خلال السنوات العديدة التي قضيناها في القاهرة ، مارس أبي رقابةً من نوع أكثر علانية لأنه كان أحد الأوائل في مصر الذين امتلكوا بفخرٍ آلةَ تصويرٍ سينمائيةً من عيار 8 ميليمترات . وكان بالغ الانشغال بتسجيل مشهد متكررٍ تلو مشهد لـ " إدوارد " وأمِه وأبناءِ عمومته وعماته وعمومته ( لا أحد خارج العائلة ) يلعبون أو يرتاحون بسعادة وهناءة الرعوية متحررين من المتاعب . بهرتني الآلة المسطحة المستطيلة التي تنبعث منها رائحةُ البلاستيك ، بدواخلها المعقدة ومسالكها المتماوجة التي يمرّ الفيلمُ من خلالها ، وما يستدعيه ذلك من صبر خلال التعبئة والتسليك وإخراج الفيلم . ولم يكن أيٌّ من والديّ على مقدار كبير من المهارة ، وهي إعاقة يبدو أني ورثتُها منهما في ما يتعلق بالشؤون العملية ، بل إنّ أبي كان أخرقَ بالتأكيد . فقد كان يشتري الأفلامَ في بَكَرات صغيرة ويعبِّئها في الكاميرا بطريقة مستهترة إلى حد أنها تستعصي ، فيستخرج فيلماً آخر ، وينتزع الفيلم القديم بغضب من الآلة ويرميه جانباً ، ثم يعبئ الكاميرا بالفيلم الجديد ويباشر التصوير أخيراً . وكان يسير كلَّ بضعة أسابيع إلى محل " كوداك " في شارع عدلي باشا لتسليم الأفلام للتظهير ، وبدأتُ أُرافقه عندما بلغتُ الثامنة ، فكنتُ أراه يجمّع الأفلام في أربع بكرات كبيرة أو خمس ، والحجمُ الكبيرُ أكثر ملاءمةً لأنه يتيح ثلاثينَ دقيقةً من العرض المتواصل على آلة العرض .
مرة أو مرتين في الشهر ، كنا نمارس طقس إسدال ستائر غرفة الجلوس الشاسعة وتركيز آلة العرض المتطوّرة ، الدائمةِ البريقِ ، على منضدة القهوة الصغيرة الحديثة ونَنْصب الشاشة المركزة على سِيبة ثلاثية . وإذ تَعْبق رائحة الطزاجة الميكانيكية المصقولة في أرجاء الغرفة ، نطفئ الأنوار ونستقرّ في كنكنةٍ على مقاعد الدار الكبيرة المزدحمة والكراسيّ ، نشاهد أنفسنا في حديقة الحيوان وفي " سيران " على طريق الصحراء أو عند الهرم .
بعد شهور ستة على وفاة أمي عام 1990 ، عثرنا في قعر إحدى خزائنها في بيروت على كدسة كبيرة من الأفلام معلّبةً بعناية في علب بيضاء وزرقاء صنعها أبي خصيصاً لها بواسطة موظفي محلّه للقرطاسيات والتجليد . بلغ عددها نحواً من خمس وثلاثين علبةً تحوي ما مجموعه 120 فيلماً صُوّرت بين عاميْ 1939 و1952 ، وقد عَنْون أبي البعض منها بخطه الرديء - " القاهرة 1944 " ، " القدس 1945 " ، " زواج يوسف " - وتنبعث منها رائحةُ ، بل ملمسُ ، أمسيات العروض السينمائية أيامَ زمان . حملتُها معي إلى منزلي في نيويورك حيث قَبعتْ سنواتٍ في صندوقٍ كرتونيّ غريب ، وأنا أتساءل بفضول بين حين وآخر أيةُ حقبة من حياتنا القديمة محفوظةٌ فيها ، فيما راحت هي تنحدر ببطء في النسيان والإهمال .
وتشاء الصّدَفُ أن يجري تأهيلُ تلك الأفلام من جديد . فقد طَلَبَ مني مُخرجان شابان من البي . بي . سي . ، يُعدّان فيلماً تسجيلياً عن تأليفي كتاب الثقافة والامبريالية ، بعضَ الصور العائلية القديمة ، فدفعتْني غريزةٌ غامضة إلى التفكير في الصندوق الذي يحوي الأفلام القابعة في عُلَبها تنتظر بصبر . وقد أخذَ الشابان الأفلام إلى لُندن حيث حُوّلتْ إلى أفلام فيديو .
لم يخب أملي فحسب من رداءة التصوير ومن كثرة الاهتزاز فيه والمشاهد غير المُقنِعة ، ولا اقتصر الأمر على أنّ طبع الأفلام جاء إما فاتحاً جداً وإما مُعتماً جداً . بل كانت الأفلام ، إلى هذا كله ، تستثني الكثيرَ الكثيرَ ، فبدت اختزاليةً وجامدةً بإقصائها كلَّ أثر للجهد والقلق من حيواتنا . فالبسمات التي تعلو وجوه الجميع ، والحبورُ المستحيل التصديق ، وأمي التي تبدو فيها بدينةً أحياناً ( وأنا أذكرها أكثرَ نحولاً وأشدّ مزاجيةً ) ... كلُّ ذلك أبرزَ النوعيةَ الاصطناعيةَ لماهيتنا : أسرةً تُصرّ على افتعال تصوير نفسها جماعةً أوروبيةً صغيرة ، على الرغم من بيئتها المصرية والعربية ، وهي بيئة تكتفي الأفلامُ بالتلميح إليها تلميحاً من خلال جَمَلٍ وبستانيّ وخادمٍ وشجرةِ نخيلٍ وهرمٍ وسائقٍ مُتطربِش تمرّ عليهم مرورَ الكرام عينُ كاميرا تركِّز خلا ذلك تركيزاً حَصْرياً على الأطفال والأقارب المتنوعين . في الأفلام الأولى مشاهدُ لي ولروزي نلعب : أضعها في كفة " يا طالعة يا نازلة " وأعود مسرعاً إلى الكفة المقابلة ، أعتليها نازلاً طالعاً ، ثم أتوقف فجأةً وأعود إليها راكضاً لأقبّل خصلات شعرها المعقوصة . وثمة أيضاً مسلسلاتٌ من الأفلام المصوّرة تحت بيتنا في شارع جباليا ، الذي يلتقي شارعَ عزيز عثمان سمتاً ، بمحاذاة حديقة الأسماك التي لم يتغيّر سُورُها لأكثر من خمسين سنة . وفي شارعٍ خالٍ أساساً ، لا يكاد يَعْبره إنسانٌ - تَلْقى اليوم أرصفتَه ذاتها تعجّ بالسيارات المتوقفة عليها والشارعَ ذاته مَرْكزاً لزحمة سير دائمة - تشاهد إدوارد وروزي ، ولهما من العمر ست سنوات وأربعُ سنواتٍ على التوالي ، واقفيْن على مسافة ثلاثين ذراعاً من الكاميرا ، كائنيْن صغيريْن متحمسيْن ، ينطنطان بانتظار إشارة غير مرئية تأتيهما من خلف الكاميرا ، التي تلتقط وجهيهما المتضخميْن على نحو غرائبيّ بشع ، تعلوهما ابتساماتٌ متنوعة اصطُنِعتْ لأغراضٍ مسرحيةٍ محض .
يعاد تمثيلُ المشهد ذاته عشرات المرات : في الزمالك وفي القدس ، وفي حديقة الحيوانات والصحراء والنادي ، وفي شوارع أخرى في القاهرة : هناك دائماً تلك الركضةُ اللهوفة والوجوهُ السعيدة ونهايةُ الفيلم غيرُ النهائية . اعتقدتُ أول الأمر ، وتذكرتُ بالتأكيد ، أنّ تلك وسيلة بدائية لاستظهار الفارق بين الصورة الفوتوغرافية الساكنة والفيلم السينمائيّ المتحرّك . وثمة مسلسلات عدة يَظْهر فيها إدوارد ، في العاشرة من عمره ، وهو يدفُرُ أبناء عمومته الأكبر منه سناً خارج صمدةٍ جامدة مبهورة أمام الكاميرا . وكانت الأفلام ، في تكراريتها التي تبدو بلا نهاية ، أو هي بدت لأبي على الأقل ، أشبهَ بمشهد مسرحيّ جرى التمرين عليه سلفاً ، نمثّله أمامه فيما هو يسجّل اللقطات بلا كلل . أرادنا أبي أن نظهر وجاهياً دائماً ، فإذا الأفلام خلو من اللقطات الجانبية ، فلا خَطَرَ من أَنْ يَظْهر أحدنا في لقطة من اللقطات عن غير قصد ، يرنو بنظرة خاطفة على غفلة أو يَسْلك مساراً غير مرسوم سلفاً . كانت الكاميرا ترافقنا دوماً عندما نغادر البيت لمسيرةٍ أو نزهةٍ في السيارة . ولعلها كانت أيضاً وسيلة توسّلها أبي لإلقاء القبض على الحيّز العائليّ المنظّم وتكريسه ، وهو الحيّز الذي صنعه وبات يتسلطن عليه الآن .
أذكر أني ، وقد تقدمتُ في السنّ - أيْ عند بلوغي الحادية عشرة أو الثانية عشرة على وجه التأكيد - صرت أضيق ذرعاً بطقس تكرار المشاهد ذاتها ، المرة تلو المرة ، أمام كاميرا أبي . وقد ترافق ذلك الشعورُ مع رغبتي في أن أتحرر من جسدي بشكل أو بآخر . ومن تخييلاتي المتكررة في هذا المضمار ، وهي أيضاً موضوعُ إنشاءٍ مدرسيّ كتبتُه عندما كنتُ في الثانية عشرة ، أني تخيّلتُني وقد أضحيتُ كِتاباً ، ظناً مني أنّ الكتاب ذو مصير سعيد لانعتاقه من التغيّرات غير المستحبّة ، ومن التشويهات في الشكل ، ومن النقد لمظهره . وكان الكلام المطبوع يتكون في رأيي من مزيجٍ نادرٍ من التعبير ، من حيث أسلوبه ومضامينه ، ومن الثبات المطلق والكمال من حيث المظهر . وإذ انتقلُ من يد إلى يد ومن مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ، أستطيع المحافظة على كياني الذاتيّ الحقيقيّ ( بما أنا كتاب ) على الرغم من احتمال أن يرميني أحدُهُم من السيارة أو أن ينساني في قعر درج من الأدراج .
ومع ذلك ، تفلّتتْ من خلل شبكة أبي البصرية التي لا تَرْحم بعضُ اللمحات الشاذة عن حياتنا . فهناك مشهدٌ لصِبيةٍ هائمين على وجوههم ( وأنا بينهم ) يشاهدون تمريناً لعريس وعروس ينزلان الدرج الأماميّ لبيتنا المقدسيّ عام 1947 . فكأنّ كاميرا أبي السينمائية أرادت بذلك أن تبزّ ، في تطَلُّبها ، آلةَ التصوير الفوتوغرافية ، المنقّبةَ والمنصوبةَ على سِيبة ، وأن تبزّ على وجه التخصيص خليل رعد الذي تستدعيه عمتي وأبناؤها دوماً في كل مناسبة عائلية مهمة . وكان رعد النحيلُ الأبيضُ الشعر يستغرق وقتاً طويلاً جداً في تنظيم المجموعة العائلية الكبيرة ، ومعها الضيوف ، في ترتيب مقبول . وخلال تلك اللحظات ، التي يمطّها إلى ما لانهاية بطريقته النيّقة واستهتاره بالذين يصوّرهم ، تكوّن إجماعٌ على أنَّ الصمدة أمام آلة التصوير محنةٌ ضروريةٌ من الضرورات التي تَفْرضها المناسباتُ العائلية الرسمية . ولم يَخْطر في بال أحدٍ آنذاك أنّ صور رعد الفوتوغرافية قد تصير أغنى مورد أرشيفيّ لحيوات الفلسطينيين إلى العام 1948 ، أيْ " قبل شتاتهم " ، بحسب تعبير وليد الخالدي . والحال أنّ اهتمام أبي بالحركة ، ولعلّ ذلك جاء رداً على نفاد صبره من " رعد " يشكِّل ، ربما عن غير قصد ، جزءاً آخر من ذلك الأرشيف غير الرسميّ .
وثمة أيضاً مشاهد لعمي بولس ، زوجِ عمتي نبيهة ( وابنِ عمها في آن ) ، وهيلينة بدر صبرا ، وعمي منير وزوجته لطيفة ، وابن عمي البير ، يَعْبرون أفلامَ أبي باسمين . وبسبب من استباق الموت الذي يضيفه الناظرُ لاحقاً على المشهد ، يَبْدون في أشكالهم المغبّشة ، وكأنّهم يتحركون جانبياً ، بعيداً عن الكاميرا ، أو يسيرون وفق إيقاعٍ وقصدٍ مغايريْن كلياً للمتوقَّع .
لا أحد يرتدي في هذه الأفلام ثياباً غير رسمية أو خفيفة ، ربما لأن أبي كان يصوّر خلال الشتاء ولا يصوّر قط في شمس الشرق الأوسط ذات البريق المرعب .
النساء يرتدين فساطين ثقيلة من الساتان الأسود أو الصوف ، وأما الرجال فيبدون دوماً في أطقم داكنة اللون ، والأطفالُ يرتدون الكنزات ويعتمرون القبعات ويلبسون الجوارب الطويلة . وحدها أمي تَظْهر ، لسببٍ ما ، في فساطين منقّطة وبلا أكمام وأحياناً تعلن ذراعاها المكتنزتان وابتسامتُها الخالبة احتجاجاً باسماً أَذْكر جيداً من طفولتي أنها كانت تبوح به بلطف ضد تركيز أبي المغالي عليها بواسطة كاميرته ذاتِ الطنين المتواصل . لم تظهر جدتي ( " تيتا " ) في الأفلام قط ، التزاماً بصرامة رغبتها في أن لا تُلتقط لها أيةُ صورة فوتوغرافية . لستُ أدري لماذا كان تحمل ذاك الشعورَ ، ولماذا كانت تصرّ على عدم أكل الشوكولاطة أو احتساء الشاي إلا إذا سُكِبَ الحليبُ في الفنجان أولاً ، ولماذا كان على كُلِّ مجموعة من حاجياتها الشخصية ( من مناديل ودفاتر ومنامات وأقلام وورق لعب ، الخ ) أن تُسْكَنَ ، بحسب تعبيرها ، في حقيبة قماشية صغيرة صَنَعَتْها بنفسها وزوّقتها بنقوش من قطب الـ" بيتي بوان " أو المطرّزات المعقدة . ومهما يكن من أمرٍ ، فقد كانت " تيتا " تتمسك بقوة بتلك العادات ، وظلت تعاند أبي إلى نهاية حياتها .
وأما أنا ، فعلى عكس جدتي ، لم أكن أقاوم على الإطلاق . وكيف لي أن أقاوم ووطأةُ الفشل الجسمانيّ والمعنويّ ترزح عليّ ؟ هل يُفترَض بالأهل أن يكونوا قدوةً للأبناء ، أو أن يوفِّروا لهم على الأقل فكرةً محددةً عن مآل عملية العجن والخلط والقولبة التي يتعرضون لها ، في نهاية المطاف ، او متى وأين تتوقف ؟ ثمة مشهد محيِّر واحد في الساعات الكثيرة الكثيرة من أفلام الفيديو تريني صورةً أخرى لـ" إدوارد " ، هي صورة ذاتي الطفلة. فقد التُقط الفيلمُ في بركة المعادي ، ربما في وقتٍ متأخر من صباح أحد الآحاد من حزيران / يونيو ، ويُري مشهداً فوضوياً مزدحماً يتقاطع فيه سابحون وغاطسون وأهلٌ يراقبون [ أولادهم ] ، يَجُوزون جميعهم كاميرا أبي وقد أربكه الصخبُ أمامه ، فأخذ يَنْخع الكاميرا قافزاً بسرعة من شخصٍ إلى آخر ، رافعاً إياها إلى السماء ليعيدها من ثم إلى أسفل ، فإذا هو يَنْسج ذلك الشغبَ الكبير القائمَ أصلاً عند البركة على شاكلة بساطٍ مبقّع مربك ومذهل من الأضواء والأجساد والحيّزات التي لا معنى لها ( من أرضية وجدران وغمام ) ضارباً عرضَ الحائط بالصور النظامية التي كنا نتمرن عليها سلفاً وطالما اعتدنا عليها في إقبالنا نحو الكاميرا . وإذ رحتُ أشاهد تلك الزوبعة ، ألفيتُني فجأةً صبياً صغيراً يرتدي ثوبَ سباحة غامق اللون وحزاماً أبيض ، يتسلل وسط فيلق من الأجسام التي تفوقه حجماً ، ثم يَغْطس في البركة ولا يكاد يخلِّف وراءه رذاذَ ماء . فكأنني أخذتُ أبي على حين غرّة ، فتعقّبتني الكاميرا للتوّ ، وقد حددتْ مكاني فجأةً ، إلا أني سرعان ما سبحتُ متوارياً عن إطارها . فعادت هي إلى الفوضى العامة ، وعدتُ أنا إلى الظهور في مرماها ، في زاوية تصويرٍ غير متوقعة ، راكضاً نحو أبي ، مطأطئاً الرأسَ ، لأعود فأختفي مجدداً في البركة . لقد أخطأني أبي كلياً في المشهد الثاني ، وإنْ كنت ظهرتُ فيه لهُنَيهة .
سحرني ذلك المشهدُ القصير والتافه فعلاً ، وأنا أشاهده بعد مضيّ نصف قرن محاولاً رسمَ التخوم ووضعَ التفاصيل الهامة لقصةٍ انغمستُ فيها مع أبي وتوقعاته ، وتدريباته وأمثولاته ، يقولبني ويوَّجهني - ومعي شقيقاتي وأمي - بطريقةٍ تُشْبه إلى أبعد حد طريقَتَه في تسجيل الأفلام وإرادتَه التي لا تكلّ في تحريكنا جميعنا نحوه ، إلى الأمام سائرين ، حاذفاً كلَّ ما سوى ذلك باعتباره من النوافل . والمفارقة الكبرى في الأمر أنه كان قوة دعم جبارةً لنا في حيواتنا - فما من أحد منا انشغل يوماً بأيّ شاغل مادّي ، وكانت خزائننا دائماً ملأى بالأطعمة ، وقد حصلنا على أفضل أنواع التعليم ، وكنا نرتدي الثيابَ اللائقة ، وبيوتُنا دائماً مدارة ومخدومة بطريقة تامة ، ونسافر دوماً في الدرجة الاولى - بحيث لم أعتبره يوماً رجلاً قمعياً في ذلك الزمان . كان يَضْغط عليّ باستمرار بطريقته النيّقة المميزة ، وقد شاهدتُ ذلك مجدداً في غرابة نوعية أفلامه العَرَضية والتكرارية والاختزالية . على أنّ نجاحي في التفلّت أحياناً من قوته المرعبة ، كما في المشهد القصير عند بركة السباحة ، أَعْلمني بشيءٍ لم أُدركه إلا بعد سنوات عندما سلكتُ طريقي بنفسي : أَعْلمني أنّ " إدوارد " أكثرُ من مجرد ابنٍ جانحٍ وإنْ يك صاغراً ، ينصاع لترسيمات أبيه المتزمتة أخلاقياً .
كانت أمي هي مَنْ يتولى غالباً توفيرَ الشروح التبريرية لمظهره الخارجيّ البارد والعنيد . فكأني به تمثال من رخام أخذتْ على نفسها أن تَسْتنطقه وتجعله يعبّر بطلاقة . كانت هي كلامَ أبي إليّ ، تقلِّد كلَّ المشاعر التي كَتَمَ هو التعبير عنها ، وتبالغ في مطّه مطاً بحيث يصير رجلاً محباً حانياً يختلف كلياً عن الشخص القاسي المعانِد الذي مارس سلطانه عليّ إلى حين وفاته . " ليتَكَ تسمعه يتحدث عن " ابني أنا " أمام أصدقائه " ، تقول ، " إنه فخور بك إلى أبعد حدّ " . ومع ذلك ، لم أستطع مرةً أن أستدعي دعمه لي ، فما بالك بالحصول عليه . لم أكن قد تجاوزتُ الرابعة من العمر عندما أخذني في نزهة قرب حديقة الأسماك في القاهرة ( لا أذكر أنه دخل المكان الذي بدا كأنه الامتياز الحصريّ لأمي ) . كنتُ أهرول خلفه ، وهو يحث الخطى ، ويداه معقودتان خلف ظهره . فتعثرتُ ووقعتُ أرضاً ، خادشاً يدي وركبتي بخدوش عميقة ، فصرخت إليه غريزياً : " دادي ... أرجوك " فتوقف والتفت ببطء إليَّ . ظلَّ هكذا ثانيتين لا أكثر ، ثم استدار وواصل سيره دون كلمة . وكان هذا كلّ مافي الأمر . مات هكذا ، مشيحاً بوجهه نحو الجدار ، دون أن يَصْدر عنه أيُّ صوت . وإني لأتساءل ما إذا أراد مرةً أن يقول حقاً أكثر مما قال .

انتهى الفصل الرابع
يتبعه الفصل الخامس ... إن شاء الله .