المأزق السوري ودور القوى الوطنية والديموقراطية

فقدت سوريا أوراقها الإقليمية أو كادت بعد انسحابها من لبنان، فلم يعد دورها الإقليمي في فلسطين وفي العراق وفي لبنان فعالاً كما كانت الحال عليه، وتزداد الضغوط الأميركية والدولية والعربية عليها في ظل مبررات مختلفة ولأسباب مختلفة مطالبةً بتغيير نهجها السياسي السابق وقبولها استحقاقات داخلية وإقليمية ما كانت لتقبل بها قبل ذلك. وبدا ضعف النظام السياسي أمام هذه الضغوط بيّناً، وأخذ أهل النظام والناس في سوريا يتحسبون لما سيأتي، والكل يبحث عن مخرج من المأزق وربما من الأزمة التي تواجهها سوريا نظاماً ووطناً. وقد صار من نافل القول التذكير بالصعوبات الداخلية التي تواجهها البلاد في كل مجال، ونقص المناعة الذي استفحل، وضعف الإدارة وتفشي الفساد وتجاهل أي إصلاح شامل سياسي أو اقتصادي أو إداري رغم الشعارات الطنانة التي تتحدث عن التطوير والتحديث، حتى وصلت سوريا إلى ما يشبه المواجهة المباشرة والحادة وربما الخطرة مع صعوباتها الداخلية والإقليمية وزيادة الضغوط الدولية عليها. ويبحث الجميع نظاماً وشعباً وأحزاباً سياسية وقوى وطنية وديموقراطية عن برنامج ومنهج وأدوات تخرج البلاد من مأزقها وتجنبها ما هو أسوأ وتقودها إلى بر الأمان.

سينعقد مؤتمر حزب البعث خلال شهرين ليدرس الحال ويتخذ قرارات تعالج أمور الدولة والناس. بما يدل على أن النظام السياسي لا يزال يرى أحقية حزب البعث وحده في دراسة القضايا واتخاذ القرارات في غرف مغلقة من دون حوار مع الآخرين، أي مع القوى السياسية والنخب الثقافية والديموقراطية السورية التي لا تشارك في السلطة (ولا حتى مع أحزاب الجبهة الوطنية)، ولا أيضاً مع الشعب السوري نفسه في حوار مفتوح علني، وبالتالي إبقاء الشعب وقواه مهمشاً ريثما تأتيه قرارات مؤتمر الحزب بالترياق. وهذا ما يؤكد أن النظام السياسي لا يزال مقتنعاً بجدوى النهج الذي سار عليه طوال عقود رغم تغير الظروف والمعطيات، سواء في الداخل أو في الخارج، مؤمناً بأنه يستطيع تسيير البلاد وقيادتها بالأسلوب نفسه، أي الأسلوب السلطوي المعتمد على الأوامر من فوق والمستقوي بالأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وأجهزة الأمن، واستمرار الهيكلية الحالية للنظام السياسي: قيادة الحزب للدولة والمجتمع، الجبهة الوطنية التقدمية، الاقتصار على إقامة منظمات شعبية ومهنية تابعة للسلطة ومفرغة من المحتوى، التضييق على الحريات. رفض السماح لأحزاب المعارضة (وأحزاب الموالاة أيضاً) ومنظمات المجتمع المدني بالعمل والنشاط، ومنع أي حراك اجتماعي ومجتمعي، سياسياً أكان أم اجتماعياً، وعزل الناس عن قضاياهم وعدم إتاحة الفرصة أمامهم للمشاركة في تقرير مصيرهم، وترك المجال مفتوحاً أمام ذوي الامتيازات على حساب مصالح الناس، والاستسلام للفساد الكبير والصغير. وفي الوقت نفسه الاعتماد في السياسة الخارجية على سياسة الصفقات مع هذا الطرف أو ذاك، مما كان ينفع أيام الحرب الباردة ولم يعد ينفع الآن. ويبدو أنه لم يعد قادراً على الخروج عن هذا النهج. ولذلك لم تتجاوز محاولات التطوير (رفض النظام تسميتها الإصلاح) ترقيع سياسة هنا وأخرى هناك، وامتصاص الاحتقان، واللجوء الى التسويات سواء في القضايا الصغيرة أم في الكبيرة. ولعل سياسته في لبنان خير مثال على ذلك، حيث أضعفت بأخطائها وعنتها دوره الإقليمي وبددت التضحيات التي قدمتها سوريا جراء مساهمتها في منع تقسيم لبنان والحفاظ على وحدة أراضيه، ومنع استفحال الحرب الأهلية، وتقديم ألوف الشهداء والعدة والعتاد في سبيل ذلك. ولم تساعده في الاستمرار وكسب ثقة الشعب اللبناني حتى بدا الوجود السوري في لبنان كأنه احتلال عسكري، مما عرّض العلاقات التاريخية بين الشعبين للخطر، وهذه في المناسبة من أخطر النتائج التي يمكن أن تتفاقم إن لم تعالج.

يبدو أن ضغوط بعض أهل النظام والمستفيدين منه وأصحاب الامتيازات تضاعفت فور إعلان الخروج من لبنان والإعلان عن عقد المؤتمر بهدف إفراغ أي مقترحات إصلاحية من محتواها. وأخذ هذا البعض يهوّن من الصعوبات التي يواجهها النظام، ويراهن على اتفاق تحت الطاولة مع الأميريكيين، ويبحث عن إجراءات إصلاحية لا معنى لها تهدف الى إجهاض الإصلاح عملياً من خلال امتصاص الاحتقان الشعبي، والرهان على الوقت الذي لم يعد يرحم أحداً، ووصف الصعوبات وصفاً سطحياً (وربما كاريكاتورياً) وكذلك النهج ووسائل المواجهة، والاكتفاء بتغيير الأشخاص دون تغيير النهج والأسلوب دون البرامج.

في إطار هذه التوقعات، سواء أكانت صحيحة كلياً أم جزئياً، تقع على القوى الوطنية والديموقراطية السورية مهمات كبيرة وربما تاريخية، أقلها لملمة صفوفها وتوحيد برامجها حول توافقات الحد الأدنى على الأقل، والضغط على النظام لتغيير نهجه الداخلي والخارجي وتغيير أدواته، والموافقة على عقد مؤتمر وطني بمشاركته ورعايته، يبحث جوانب المأزق الداخلية والخارجية، ويتلمس وضع برنامج موحد تساهم جميع القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في وضعه وفي مقدمها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي هُمّش ونُحي عن الحياة السياسية والاجتماعية خلال العقود الماضية، وأصبح للأسف يتفرج على ما يجري من دون أن تكون له فاعلية سياسية ومجتمعية تتناسب مع حجمه الجماهيري، وهو المؤهل أكثر من غيره للاضطلاع بدور وطني واجتماعي وإصلاحي.

يبدو أن النظام لم يعد قادراً على ملء الفراغ السياسي والمجتمعي الذي أفرزته التطورات الداخلية والإقليمية خلال العامين الماضيين، بعدما فشلت الدولة الأمنية في ملئه. ومن الواضح انه إذا لم توجد جهة ما تسد هذا الفراغ فسوف يسده الأميركيون وعملاؤهم بطريقة أو بأخرى. وهنا تبرز مسؤولية القوى الوطنية والتقدمية بالتعاون والتنسيق مع النظام السياسي، ومع حزب البعث خاصة، والمهمات الجسام الموكولة الى هذه القوى، ولعلها مهمات عاجلة في مقدمتها العمل على قيام وحدة وطنية حقيقية على أسس واضحة ومسؤولة قادرة على الإمساك بناصية الإصلاح وقطع الطريق على التدخل الخارجي مباشرة أو مداورة، وسحب البساط من تحت أقدام المتدخلين ومبرراتهم. ولعل أفضل الطرق لتحقيق هذه الأهداف والآليات والمناهج والأدوات هو عقد مؤتمر وطني يضم جميع القوى الوطنية والديموقراطية السورية بلا استثناء، يسبق مؤتمر حزب البعث لتشكل توصياته واقتراحاته أساساً قابلاً لأن يتبناه مؤتمر الحزب العاشر، ومنطلقاً لسوريا جديدة قوية قادرة على حل مشكلاتها والخروج من المأزق الحالي والعودة للعب دورها الإقليمي التاريخي.

يبدو أن بعض أهل النظام لا يدركون حجم الأخطار التي تواجه البلاد، ويستسهلون ما هي فيه، ويعتقدون أن «شطارتهم وفهلوتهم» قادرة على حل جميع المشكلات، وأن بعضاً ثانياً منهم تغوّل الى الدرجة التي يرفض فيها التخلي عن امتيازاته غير المشروعة المباشرة وغير المباشرة، ولا يرى أبعد من أنفه.


حسين العودات