وكانت الشركة تَسْتخدم أيضاً طابوراً من " الخدم " كما يسمّيهم أبي ، أو " الفرّاشين " ، كما في العربية المصرية ، يَعْملون في تسليم البضائع وصنع القهوة أو يعملون حمّالين وعمَّال تنظيفات ، والبعضُ منهم يدور أيضاً عبر شوارع القاهرة على دراجات ذات ثلاث عجلات وتالياً في شاحناتِ تسليم صغيرة . على هذه المملكة الشاسعة والمتوسعة باستمرار ، يتسلطن أبي ، ملِكاً مطلقَ الصلاحيات وشخصيةً أبويةً كما في روايات شارلز ديكنز ، مستبِداً إذا غضب ، كريماً إذا رَضِيَ . وهو يعرف أكثر من أيّ واحدٍ آخر أدق دقائق مملكته ، ملمّاً بكل شاردة وواردة فيها ، لا يطيق اغتيابَ الناس ( ولا يَدخل في نقاش شخصيّ مع أحد في " موقع العمل " ، كما كان يسمّي ذلك المكان ، ولا حتى مع أفراد عائلته ) ، يحوز احترامَ موظفيه ، إنْ لم نقل محبَّتَهم ، بفضل تعدّد مواهبه وكفاءته التي لا تخطئ في عموم المهارات الإدارية والتجارية . ومن إنجازاته أنه حوّل البيروقراطية الحكومية المصرية تحويلاً شاملاً بإدخاله الآلات الكاتبة والناسخات والناقلات وخزائنَ الأرشفة إليها ، لتحلّ محلّ الوسائل الاعتباطية السابقة من ورق الكاربون وأقلام الكوبيا والأوراق المُسَتَّفة على حوافِّ النوافذ وفوق الطاولات . وطوّر بمساعدة أمي ، والأحرى القول إنه " اخترع " ، الآلةَ الكاتبةَ بالحروف العربية بالتعاون مع شركة " رويال " التي نَمَتْ علاقةٌ وثيقة بيننا وبين أصحابها الأرستقراطيين الأميركيين ، آل جون باري رايان . وكان أبي يتميّز بطاقتين جبارتين لا تخطئان لم يجمع بينهما أيٌّ سواه في تجربتي الشخصية : وهما تنفيذُه عملياتٍ حسابيةً بالغةَ التعقيد في رأسه وبسرعة الضوء من جهة ، وتمتُعُه ، من جهة ثانية ، بذاكرة ممتازة لتاريخ ابتياع كل سلعة من سلع تجارته وثمنها ( وكان منها الألوف ) . وكم كان مُحرِجاً أن تشاهده وراء مكتبه ، يحيط به أسعد وعدد من السكرتيريين والسكرتيرات ومديري الأقسام ، وكلُّهم يفتّشون في الملفات والأوراق . فيما هو يستخرج من الذاكرة كلَّ تاريخِ شراءِ وتسويقِ ملفِّ سلعٍ يعاني تسويقُها حالَ ركودٍ ، مثلاً ، أو صنفٍ من الحاسبات أو مجموع نماذج قلم حبر " شيفرز " .
لم يَجْعل منه هذا كلُّه ربَّ عملٍ صبوراً أو حتى مراعياً للآخرين ، ولكنّي أعتقد أنه كان دائم الاستقامة والإنصاف بقدرِ ما كان دائم السخاء . وقد ابتكر فكرة منح المكافآت لجميع موظفيه في أعياد الميلاد أو الأضحى أو روش هاشاناه ( رأس السنة العبرية ) ، ناهيك عن مشاريعه للضمان الصحيّ والمعاش التقاعديّ . لم يَترك أيٌّ من هذا كله أثراً يُذكر عليّ آنذاك ، وأنا منهمك في الرضوخ لسلطته أو في معاناة الشعور بالاضطهاد ، فلم أقدِّر عبقريتَه الاستثنائيّة في ميدان الأعمال حقَّ قدرها ، وقد طوّرها بذاته في عاصمة طَرْفية من عواصم العالم الثالث غارقةٍ في الاقتصادات الكولونيالية ومِلْكيّات الأرض الإقطاعية والمكاراة الفوضوية كبيرها وصغيرِها ( وإن تكن ناجحة أحياناً ) . الآن فقط إذ أعدّد كل هذه الإنجازات ، أدرِك كم هي مذهلة وأنّها ، للأسف ، لم تسجَّل له ولم يَنَلْ عليها ما يستحقه من الثناء . وحقيقة الأمر أنّ أبي كان ، في الأساس ، رأسمالياً حديثاً ذا قدرة هائلة على التفكير المنتظِم والمؤسساتيّ ، لا يخشى خوضَ المغامرات أو دفعَ الأثمان اللازمة لتحقيق الأرباح الطويلة المدى ، وكان يستغلّ الإعلانَ والعلاقات العامة بطريقة لامعة ، وكان فوق ذلك كله منظِّماً ومدبِّراً لمصالح زبائنه التجارية ، يزوّدهم أولاً بالقدرة على التعبير عن حاجاتهم والأهداف ، ويمدّهم ، من ثم ، بالمنتجات والخدمات اللازمة لتحقيقها .
ومن تجديداته إصدارُ دليل منتجات سنويٍّ لكل تقديماته ، وهو أمر لم يُقْدم عليه أحد في مجال عمله في مصر . وقد قال لي مرةً إنّ ابن عمه وشريكه المقدسيّ بولس لامَه على الكلفة المرتفعة لذلك الإصدار . بيد أنه ، مع تطوّر أعماله ، أَقْلع عن تلك الممارسة بملء إرادته واستعاضَ عنها بنشر لوائح " الزبائن الراضين " من كل صنف من الأصناف الرئيسية التي يتعاطاها . وهكذا ، لقاءَ كلفة زهيدة ، بات زبائنه ، بسبب تلك اللوائح، يعملون معه ومن أجله ، بمعنىً ما . فنمتْ أعمالُه وتوسعتْ ، رغم بعض الانتكاسات الكارثية أحياناً ، ووفّر من ثَمَّ لأسرته ، على طريقته المميزة منافعَ ذلك التوسع في الثروة والنفوذ كاملةً .
قبل مغادرتي إلى الولايات المتحدة عام 1951 ، لم يكن والداي قد دخلا المجتمع القاهريّ على نطاق واسع . فعلى الرغم من ثرائهما ، ظلت حلقةُ معارفهما وأصدقائهما محصورة إلى حد كبير في المعاونين وأفراد العائلة ، مثل إيزال غولدنبرغ ، جوهريّ العائلة ؛ والأُسطا إبراهيم ، النجّار الودود ذي الشارب المعكوف المتدلّي مثل مِقود درّاجة ، والذي يُنتج مشغلُه قطعَ الأثاث لمنزلنا مثلما ينتجها ، على نطاق أوسع ، لأعمال أبي ؛ ومحمود ، صهر الأُسطا إبراهيم ( وصهره الثاني هو محمد أبو العوف ) ، وخالي الأصغر ، إميل ، الذي انتقل للعمل عند أبي ؛ ومراد عصفور ، الموظف الشاب الصاعد في " جمعية الشبان المسيحيين " الذي ورّط أبي لاحقاً بألوف الجنيهات من الديون عندما أفلس محلُّه لبيع الأدوات الرياضية وأخذ الدائنون يطالبون بديونهم التي كان أبي قد كفلها ؛ ونجيب قلاده ، القبطيّ اللامع ، والسكرتير العام لـ" جمعية الشبان المسيحيين " وأحد شركاء والدي الأساسيين . وكانت ابنة قلادة ، إيزيس ، تملك صوتَ " آلتو " استثنائياً وترتّل القدّاس في كنيسة الإرسالية الأميركية . وتكتمل الحلقة بعددٍ يسير من الأقارب أمثال آنطي ميليا ، والعم آل وزوجته الغريبة المضحاك ، إميلي ، وولديهما وابنتهما ، إضافةً إلى هذا القريب أو ذاك من أهالي فلسطين يزور القاهرة بين الحين والآخر لغرض التسوّق أو الأعمال . وكان هؤلاء الأصدقاء والمعارف يأتون لتناول وجبات الطعام في أوقات وأيام معينة ( مثلاً ، يحضر النجّار لتناول الفطور يوم السبت ) فصرتُ أميّزهم من خلال عاداتهم الطعامية : فالأُسطا إبراهيم ، مثلاً ، يرفض تناول الخبز الأبيض ويحبّ الثوم ويؤثِر الفُول على اللحم . وكنتُ دقيق المراقبة لأدنى التفاصيل السطحية . وقد تمكنتْ مني تلك العادةُ إذ بدأتُ أعيش المفارقة بين البيئة الأميركية والبيئة المحلية بقوةٍ أشدّ بعد عامي الأول في " مدرسة القاهرة للأطفال الأميركيين " : لماذا يرتدي الأميركيون الجوارب الملّونة ، والمصريون والعرب لا يرتدونها ؟ ولماذا " لديهم " قمصان " تي شيرت " وليس لدينا " نحن " مثلُ تلك القمصان ؟
وما لبث أن طاردني كرهُ مِس كلارك البارد واستهجانُها إلى البيت أيضاً ، حيث كانت تنهال عليّ النصائح المكرورة عن شرودي وقلة الجدّية ووَهَن العزيمة وضُعف الشخصية . لم تعلّمني تلك النصائحُ شيئاً ، وقد درّبتُ نفسي على مقاومتها بأن حوّلتُها في ذهني إلى مجرد جعجعة أصوات . وكانت كل الملذات مَحُوطة بالسماح الرسميّ حتى استحال عليّ الاستمتاعُ بها ، ما عدا تلك الممهورة بموافقة الأهل ، مثل اللعب بقطار " ليونيل " الكهربائيّ – وقد حمله أبي من الولايات المتحدة عام 1946 – وهو جهاز بالغ التعقيد يتطلب تركيبُه إخلاءَ طاولة السُفرة والاستعانةَ بكهربائيٍّ لأنّ الوصلات بين الحافلات لم تكن على ما يرام . وقد سُمِح لي بالاستماع إلى برنامجيْن إذاعييْن ، زيدا إلى ثلاثة برامج ، في الأسبوع الواحد ، هما برنامجان من " زاوية الأطفال " التي تذاع بعد ظهر الأحد ومساء الأربعاء ، وتضم مجموعةً " محتَرَمة " من العمّات والأعمام المنافقين على نحو مروّع ، كانوا بريطانيين خلال الحرب وما لبثوا أن تمصّروا بعدها ( وجميعهم يرطن بلهجات تقلّد اللهجة البريطانية على نحو شنيع ولهم أسماء مقززة مثل آنطي لولو وآنكل فؤاد ) وبرنامجٌ واحد هو " أمسيات في الأوبرا " ، يذاع على الـ" بي . بي . سي . " في الواحدة والربع من بعد ظهر الأحد ، حيث أصغيتُ إلى أوبرا كاملة لأول مرة . وحين أذيعتْ أوبرا " مقايضة زوجة " لسميتانا ، دخلتُ في جذبة فيما راح ذهني يَجْهد ليتخيّل مشهد احتفالات الزواج التشيكية وما تعنيه كلماتٌ تترامى إليّ عبر الأثير ولا أفقه منها شيئاً مع أنها منحتني متعةً فائقة .

يتبع إن شاء الله