره او نظر أي سواه.

وقد تمازح المعنويّ مع جسدي اكثر ما تمازجا عندما كان الامر يتعلق بلساني الذي حظي بسلسلة كثيفة من الاستعارات والتشبيهات في العربية، معظمها سليبي تتكرر، في حالي، بوتيرة متسارعة, في الانجليزية كنت تسمع فقط عن "لسان مقذع" أو "لسان سليط" في مقابل "اللسان العذب". وعندما تنفلتمني عبارة نابية، يُلقى اللوم فيها على لساني "الطويل" والعدواني والمنفر والمنفلت من مقاله, وهذا النعت شائع في العربية لتعيير من يفتقر الى الدماثة والبلاغة، وكلاهما من الخصال الحميدة في معظم المجتمعات العربية. والحقيقة أن كبتي هم سبب سوراتي الدورية، ذلك اني بالغت في التعويض عن ذلك الكبت-في الاتجاه المعاكس. أضف الى ذلك استهتاري بكل اللياقات في مخاطبة الاهل والاقارب والشيوخ والاساتذة والاشقاء والشقيقات علىحد سواء. وهذا ما لاحظته امي التي كانت تصعِّد ذنبي إلى مصاف النذير بعواقب وخيمة آتية. يضاف إلى هذا، عجزي المطلق عن كتم الاسرار او مجاراة الاخرين في انتقاء ما يجوز او لا يجوز قوله من الكلام. من هنا، اعتُبرتفي اطار اللغة العربية شاذاً عن السلوم القويم وكائناً فظاً بجدر بالاخرين تجنبه.

ولعلّ المسألة الأساسية كانت الجنس، أو بالاحرى الحظر الذي ألقاه أهلي على تدخلة في حياتي، وتعطيلهم لمفاعيله حين لم يكن في مقدورهم طرده منها. تصور اني عندما غادرت الولايات المتحدة عام 1951، وانا في الخامسة عشرة من العمر كنت ما أزال متبتلاً كليا ومعاشرتي الفتيات معدومة. حتى إن أفلاما مثل "قطاع الطرق" و "مبارزة تحت الشمس" وحتى "فابيولا"، المسرحية ذات الازياء التاريخية التي تمثل فيها ميشيل مورغان، وقد رغبت رغبة شديدة في مشاهدتها، كانت محظورة علي بحجة أنها "غير مناسبة للأطفال". وقد استمرت تلك المحظورات سارية حتى بلوغي الرابعة عشرة. ولم يكن يوجد مجلات جنسية أو افلام فيديو اباحية متوافرة علناً في تلك الايام. ثم إن المدارس التي ارتدتها في مصر والولايات المتحدة الى حين بلوغي السابعة عشرة والنصف كانت تُوَلْدن كل شيء وتنزع عنه كل صفة جنسيية. وينطبق الامر ذاته في جامعة برينستون حيث درست الى حين بلوغي الحادية والعشرين. كان الجنس ممنوعا في كل مكان، بما في ذلك الكتب، على الرغم من أن فضولي وتوافر الكتب في مكتبتنا حال دون تطبيق المنع الكامل في هذا الميدان. فقد قرأتُ وصفاً يتضمن التفاصيل الوافية عن العملية الجنسية من مذكرات ويلفرد ده سانت ماندي عن الحرب العالمية الاولى. والكاتب ضابط بريطاني لم أكن اعرف عنه شيئاً سوى أنه ينتقل من ساحة الوغى الى المواقعة الجنسية وبالعكس خلال ما يزيد عن ستمئة صفحة. وحقيقة الامر أن سانت ماندي صار واحد من رفقاء مراهقتي الصامتين السريين. ولم يكن ذلك العسكري المتهتك الهمجي المتعطش الى الدم، ابن الارستقراطية البريطانية، بالقدوة الحسنة، ولكني لم آبه للأمر، بل زاد من تعلقي به. وهكذا أُبعدت بعناية في حياتي العلنية عن كل ما من شأنه اثارة الغريزة الجنسية، دون أن يؤتى على ذكر الامر إطلاقاً. لكن حاجتي العارمة إلى المعرفة والاختبار هي التي خرقت قيود الأهل، إلى أن حدثت مواجهة علنية ما أزال أرتعد لذكراها بعد مضي ست وأربعين سنة عليها.

فبعد ظهر يوم أحد قارس البرد في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1949 وفي تمام الساعة الثالثة، وبعد اسابيع معدودة من بلوغي الرابعة عشرة، حدث طرقٌ قوي على باب غرفة نومي أعقبة على الفور لويُّ متسلط وصارم لمقبض الباب. وإذا هي زيارة للاهل بعيدة كل البعد من أن تكون ودِّية. بل كَبسةٌ شرسةٌ بامتياز على شخصي، جرى الاعداد لها خلال ما لا يقل عن ثلاث سنوات الى حين بلغت تلك الذروة، ونُفِّذت باستقامة لا يأتيها الباطل من أمام أو وراء وكل ذلك "لصالحك" كما قالوا. وقف أبي قرب الباب للحظة ممسكا بقرف القطعة السفلية من منامتي بيده اليمنى، وقد تذكرت يائساً أني تركتها في الحمام ذلك الصباح. فمددت يدي لالتقاط الادارة الجرمية، متوقعا أن يؤنبني كما فعلا مرة أو مرتين من قبل لتركي أشيائي متناثرة خلفي ("رجاء ضُبّها في مكانها، لا تترك أغراضك ليلمّها عنك شخص آخر")، مضيفا أن الخدم ليسوا موجودين من أجل راحتي الشخصية.


يتبع إن شاء الله