الفصل الخامس

انتسبتُ إلى " مدرسة القاهرة للأطفال الأميركيين " في خريف العام 1946 بصفتي ابن رجل أعمال أميركياً ، وأنا لا أملك أدنى شعور بالانتماء إلى أميركا . ولقد سَهُل عليّ اليومُ الأول لدخولي المدرسة لأنّ سائق الباص اليونانيّ كان يعمل أيضاً سائقاً في كلية آنطي ميليا ، وقد تعرّف إليّ على الفور وعاملني دائماً – كما لم يعاملني أحدٌ من قبل – بكياسة لا تخلو من الألفة . أقلّني من الزمالك في الصباح الباكر من يوم تشرينيٍّ مُشمِس مع سرب من الأطفال الأميركيين الغريبين تماماً والضاجّين واللامبالين ، يرتدون القمصان الملوّنة الزاهية والتنانير والـ" الشورطات" . لم يسبق لي أنْ شاهدتُ أميركيين بمثل ذلك التنوّع والكثرة . اختفت البزّات الرمادية والهمساتُ الخفيضة التآمرية التي كنتَ تجدها في أطفال " إعدادية الجزيرة " ، الإنكليز منهم والمشرقيين خصوصاً ، ومعها اختفتِ الأسماءُ الإنكليزية ، مثل ديكي وديريك وجيريمي ، وكذلك الأسماءُ الفرانكو – عربية ، مثل ميشلين وناديا وفيفيت . وبِتَّ تلقى الآن مارليز ومارلين وآنّكجيه ، وفتياتٍ عدة يسمَّين مارجييس ونانسي ، وصبياناً عدة يسمَّون إرنست وتشاك ، وكثرةً يحملون اسم بوب . ولكنْ لم يأبه أحدٌ بي .
ومع ذلك ، اجتاز " إدوارد سِغِيد " الامتحان ، وسرعان ما تكيّفتُ مع المحيط الجديد إلى هذا الحد أو ذاك . على أني في كل يوم ألِج فيه الباص ، أصابُ بذعر عظيم ، إذ أشاهد قمصان الـ" تي شيرت " والجواربَ المقلّمة التي يلبسون وأحذيةٌ " المُوكاسان" التي ينتعلون ، فيما أنا متهندِمٌ في شُورطٍ رماديٍّ لائق أنيق وقميصٍ أبيض رسميّ وحذاءٍ أوروبيّ تقليديّ ذي أشرطة . أما في الصفّ ، فكنت أهدِّئ من روعي الداخليّ بالاستنجاد بهويتي الفعّالة ، وإنْ تكن موقتةً ، هويةِ الطالب اللامع الصعبِ المراس غالباً . وعند الغداء ، إذ يُخرجون سانتدويتشات الخبز الأبيض المقصوص بأناقة وعليها زبدةُ الفُول السودانيّ وهُلام الـ" دجِيلي " – ولم أكن قد ذقتُ هذا ولا تلك – فيما أنا أحمل الجبنة والجانبون المدخّن في الخبز الشاميّ ، أَسْقطُ في حال شكّ وخجلْ من أني ، أنا الطفلَ الأميركيَّ ، آكل طعاماً مختلفاً عنهم ولا يَطْلب مني أحدٌ تذوقه بل ولا يسألني أن أشرحه له .
وذات مساء ، ونحن على الشرفة ، دسّ أبي يدَه في جَيب سترته واستخرج زوجاً من الجوارب المقلّمة : " أعطاني إياها طيّار أميركيّ ، قال ، " ما رأيك في ارتدائها ؟ " ، فكأنه رمى إليّ بطوق نجاة نحو أيام أفضل . ارتديتُ الجوارب المقلّمة في اليوم التالي وفي اليوم الذي يليه ، مع ارتفاع بَيِّن في معنويّاتي . على أنّ أحداً في الباص لم يلاحظها ، وكان لابد من غسل الجوارب . ولما كنتُ لا أملك غير زوج جوارب واحد يَمْنح زعمي أنني أميركيٌّ شيئاً من الصدقية ، فقد شعرتُ فجأةً بالخذلان . ثم حاولتُ إقناع أمي بأنه يفضَّل أن آخذ ساندويتشات مقصوصة على شكل مستطيلات مطليّة بالمربّى والزبدة ، إلا أنها صَرَفتني بقولها : " لا نستخدم خبز الـ" توست " مع المُربّى إلا على الفطور . أريدك أن تتغذى . ما العَيبُ في طعامنا على كل حال ؟ " .
تأسست ْ " مدرسة القاهرة للأطفال الأميركيين " بُعَيد الحرب لاستيعاب أبناء موظَّفي شركات النفط والأعمال والسلك الديبلوماسيّ الأميركيين في جاليتهم المتوسعة حديثاً في القاهرة . تقع المدرسة في المحيط الغربيّ الخارجيّ لـ" المعادي " في موازاة محطة سكة الحديد ، وعلى مسافة حوالي الميل من النهر العظيم . وتحتل فيللا كبيرةً من طبقتين ، مثلها مثل " إعدادية الجزيرة " ، علماً أنّ هذه الأخيرة مجرد مدرسة ابتدائية ، وتحيط بها ، إلى ذلك ، حديقةٌ من أكْريَن اثنين* وسقيفةٌ للحدائقيّ وفسحةٌ مُغبرة جنوبيّ الفيللا توازي مساحتُها نصفَ مساحة ملعب لكرة القدم ، جرى تعبيدُ نصفها بالإسفلت خلال عامِي الأول في المدرسة ، 1946-1947 ( الذي قَطَعَتْه إقامةٌ ربيعية مديدة في القدس ) فأضحت ملعباً لكرة السلّة . ولما كان " إعدادية الجزيرة " مدرسةً للأطفال الأصغر سناً ، فقد اكتفتْ بكُرَة الشبكة ، وهي المعادل الرقيق العَطِر لكرة السلّة ، ولكنها مخصّصة أساساً للبنات ، واقتصر احتفالُها في المناسبات ، مثل عيد ميلاد الملك ، على رقصة " المايبول " ، وهي تسلية ألفيتُها غريبةً ( لماذا كل هذا العدد من الأشرطة ؟ وما الذي تمثّله ؟ ) وسخيفةً في آن معاً ( فالدَوَران في حلقة مفرغة على وقع تصفيق يدَيْ مِسز ويلسن وتسجيلٍ زاعقٍ للموسيقى الريفية الإنكليزية إنما هو استظهار ركيك للحركة الجسمانية المنضبطة ) .
أما في " مدرسة القاهرة للأطفال الأميركيين " فلم أتعرف إلى كرة السلّة وحسبُ وإنما إلى " السُوفت بُول " أيضاً ، وهما رياضتان لا يَعْرف أبي عنهما أيَّ شيء . وكان أبي ، بصفته الرئيسَ الفخريَّ لـ" جمعية الشبّان المسيحيين " ، التي تنظِّم المباريات بين فرق القاهرة ، مثل الهومنتمن الأرمنيّ والماكابي اليهوديّ ، أو بينها وبين فريقٍ زائر ممتاز مثل فريق الجيش الأميركيّ ، يأخذنا لمشاهدة ألعاب رياضية لم يمارسها هو نفسُه . وقد أثارت لعبة السُوفت بول اهتمامي بحيث حوّلتني إلى رامٍ ماهر وضاربٍ حرّيف . وكان أبي يصرّ على تسميتها " راوندرز** " ولكنه لحسن الحظ لم يهتم بها جدّياً ولا شاهدني مرةً أضرب الكرة الرخوة بمضرب من طراز " لويفيل صلاغر " .


*حوالي ثمانية آلاف مترٍ مربّع . ( م )

** صيغة بدائية من لعبة الـ" بيزبول "



يتبع إن شاء الله .