الأخت الفاضلة / دينا
الأخ الفاضل / كومبيوترجي



قصيدة الخروج


أخرج من مدينتي , من موطني القديم
مطرحا أثقال عيشي الأليم
فيها , وتحت الثوب قد حملت سري
دفنته ببابها ثم اشتملت بالسماء والنجوم
أنسل تحت بابها بليل
لا آمن الدليل , حتي لو تشابهت علي طلعة الصحراء
وظهرها الكتوم
أخرج كاليتيم
لم أتخير واحدا من الصحاب
لكي يفديني بنفسه , فكل ما أريد قتل نفسي الثقيلة
ولم أغادر في الفراش صاحبي يضلل الطلاب
فليس من يطلبني سوي ( أنا ) القديم
حجارة أكون لو نظرت للوراء
حجارة أصبح أو رجوم
سوخي إذن في الرمل سيقان الندم
لا تتبعيني نحو مهجري نشدتك الجحيم
وانطفئ مصابيح السماء
كي لا تري سوانح الألم
ثيابي السوداء
تحجري كقلبك الخبئ يا صحراء
ولتنسني آلام رحلتك
تذكار ما اطرحت من آلام
حتي يشف جسمي السقيم
إن عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم
لو مت عشت ما أشاء في المدينة المنيرة
مدينة الصحو الذي يذخر بالأضواء
والشمس لا تفارق الظهيرة
أواه , يا مدينتي المنيرة
مدينة الرؤي التي تشرب ضوءا
مدينة الرؤي التي تمج ضوءا
هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل
أم أنت حق ؟
أم أنت حق ؟

القصيدة للشاعر صلاح عبد الصبور



ليكن النقد تطبيقيا فقد سئمنا من النقد النظري الذي لا يهتم بالتطبيق ولذلك فسوف
نري من خلال تحليل القصيدة معني التناص وسوف أتلو ذلك بقصيدة أخري من نفس
الموضوع لشاعر آخر لأوضح ما فيها من تناص وطريقته المختلفة عن هذه القصيدة

لو تأملنا في قصيدة صلاح عبد الصبور سوف تجد أن الفكرة الأساسية
التي يريد الشاعر معالجتها هي فكرة الهروب من حياته القديمة إلي حياة
أخري جديدة , لم يوضح لنا الشاعر تفاصيل الحياة القديمة التي يريد هجرانها
إلا في لمحات بسيطة مثل :

( مطرحا أثقال عيشي الأليم – فكل ما أريد قتل نفسي الثقيلة – تذكار ما اطرحت من آلام )

فكيف توسل الشاعر لتحقيق الفكرة
وجد الشاعر ضالته في قصة هجرة الرسول محمد من مكة إلي المدينة المنورة التي وردت
في كتب السيرة النبوية فقام بعمل تناص واع معها فهناك من التناص ما هو غير واع

والآن أنظر للقصيدة في ضوء هذا
ما هي نقاط الاتفاق بين خروج الشاعر وبين هجرة الرسول
وماهي نقاط الاختلاف بينهما

نقاط الاتفاق هي فكرة الخروج لتغيير جوهري
عند الرسول كانت الهجرة فاتحة جديدة لحياة المسلمين وإقامة الدولة الإسلامية
وعند الشاعر يريد أن يخرج خروجا روحيا من حياة قديمة يمكن أن نعرف تفاصيلها
من مجمل أعمال الشاعر في قصائده الأخري التي يتحدث فيها عن مجمل حياته الروحية
إلي حياة روحية جديدة
و هجرة الرسول كانت فعلا ماديا هو نقلة في المكان استتبعت تغيرا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وانسانيا بينما عند الشاعر هو تغيير روحي فقط
الفرق بين الهجرتين أن ما حدث في هجرة الرسول كان بعد الهجرة أما عند الشاعر
فهو فعل الهجرة نفسه , هو الرحلة ذاتها من ذاته القديمة إلي ذاته الجديدة , يقول :

إن عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم
لو مت عشت في المدينة المنيرة

نقاط الخلاف في خروج الشاعر وهجرة الرسول

( لا آمن الدليل حتي لو تشابهت علي طلعة الصحراء )
والرسول كان له دليل في الهجرة يريه الطريق
وذلك لأن خروج الشاعر هو من ذاته القديمة التي يريد أن يخرج منها إلي ذاته
الجديدة فهو فعل روحي بحت ويخاف أن يفشي الدليل سره لذاته القديمة التي
تطارده

( لم أتخير واحدا من الصحاب
لكي يفديني بنفسه , فكل ما أريد قتل نفسي الثقيلة
ولم أغادر في الفراش صاحبي يضلل الطلاب )

في الهجرة كان أبو بكر الصديق هو صاحب الرسول الذي يفديه بنفسه كما
حدث في الغار عندما أخذ يتحسس المكان خوفا من آفة تؤذي الرسول مثلا
وترك الرسول علي بن أبي طالب في فراشه لتضليل أهل مكة

وعند الشاعر لم يفعل من ذلك شيئا , لماذا ؟

( فليس من يطلبني سوي " أنا " القديم )
تأكيد آخر بأنه خروج روحي بحت

هذا التناص علي المستوي العام , مستوي الفكرة ومستوي التناول
وعلي مستوي الصياغة نري تناصا آخر علي مستوي الفكرة الجزئية
والصورة التي تشكل لبنة لبناء النص

أنظر إلي قوله

( حجارة أكون لو نظرت للوراء
حجارة أكون أو رجوم )
هنا تناص مع الكتاب المقدس والقرآن
عنما خرج لوط من القرية الآثمة نصحته الملائكة بعدم النظر إلي الوراء إلي
المدينة عند وقوع العذاب في الكتاب المقدس تحولت زوجة لوط إلي عمود من
الملح ( تكوين 19 : 27 ) وفي القرآن ( فأسر بأهلك بقطع من الليل و لايلتفت
منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ) هود : 81 وكذلك الحجر : 65

ثم أنظر إلي قوله

( سوخي إذن في الرمل سيقان الندم
لا تتبعيني نحو مهجري نشدتك الجحيم )
هنا تناص مع قصة سراقة بن مالك الذي تتبع الرسول محمد في الهجرة لكي يرده
لقريش طمعا في الجائزة ( المائة من الإبل )
في نصوص السيرة أن فرس سراقة عثرت به ثلاث مرات
الذات القديمة تحاول رد الشاعر عن خروجه علي الحياة القديمة أنها تطارده بحيلة
الندم ولكنه يأمرها أن تسوخ سيقانها في الرمل كما كان يكبو فرس سراقة الذي
كان يطارد الرسول


نعود إلي التناص علي المستوي العام
هناك فارق جوهري بين مدينة الرسول التي هاجر إليها ومدينة الشاعر
مدينة الرسول كانت مدينة حقيقية لها وجود خارجي
مدينة الشاعر مدينة روحية
( مدينة الصحو الذي يذخر بالأضواء
والشمس لا تفارق الظهيرة
أواه يا مدينتي المنيرة
مدينة الرؤي التي تشرب ضوءا
مدينة الرؤي التي تمج ضوءا )

إنها مدينة إبداعه الروحي وخلاصه الإنساني الفردي
إنها اليوتوبيا الذاتية التي يحلم بها والتي يتخلص فيها من كل الهم الإنساني

سؤال الشاعر الأخير
( هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل
أم أنت حق ؟
أم أنت حق ؟ )

يرينا عمق أزمة الشاعر الذي يقطع الرحلة فهل سوف يصل إلي مدينته
الروحية أم لا ؟


سوف أعقب بنص آخر فيه طريقة أخري من التناص في نفس الموضوع
ولكن بطريقةأخري

إن أسعف الوقت



كوكو