على أنّ أعظم تجاربي الموسيقية قاطبةً ، خلال أيام المراهقة القاهرية ، هي الزيارات التي قام بها كليمينس كراوس وفِلهلم فورتفانغلر عامَيْ 1950 و 1951 مع فرقة فيينا الفلهارمونية وفرقة برلين الفلهارمونية على التوالي . ومع أني أُخِذتُ في الحالين إلى حفلتَيْ بعد ظهر يوم الأحد ، وقد غلبتْ عليها ، في حال كراوس ، " طقطوقاتٌ " من نمط افتتاحية " دونّا ديانا " و " بولكا بيتزيكاتو " لشتراوس ، فقد حررني النغمُ الرائع الجمال والحضورُ المتسلطن على المنصّة وحتى سحرُ الكلمات الألمانية ( من مثل " فينّر فيلهارمونيكر " ) من الابتذال . ولأني لم أستمع مباشرةً من قبلُ إلى أيّ شيء يبلغ ذلك المستوى من البراعة الغزيرة المباشرة ، فلا يزال يَحْضرني مدى الحبور الذي انتابني وكيف حاولتُ بشتى الوسائل أن أمدّد الساعتين الهزيلتين اللتين أُعطيتُهما في سينما ريفولي ( ولم أفهم قط لماذا لم تُختَر لكراوس وفورتفانغلر قاعةُ إيوارت الأنسبُ والأرصنُ ، واختيرت بدلاً منها صالةُ سينما فاحشةُ الزخرفة ، تكتمل عدّتُها بأُرغنٍ رنّان يُشعشع بأنوار النيون السُكّرية النابضة ، وبعازفِ أُرغن إنكليزيًّ ، هو جيرالد بيل ، الاستعراضيّ القرمزيّ الوجه الذي أدت قفزاتُه البلهوانية صعوداً إلى الآلة المدرّجة المهيبة ونزولاً منها ، إلى تسليتي بأكثر مما أداه عزفُه الذي لا ينتهي لأعمال كيتِلبي * وللباهت من الإيقاعات اللاتينية الراقصة . وفحوى محاولاتي تلك أني سعيتُ للاحتفاظ بالموسيقى في أذني ، وقيادةِ أوركسترا وهمية ، والبحثِ بلا نجاح يُذكر عن تسجيلات ( أغلى ثمناً بكثير مما تتحمله إمكاناتي المادية ) للمقطوعات ذاتها تؤديها الأوركسترا ذاتُها بقيادة القائد ذاته . وكنت أُحبَط بالتأكيد ، وأكتئِب ، في غالب الأحيان ، للسرعة التي تأتي بها مثلُ تلك الغبطة النادرة وتروح ، وللوقت الذي قضيته لاحقاً ساعياً لاستعادتها بل ولتكريسها بالبحث عن كتب ومقالات وبشر تحدِّثني عنها ، وتؤكّد لي حقيقتها ومتعتها، وتُحْيي فيّ ما بدا أنه على شفير الزوال .
بعد سنة على مشاهدتي كراوس ، اعتلى فورتفانغلر هو أيضاً منصّة " سينما ريفولي " في أصيل ذات يوم أحد . فكانت الحفلة الموسيقية التي طغت على السنوات الحادية والعشرين الأولى من حياتي ، لم يضارعها غيرُ سماعي ، عامَ 1958 ، الإيقاعاتِ الافتتاحيةَ لـ" ذهب نهر الراين " ** تتعالى من حلبة الأوركسترا المُعتمة في بايروث . لم أكن أعرف عن فورتفانغلر شيئاً باستثناء أنّ اسمه يَظْهر على الرُقعات الحمر لأسطوانات HMV في تسجيله لسِمفونية بتهوفن الخامسة . ولخمس سنوات على الأقل ، ظلّ ذاك التسجيل هو التسجيل الأثير لديّ والمحكَّ الذي به أَحْكم على الأداءات الموسيقية كافةً ، بل كان الذروةَ في قوة لا توصف يخيّل إليّ أنها تخرج لتخاطبني مباشرةً من الراديو – غرامافون الطولاني ، ماركة " ستيورت – وارنز " . أولَ الأمر ، بدا لي أنّ اسم فورتفانغلر هو مصدر تلك القوة ، أردده غالباً بيني وبين نفسي ( على جهلي باللغة الألمانية ) وأتخيّله كائناً ممشوق القوام ، فائقَ التهذيب ، كُتِبَتْ موسيقى بتهوفن خصيصاً له . وأَذْكر كيف أني تحلّيتُ بصبر عظيم وأنا أُناقِضُ ذات مرة تأملات ابن عمي القليلةَ الخبرة حين ادعى أنّ شعار السِمفونية الخامسة هو " القَدَر يدقّ الباب " . فما اكتشفتُه في المقطوعة ، بفضل فورتفانغلر ، عرفتُ بالغريزة أنه لا يحتمل مثلَ ذلك التأويل . " الموسيقى هي الموسيقى " ، أذكر أني أجبتُه ، من نفاد صبري ومن عجزي أيضاً عن التعبير عما يهزّني في الموسيقى بطريقةٍ جدِّ فريدةٍ وإلى درجة العَيّ عن الكلام .
جلسنا في مقاعد البلكون كالتي حجزناها لحفل كراوس – وكانت محجوزة في تلك الأيام ، لمن يسمّيهم أبي " طبقة أرقى من الناس " . ويبدو لي ، في نظرة استرجاعية ، أنّ كراوس شخصية جامدة وأشبهُ برجل أعمال . ثم إنّ برنامج فورتفانغلر ، مثله مثل الرجل نفسه ، كان أكثر تحدياً ، إذ ضمّ سِمفونية شوبرت " غير المكتملة " وسِمفونية موتزارت في مقام " جي" الصغير ، والسِمفونية الخامسة لبتهوفن . وفي برنامجه الآخر ، الذي لم أُؤْخذ إليه ، عَزَف سمفونية تشايكوفسكي السادسة والسابعة لبروكنر . وقد خلص والداي بداهةً إلى أنّ الرنامج الأول هو وحده المناسب لي ، ولعلّ بروكنر المجهول هو سبب نفورهم من ذاك البرنامج . أطلّ فورتفانغلر ببُنيته النحيلة ، الطويلة ، الخرقاء والحادة الملامح ، يتوِّجها رأسٌ أقرع مهيب . فأدى ذلك إلى خلق الانطباع المناسِب لديّ : هوذا موسيقيّ متقشف كأنه قادمٌ من عالم أُخرويّ ، رأيتُ في مظهره رمزاً للتجلّيات التي تستدعيها بالضرورة موسيقى بِتهوفن . بيد أني صدمتُ لأنّ فورتفانفلر ، خلافاً لكراوس السَلِس ، لم يكن يقود الأوركسترا ( بعصاً صغيرة إلى درجة أنها أثارت استغرابي ) بقدر ما كان يحرّك الموسيقى تحريكاً بمنكبيه وذراعيه الطويلين غير المتناسِبَين . فلا يستعين بالنوطات الموسيقية ولا يقلّب الصفحات ولا هو ضابط إيقاعات ، بحسب الطريقة المدّعية لهانز هيكمان ، قائِد الأوركسترا المحلية . بدلاً من ذلك ، خُيِّل إليّ أنّ الموسيقى تنمو عنده وتترعرع وفقاً لمنطق عنيد هو غايةٌ في الغبطة والكمال ، وإذا هي تتدفق أمامي ، على نحو لم يكن لي أن أختبره من قبل ، خلْواً من أيّ من " الأغلاط " التي تشلّني حَرَجَاً في حضرة شيري ، فلا حاجة للتوقف ريثما يجري تبديل الأسطوانة وما من صوت يُسمَع غير صوت موسيقى بتهوفن . وشعرتُ أيضاً أنّ هذه التجربة أفضل ، ومن ثمّ أندر ، من أية تجربة قد تمنحني إياها أسطوانةٌ ما ، مع أنه غمرني ،طبعاً ، أسفٌ لذيذ بعد انتهائها وقد بتّ عاجزاً عن استعادتها إلا من خلال المقاربات المتوافرة لديّ بواسطة الآلات الموسيقية أو الذاكرة المعطوبة . عندما أصغيتُ إلى تسجيل فورتفانغلر للسِمفونية الخامسة ، أمتعني لكنه لم يمنحني حالة الرضى التي حلّت عليّ في المسرح . إنّها الموسيقى الحقيقية تزيح النسخة المسجّلة وتأخذ مكانها ، مرةً وإلى الأبد . ومع ذلك ، ظللتُ أستسيغ تسجيل فورتفانغلر بما هو مقطوعة أثيرة أُصغي إليها وأستزيد .


* ألبرت كيتلبي ( 1875- 1959 ) موسيقيّ وقائد أوركسترا بريطانيّ ذاعت شهرته بسبب تأليفه مقطوعات من الموسيقى الخفيفة على الأُرغُن .
** Das Rheingold ( 1869 ) : أوبرا لفاغنر . ( م )




يتبع إن شاء الله