أثارتْ فيّ قاهرةُ ما بعد الحرب لأول مرة شعوراً بالتمايز الشديد من حيث التراتب الاجتماعيّ . وكان التبدّل الكبير هو حلول الأميركيين المنتصرين محلَّ البريطانيين ، مؤسساتٍ وأفراداً ، وقد أَخْلَت الإمبراطوريةُ القديمة المكانَ للإمبراطورية الجديدة ، فيما راح أبي يَنْعم بالمزيد من النجاحات في حلبة الأعمال . في احتفالات " إعدادية الجزيرة " ، كانت الهَيصة تتعالى عند ظهور اللّيْدي بادِن باول أو روي تشابمان أندروز* ، رمزَي السلطان البريطانيّ اللذيْن لا يحتاجان إلى أيّ ندّ مصريّ أو عربيّ يَفْضح أجنبيتَهما إذ يعتليان منصّة الخطابة . آنذاك ، كانت بريطانيا تَحْكم البلد متفوّقةً ، وجميعُنا يسلّم بذلك تسليماً . فإذا بظهور شفيق غربال ، المؤرِّخ المصريّ المرموق والموظّف في وزارة التربية ، في أول احتفال أتذكره لـ" مدرسة القاهرة للأولاد الأميركيين " ، يسجِّل الفارقَ بين المقاربتين ، الإمبرياليتين ، الأميركية والبريطانية . فلما كنا ، نحن الأميركيين ، شركاءَ المصريين ، فأيُّ شيءٍ أنسب من أن نعطيهم الكلام في مناسبات مثل افتتاح البرلمان أو عيد ميلاد الملك فاروق ، وهي مناسبات لا تكترث لها " إعداديةُ الجزيرة " ؟ ذلك أنّ مطلع نشيد " كلُّ الأشياء البرّاقة والجميلة " يعني إنكلترا البرّاقة الجميلة ، نجمَ السَعد البعيد الذي يُشِعّ علينا جميعاً . لقد انتهى ذلك الزمن إلى غير رجعة ، وحَذَفتُ النشيد من برنامج أغانيّ المفضّلة . على أني دُهشتُ عند اكتشافي أنّ تعليم العربية لجميع الأطفال يشكّل جزءاً من البرنامج الأميركيّ . ولما كنتُ قد ادّعيتُ أنّ " سِغيد " هو اسمي الأميركيّ ، فقد عانيتُ الأمرّيْن في درس العربية . إذ اضطررتُ إلى أن أخفي مَلَكَتي الممتازة للُغَتي الأم انسجاماً مع الصيغ الفارغة التي تُوزَّع وتُمَرُّ على الشباب الأمريكيّ بوصفها العربية المحكية ( وهي إلى عربية المطبخ أقرب ) . لم أتطوع لأية مهمة ، ولم أتكلم إلا نادراً ، وغالباً ما كنت متقوقِعاً على نفسي في مؤخّر الصف . ولكنّ الأمر لم يَخْلُ من الاستفزاز ، من مثل استفزازات معلِّمة اللغة العربية الشابة الجميلة ، التي في معرض وصفها لمغامراتها في مدينة الملاهي ، المُفتَتَحةِ حديثاً في " الجزيرة " ، أصرّتْ على رواية رحلةٍ جوّيةٍ سُمّيتْ " سعيدة " على اسم شركة الطيران المصرية المنشأة حديثاً . وفي صفٍّ مُنمنمٍ من أربعة تلامذة ، انتصبتْ قبالتي وشرعتْ تفصِّل ما أثارته فيها " سعيدة " من مشاعر ، مكرّرةً الاسمَ المرةَ تلوَ الأُخرى كأنما لتؤكد الصفة العربية الضامرة لاسمي ، وقد جهدتُ لتخفيض ذلك الاسم إلى مستوى معايير اللفظ الأميركية الدارجة . " لا ، يا إدوارد " ، قالت بتشديد ، " لن تستطيع الادعاء أنك اختبرتَ أروع تحليق في الجوّ إنْ أنتَ لم تجرّب " سعيدة " . هل تدري كم مرةً ركبتُ " سعيدة " ؟ أربعَ مرات ، على الأقل . " سعيدة " هي الطيران . " سعيدة " رائعة " . ولن تستطيع إنكار الصلة بين الاثنين .
عُيِّنتُ في الصف السادس في قاعة تقع في الطبقة الثانية ، مَنَحَها النباتُ وأصصُ الزهور على النافذة جوَّ الغرفة البيتية . تتسلطن على الصف جلوازةٌ ساديّة هي أول الجلوازات والساديّات في حياتي : مِسّ كلارك ، التي أدى اضطهادُها الحثيثُ لي إلى ثلم كبريائي المزعزّعِ أصلاً . كانت في منتصف الثلاثين ، شديدة التحفظ في سلوكها ، هادئةً جداً ورابطةَ الجأش إلى درجة بغيضة . وإذ فكَرتُ فيها عبر السنوات ، ألفيتُ تلك " البيضاء الانكلو- سكسونية البروتستانتية " WASP من شمال غربيّ الولايات المتحدة نموذجاً عن أهالي تلك المنطقة المُكتفين مادياً والمستقيمين أخلاقياً والواثقين من أنفسهم والمتعالين على سائر البشر . لستُ أدري ما الذي سلّطها عليّ ، على أنه لم يكد يمرّ أسبوع أو عشرة أيام على بدء العام الدراسيّ ، حتى شَهَرَتْ عليّ العداءَ الصريحَ في صفٍّ لا يحتوي على أكثر من دستةٍ من الصبيان والبنات .
بعد اختباري النظامَ الإنكليزيّ التراتبيّ الجامد ، بدت المدرسة الأميركية تعيش في حال من رفع الكلفة بكل ما للكلمة من معنى . فالكراسي والطاولات مبعثرة عبر قاعة الدرس ، بينما كنا في " إعدادية الجزيرة " نجلس في صفوف عسكرية مرصوصة من المقرِئات والمقاعد . وباستثناء معلِّمي الفرنسية والعربية والفن ، يتولى التعليمَ هنا معلّماتٌ أميركياتٌ ( كثيفاتُ الأصباغ يرتدين الفساطين المبهرجة الألوان ويختلفن كلياً عن الوجوه العادية الكالحة والتنانير المحتشمة لمِسِز ويلسن وأَضرابها ) ومعلّمٌ أميركيٌّ وحيد هو مارك وانِك ، الذي يقوم أيضاً مقام مدرِّب الـ" سُوفت بُول " وكرة السلة . وفي إحدى المناسبات ، ارتدى مارك زيَّ لاعبي كرة السلّة في ولاية أوهايو ، الأصفرَ اللمّاعَ ، ليلعب معنا . وفي ظهيرة القاهرة القائظة ، وعلى خلفية من حقولٍ غبراء وفلاحين سُمرٍ يرتدون الجلابيات ويسوقون الحمير أو الثيران كما كان دأبهم منذ آلاف السنين ، بدا منظرُ السيّد وانِك سوريالياً إلى أبعد حدّ في بذلته الفاقعة الألوان وذراعيْه ورجليْه المكسوّةِ بالشَعر وقَصَّةِ شَعره العسكرية وحذائه القماشيّ والمطاطيّ الأسود ونظارتيْه الرقيقتَين اللتين لا إطار لهما .
وجدتُ التعليم الأميركيّ نظاماً تربوياً صُمِّم ليكون جذاباً وبيتياً ومفصَّلاً على مقاس أطفال في طور النمو . في " إعدادية الجزيرة " ، كانت الكتب متماثلةً من حيث حروفها الطباعية الصغيرة وخاليةً من التزيينات وصارمةً في جفاف أسلوبها . فمادة التاريخ ومادة الأدب مثلاً يجرى تقديمهما بطريقة أكثر ما تكون بداهةً ، وهو ما يجعل من قراءة كل صفحة في أيّ منهما تحدّياً قائماً بذاته . وكانت دروس الحساب تفتقر إلى أيّ تنازل لعالم التجارب المعيشة . وكنّا نُعطَى مسلسلاتٍ من الأرقام لنَجْمعها ونَطْرحها ونَقْسمها ونَضْربها ، إضافةً إلى عدد كبير من القواعد والجداول لنحفظها عن ظهر قلب ( كجداول الضرب والأوزان والمقاسات والمسافات والأمتار والياردات والإنشات ) . والهدف من كل هذا هو حلّ مسائل حسابية ، وهي مهمة لا يضاهي صعوبتَها إلا مللُها الممنهَج . وأما في المدرسة الأميركية ، فقد وزّعوا علينا دفاتر تمارين تختلف كلياً عن دفاتر الخط في " الإعدادية " ، وذلك أنّ الثانية كراريسُ خطٍّ مُسَطَّرةٌ مثل بطاقات الباص المُغفَلَة ، في حين أنّ الأولى تتضمّن أسئلة جذابة ومشجعة على الحوار إضافةً إلى رسوم وصور معدّة لأن نتذوقها ونستمتعَ بها أو نكملها عند الحاجة . وفي الوقت الذي كانت فيه الكتابة على كتاب مدرسيّ في " إعدادية الجزيرة " تشكّل جنحة خطيرة ، إذا بدفاتر التمارين الأميركيةً مُعَدّةٌ أصلاً لأن يُكْتَب عليها .


* زوجة اللورد بادن باول ، مؤسس الحركة الكشفيّة ، وموظف كبير في الخارجيَّة البريطانيَّة في ذلك الزمان .


يتبع إن شاء الله