ولكنِّي أيقنتُ أنّ الأمر أكثر خطورةً مما ظننتُ للوهلة الاولى ، حين ظلّ ممسكاً بقطعة الثياب في يده . فغُصْتُ في السرير متحيِّناً الهجومَ بقلق . وعندما بلغ وسط الغرفة وفيما هو يهمّ بالكلام ، شاهدتُ وجه أمي الممتقع يؤطِّره البابُ على مبعدةِ خطواتٍ منه . لم تنبسْ ببنت شفة ، بل حضرتْ لإضفاء ثقل عاطفيٍّ على ادعائه عليّ في تلك القضية . " أنا وأمك لاحظنا " - قال ملوِّحاً بالمنامة - " أنك لم تستحلم . وهذا يعني أنك تَعْبث بجسدك " . ولم يكن قد أَطْلق العبارة على نحوٍ اتهاميّ من قبل ، على رغم أنّ مخاطر " العبث بالجسد " وفضائلَ الاستحلام كانت موضوعَ محاضراتٍ وشروحٍ جمّة أُلقِيَتْ عليّ خلال نزهة على ظهر الباخرة " ساتورنيا " خلال إبحارنا إلى نيويورك في تموز/ يوليو 1948 .
جاءت المحاضرات والشروح رداً على سؤال كنتُ قد وجّهتُه إلى أمي عن زوجين صغيرين قويي البنية من مغنّي الأوبرا الإيطاليين أبحرا معنا على متن الباخرة " ساتورنيا " . كانت ترتدي كعباً عالياً جداً وثوباً أبيض يهصر جسدها هصراً ، وشفتاها مثقلتيْن بأحمر الشفاه ، وكان هو يزهو في بذلة بنّية برّاقة منتعلاً حذاءً عالي الكعب وقد ملّس شعره إلى الخلف بعناية . وكان ينبعث منهما شَبَقٌ طافح لم أستطع الربط بينه وبين أية ممارسات جنسية محددة . وعلى حين غفلة ، سألتُ أمي بارتباك وتلعثم كيف " يفعلها " هؤلاء القوم ، إذ لم أكن أعرف الكلمات المناسبة لذاك " الفعل " ولا الكلمة المناسبة للقضيب أو الفرج او المداعبة ، فكلُّ ما استطعتُه هو إيراد التبوّل والتبرّز في سؤالي وقد خطر لي ، لسببٍ ما ، أنهما يدلان على اللذة أيضاً . فإذا بنظرة جزعٍ وقرفٍ على وجه أمي ترمي بي إلى حوار " من رجل إلى رجل " مع أبي . والحال أنّ القسم الأكبر من سلطانه الطاغي ومن قوته القاهرة عليّ كان يكمن في تلك التوليفة الغريبة من الصمت ومن تكراره لكليشيهات التقطها من أماكن متنوعة : من كتاب أيام طوم براون في المدرسة ومن " جمعية الشبان المسيحيين " ، ومن دروس فن التسويق ومن التوراة والمواعظ الإنجيلية ومسرحيات شيكسبير وما إليها .
" فَكِّرْ بكأس تمتلئ رويداً رويداً بسائلٍ ما " ، هكذا استهلَّ أبي حديثه ، " وما إنْ تطفح الكأس " - وهنا كَوَّرَ يداً وباليد الثانية قَشَطَ السائل الافتراضيّ الفائض [ من اليد الأولى ] - " حتى يكون من الطبيعي أن يفيض السائل منها ، فإذا أنت تستحلِم " .
صمتَ لبرهة . ثم واصل حديثَه المجازيّ : " هل شاهدتَ مرةً فرساً تكسب السباق دون أن تواظب على خَطْوٍ ثابت ؟ لا ، بالطبع . فإنْ هي بدأتِ السباقَ متقدمةً على الآخرين ، فإنها لن تلبث أن تتعب وتتخلّف عن الرَّكْب . الأمر نفسه ينطبق عليك . إذا أخذت " تعبث بجسدك " ، لن تمتلئ كأسُك ولن تفيض ولن تكسب سباقاً ، بل لن تصل إلى نهاية الشوط " . وفي مناسبة مماثلة ، أضاف التحذيرَ من إصابتي بالصلع أو الجنون ، أو بكليهما معاً ، جرّاء " العبث بالجسد" الذي نادراً ما كان يشير إليه بـ" الاستمناء " وهي كلمة كان يَلْفظها بنبرة لومٍ مخيفة .
لم يتكلم أبي مرةً عن ممارسة الحب ، ناهيك عن النـَّ..... وعندما طرحتُ السؤال عن كيفية ولادة الأطفال ، كان الجواب أقرب إلى ترسيمة جاهزة . حتى إنّ حَمْل أمي المتكرر ، وخصوصاً انتفاخ بطنها بطريقةٍ تُنْذر بالخطر خلاله ، لم يُسهم في حسم المسألة . كانت تعتمد الجواب نفسَه دائماً : " كتبنا رسالةً إلى يسوع فَبَعَثَ إلينا بطفل ! " . أما ماقاله أبي بعد تحذيره الصارم على ظهر الباخرة من " العبث بالجسد " فكلماتٌ شحيحة ، كأنه يُقفل بها البحث ، عن كيفية وضع الرجل " أعضاءه الحميمة " في " الأعضاء الحميمة " الخاصة بالمرأة . فلا شيء عن النشوة أو القذف ، أو عن موضع تلك " الأعضاء الحميمة " من الجسم . وهو لم يأتِ مرةً على ذِكْر اللذة .
أما التقبيل ، فقد أشار إليه مرة واحدة فقط خلال السنوات التي كنا فيها معاً . " يجب أن تتزوج امرأة " ، قال لي عندما كنتُ في الكلية ، " ما باس فمها إلاّ أمها " . ولم يؤتَ حتى على ذِكر العذرية ، وهو المفهوم المبهم الذي سمعتُ به في مدرسة الأحد ثم خلال دروس التعليم الدينيّ ، فلم يكتسب عندي معنىً محدداً إلا عند بلوغي العشرين .
بعد أن عدنا إلى الولايات المتحدة ، في خريف 1948 ، سنحتْ مناسبتان أو ثلاث مناسبات لنتحادث من رجل إلى رجل ، يساورني فيها كلَّ مرة شعورٌ متنامٍ بالانتهاك والذَّنْب . سألتُه ذات مرة كيف يَعْلم المرءُ أنه قد استحلم . " تَعْلم ذلك في الصباح " ، كان جوابَه الأول . وكما العادة ، ترددتُ في الاستزادة من الأسئلة . على أني ما لبثتُ أن أقدمتُ عندما أثار الموضوعَ مجدداً ، مرفِقاً إياه برواية أكثر تزويقاً عن شرور " العبث بالجسد " ( وَرَدَ فيها أنّ الرجل يُضْحي " عديمَ النفع " و " فاشلاً " إذ يتمكن منه الانحطاطُ نهائياً ) . " الاستحلام إفرازٌ ليليّ " ، قال كأنه يقرأ في كتاب . " هل هو مثل البيبي ؟ " سألتُ مستخدماً التعبير المخفّف الذي نستخدمه جميعاً للتبول ( كان لفظ " بيبي " البديلَ الأقلَّ مجازفةً بالتأكيد ، تنهاني أمي دائماً عن استخدامه فلا أتفوّه به إلا عندما " أتشيطن " ، مثل قولي لإحدى شقيقاتي " أستطيع أن أرى سروالكِ الداخلي !! " ، بما هو فعلٌ إضافيٌّ من أفعال العصيان والعناد ) .
" نعم ، إنه يشبه التبوّل ، إلى حد ما ، لكنه دبِق أكثر من البَول ويَعْلَق على منامتك " ، قال إذذاك . ففهمتُ لماذا كان يحمل منامتي بطريقة مخبرية في يده اليسرى ، فيما هو يقف على مبعدة خطوات من سريري . " لا أرى أيَّ شيء عالقاً على هذه المنامة إطلاقاً " ، قال لي بعبوس ونظرةِ قرف ، " لا شيء . كم مرةً حذّرتُكَ من مخاطر العبث بجسدك ؟ ماذا دهاك ؟ " . ثم رنا صمتٌ ، فيما رحتُ ألقي نظرةً خاطفة تتجاوز أبي نحو أمي . ورغم معرفتي أنها تتعاطف معي في قرارة نفسها معظمَ الأحيان ، فإنها نادراً ما تنشقّ عن معسكر أبي . في تلك الحظة ، لم ألقَ منها أيَّ تعاطفٍ على الإطلاق . كلّ ما رايتُه نظرةٌ متسائلة وَجِلة ، كأنها تقول : " صحيح ، إدوارد ، ما الذي أنتَ فاعله ؟ " وقد أضافتْ إليها القليلَ مِنْ " لماذا ترتكب هذه الأفعال الشريرة التي تؤذينا ؟ " .
امتلكتْني للفور حالٌ من الرعب والذنب والعيب والهشاشة ، إلى درجة أني لن أنسى ذلك المشهد ما حييتُ . وأهمُّ ما في تلك المشاعر كيفيةُ تركّزها على أبي الذي سامتني إدانتُه الباردةُ لي ، وأنا في سريري ، الإفحامَ والهزيمةَ . لم يكن لي ما أعترف له به مما لم يكن يعرفه أصلاً . لم يكن لي أيُّ عذر . فحقيقة الأمر أني لم أستحلم ، مع أني خلال العام المنصرم كثيراً ما كنتُ أستيقظ من النوم متوجِّساً ، أُنقِّب في السرير وفي منامتي عن دليلٍ يدلّ على حصوله . فلقد قطعتُ أشواطاً في انحداري إلى التهلكة ، وربما إلى الصلع أيضاً . ( وقد فزعتُ ذاتَ مرةٍ بعد الحمّام إذ لاحظتُ أن شعري المبلّل ، وهو كثّ جداً في العادة ، قد ظهرتْ عليه بقعٌ دالّة على الصلع . وقد توجستُ أيضاً من أن يكون إصرارُ أبي على قصّ شعري تكراراً يراد منه قطعُ الطريق على ظهور تلك الآثار المبكّرة للعبث بالجسد . " قُصَّ شعرَك تكراراً وقُصّه قصيراً مثل قَصّة شَعر أبيك " ، كان يقول ، " يبقَ قوياً وكثاً " ) . هكذا انكشف سرّي . وكلُّ ما خطر في بالي هو أنه لا مكان ألجأ إليه هرباً من العقاب الرهيب الذي سوف يحلّ بي لا محالة . وبطريقةٍ ما ، بعث فيّ القلقُ الغامضُ والطاغي الذي عانيتُه شعوراً محدداً جداً بالخطر ، وللحظةٍ شعرتُ وكأني أتشبث بـ" إدوارد " إنقاذاً له من الانقراض .
" ليس لديكَ ما تقوله ، أليس كذلك ؟ " ، أخذ أبي نفساً سريعاً ثم كانت الذروة ، إذ قذف بالقطعة السفلية من منامتي نحوي بعنف وبما بدا لي أنه منتهى القرف اليائس : " حسناً ، إذاً ، استحلِمْ ! " . صدمني الأمر القاطع - فهل يستطيع المرء فعلاً أن يستحلم بهذه البساطة متى يشاء ؟ - فغصتُ أكثر فأكثر في سريري . ثم حين ظننتُه يهمّ بالمغادرة ، عاد والتفتَ إليّ مجدداً :
" أين تعلمتَ العبث بجسدك ؟ " فكأن أعجوبة وقعتْ فأعطتني مخرجاً لأَنْفذ بجلدي من تلك الورطة . تذكرتُ في ومضةِ ذهنٍ أني منذ أسابيع معدودة ، قرابةَ نهاية الصيف ، وقبل بداية الفصل الدراسيّ ، كنتُ أتسكع في غرفة تبديل الشباب لملابسهم في نادي المعادي . وكان في ذلك الحين ناديَ أبي الأثيرَ للعب الغولف والبريدج إلا أنّ معارفي فيه كانوا قلائل نسبياً . وكنتُ ، بخجلي المعهود ، أَدْخل غرفة تبديل الملابس لارتداء المايوه فأتلكأ فيها على أملِ عقدِ صداقة جديدة أو مصادفةِ أحدِ المعارف القدامى . ولكنْ ما من شيء كان يخفِّف من شعوري بالتوحّد . في تلك المرة ، اقتحم الغرفةَ عصبةٌ من الفتيان يكبرونني سناً ، يَرْشحون ماءً من السباحة ، يتقدمهم إيهاب ، الفتى الطويل جداً والنحيل جداً الذي يشي صوتُه العميق بالثقة بالنفس : كان ثرياً ومطمئناً ومستقراً وفي مكانه . " هيّا إيهاب ، اِفْعَلْها " ، ألحّ عليه الآخرون . كنتُ قد شاهدتُه من قبل ولكننا لم نتعارف ، فلم يكن أبَوَانا على معرفةٍ واحدهما بالآخر ، وكنتُ ما أزال متَّكلاً على مثل هذا النوع من التعريف الأبويّ . أنزل إيهاب سرواله ، واعتلى المقعد ، وفيما هو يتلصص من فوق الجدار على منطقة التشمّس حول حوض السباحة ، بدأ يستمني . سمعتُني تتفلّت مني كلمات " افعلْها على نيّة كوليت " . وكوليت فتاة عشرينية جذابة جنسياً ترتدي دائماً مايوها ً أسود ، وكانت تَنْعم عليّ بحضور طيفها استيهاماتي الجنسية . لم يسمعني أحد ، فحسبتُني جحشاً فاحمرَّ وجهي خجلاً على غير إرادة مني ، ولكنْ بدا أنّ أحداً لم يلاحظ ذلك أيضاً . فالجميع يراقب إيهاب وهو يشوص فرخه ببطء ، إلى أن قَذَفَ أخيراً ، وببطءٍ أيضاً ، مُطْلقاً ضحكةً مغرورة وهو يَعْرض علينا أصابعه الدبقة كأنه فاز للتوّ بكأس في مباراة رياضية .
" كان ذلك في النادي . فَعَلَها إيهاب " ، أفشيتُ ذلك لأبي وهو لا يدري مَنْ هو إيهاب ولا ما كنتُ أحاول قوله . فأدركتُ أنه لم يسألني سؤالاً محدداً ، بل كان يطرح سؤالاً مجازياً . كنتُ مُذْنباً ، بالطبع . وهو يَعرف ذلك قطعاً . ثم إنّ ذنوبي قد انكشفتْ أمام أمي التي لم تنبس بكلمة وإنما ظهرتْ على محيّاها علاماتُ رعبٍ لا يكاد يَفْقه ما يجري حوله ، بل قُلْ تفجُّعَ أمٍ ثكلى .
لم يبدُ أنّ أبي كان مهتماً كثيراً بالشرح الذي قدّمتُ ، ولا كان يصغي خلال الثواني التالية التي تفوهتُ فيها بإعلاناتي الخرقاء عن التصميم على أن تكون أفعالي التاليةُ هي لغرض الإصلاح الذاتيّ . لقد كَشَفَ أمري فوجدني مقصِّراً ، وكان يدري أيّ ضرر أُحدثه لنفسي ، فحَكَمَ عليّ بأني ضعيف وغيرُ أهلٍ للثقة على الإطلاق . وهذا كلّ ما في الأمر . فقد سَبَقَ أن حدّثني عن الكأس وفرس السباق ، وعن الصلع والجنون . وكَرَّرَ عليّ مواعظه ما لا يقلّ عن ثماني مرات ، وكلُّ ما يستطيعه الآن هو أن يكرّرها مجدداً أو يكتفي بتسجيل الجريمة " بحكمة " ( وهي كلمة يحلو له استخدامُها ) ويمضي في حال سبيله ، موقناً أنّ سلطته وحُكْمه الأخلاقيَّ صامدان على نحوٍ خارق ولم يصابا بخدش . فلم أعاقَب على رذيلتي السرّية ، ولم يجرِ تذكيري بها . لكني لم أقتنع بأنّي أفلتُّ بخفة . فلقد أُضِيفَ هذا الإخفاقُ المؤكد الذي سجّلتُه على نفسي ، كما تجسّد في ذلك المشهد المسرحيّ بامتياز ، مثلَ شرخٍ جديدٍ ذي طاقة تدميرية عظيمة ، إلى بنية " إدوارد " الهشة والمتخلخلةِ أصلاً .


يتبع إن شاء الله