(3)

وصلت. في مجتمع غريب عليها لأول مرة تتعامل مع أفراده،

استقبلها أحد أولئك الأفراد وكان من المؤمنين المخلصين أيضا، عثر عليها بعد عناء ولكن الأمور صارت سلسة فيما بعد. كانت الفتاة دهشة لا تعرف الآن أتبكي أم تضحك أم تصرخ أم تسمح للإغماءة الوليدة في كيانها بالنمو إلى عقلها المنهك فتحكمه بعضا من الزمن وتريحها من حكم ذاك المتمرد دوما؟

وأما " هو " فكان قد وصل إلى نفس البلد تحت نفس القهر ، لكنه سبقها بوقت كان كافيا له أن ينخرط في مجتمع المؤمنين ويعرف شوارع البلد ويكون صداقات ويكسب احتراما وتعاطفا، وكان يعمل كخادم للكنيسة عندما عرّفوه عليها وقالوا لهما أن كلا منهما له نفس "الخلفيّة" المسلمة، وبدأت دراسة الكتاب المقدس.

كانت الفتاة سعيدة وحزينة، تحاول أن تتلمس مكان أبيها الجديد يسوع وتتعرف على شخصيته، وتحاول أن تدرك ما حصل لأبيها في الجسد عندما استيقظ في الصباح؟، وأمها؟ ، وإخوتها؟ ، خاصة أختها التي كانت تحبها جدا ، حتى أنها خرقت حظر الكلام الذي فرضه عليهم الأهل ، وكانت تتسلل إلى غرفتها ليلا لتسألها عن حالها ، وعن هذا الإله الذي يستدعي كل هذا العناد منها والغضب من أهلها، ولتسألها إن كانت تريد قطعة من الكعكة التي أعتدها أمهما نهار اليوم، وتهمس لها بأنها قادرة على التسلل إلى المطبخ لتحضر لها شطيرة، وأحيانا كانت الفتاة تأبى ، وأحيانا تطلب بنهم وإشفاق على مصير أختها إذا تم اكتشاف أمرها.

كانت قطعة منها تريد أن تنفر من كل هذه الإيمانيات والعقائد والعصبيات والاضطهادات وتخترق المكان والزمان كإله أسطوري لتنفذ إلى بيتها وتشاهد بعين الروح ما حلّ بأهل ذلك البيت عند شروق الشمس. أولئك الذين أمضت معهم كل حياتها وذكرياتها ، وحملتها إحداهم في بطنها تسعة أشهر ، وكان آخر سببا في وجودها، وكان الباقون قطافا من نفس الشجرة. لكن كل شيء قد حسم. ولا مجال للتراجع ، خاصة وانها لا تريد أن تكسر قلب الرب ، وأن الفتى الذي يشاركها آلامها لا شك أنه قد مر ولا زال بنفس الآلام ، تلك هي آلام المحبة التي قرأت عنها في الإنجيل، وذاك الفتى هو تعزيتها..،بدأت تدرك أن كلام الكتاب المقدس كلام حي، أي أنه يتحقق ، بدليل تحققه فيها الآن، الآلام والتعزية والمحبة تحولت من مجرد مفاهيم وكلمات قرأتها وتأثرت بها إلى أحداث تأخذ مجراها في واقعها، وخاصة المحبة، المحبة التي غمرها بها يسوع، والتي شعرت بها، والمحبة التي أسبغها عليها المؤمنون، وكانت تشعر بها أكثر كل يوم، والمحبة التي يلفها بها الفتى والتي نبض قلبها لها، وانتفض كيانها على أنغامها.

وصارت تبادلهم جميعا محبة بمحبة، يسوع والمؤمنين...والفتى.

وصارت تنمو في المحبة، والحب ينمو فيها أيضا، وقد صارحت يسوع بمحبتها واثبتت له ولنفسها إخلاصها بتركها من تحبهم، وصارحت المؤمنين بمحبتها وأثبتت لهم وتثبت كل يوم بسلوكها الرقيق..، وبقي أن تصارح الفتى بحبها، ولكنه فعل ذلك أولا وأجابته بالمثل. وبعد فترة قصيرة كان كل منهما متأكدا أن الرب اختار كلا منهما لشريكه. فصارحا مجتمع المؤمنين المقربين إليهما ، فابتهجوا لهما وباركوهما ، وتعمدت الفتاة بماء الكنيسة ونار الحب، وتحولت لعنة البؤس إلى بركة زواج على يد قسيس الكنيسة، زواج سري بالطبع لأنهما لا زالا في دولة عربية تمنع تحول المسلم إلى المسيحية ، وتلاحق سلطاتها من يفعلون ذلك أو يساهمون فيه بيد من حديد.

عاش الزوجان معا، وكان شعورا غامرا بالسعادة لكليهما..وشعورا فائقا بالانتصار في يسوع، ذاك الانتصار الذي تحول أيضا من مجرد نص مكتوب إلى حقيقة معاشة كما يقول المبشرون دائما..وكما قرأت في نصوص الكتاب الحي.

انتشى الحبيبان على فراش الزوجية، وانتشيا في غمرة الانتصار على الآلام القاهرة، وأخذتهما حماسة النبوءات التي تتحقق، وواقعية الكلمة الحية، وحقيقتها المعاشة، فسكرا بالحب وفي المحبة ، ولم يستطيعا كتمان سعادتهما، وإخفاء تجربتهما، وأرادا لكل مسلم أن يعيش هذه التجربة ذاتها ويتذوق اللذة عينها، فأخذا بدون روية ولا تحفظ يشاركان قصتهما..،وبسذاجة الإيمان ونقاء السرج المضيئة يحكيان انتصارهما لكل فتى مسلم وفتاة مسلمة يقابلانهما، ويحكيان القصة وسط التعجب تارة، والتهكم تارة ، وهزات رؤوس لها مغزاها الخاص تارة أخرى.

وذات ليل بارد كبرودة ليلة السفر الكئيبة، دق جرس الباب، وفتح الزوج الباب، وبدون كثير كلام..سمعت همهمات خافتة وأقدام متسارعة، واصطكاك أصفاد من المعدن تطبق أسنانها على معاصم الأيدي بلا رحمة، ثم أغلق الباب سريعا، واقتيد الحبيبان إلى المقاعد الخلفية لسيارة سوداء سرعان ما أخذت طريقها نحو بلعوم ليل كلونها، ورحم ظلمة كتلك التي جاءت منها.