الصــورة الـنــمــطـــيــة بــيـــن ســــوريــا ولـبـــنـان

في ملاعب الطفولة في كبرى مدن الشمال اللبناني، طرابلس، حيث كنا نذهب لتمضية فترة من عطلة الصيف في كنف عائلة جدي لأمي، كان رفاق اللعب اللبنانيون يلقبونني "السوري". وما كان هذا اللقب ليثير مشاعر الانزعاج لو لم يكن مقترنا بحمولة ثقافية مشبعة بالإحساس بالفوقية وبقدر لا بأس به من الازدراء لأولئك القادمين من "فوق"، بحسب التعيين المكاني السائد آنذاك: نازل إلى طرابلس، طالع إلى سوريا.

وقد نهضت تلك الحمولة الثقافية فوق شبكة واسعة من الاقتناعات التي تفرزها معطيات الواقع في تلك الفترة. كانت القوة الشرائية لليرة السورية مثلا أضعف بكثير من تلك التي لمثيلتها اللبنانية، فلا شيء يناسب التعبير عن تفاهة أمر ما أفضل من معادلته بأصغر قطعة نقدية سورية، وكانت قيمتها قرشين ونصف قرش (نصف فرنك). حتى غدا تعبير "بيسوى نص فرنك سوري" بمثابة تأكيد لضَعَة المقصود به وتفاهته. وكانت عائلات لبنانية كثيرة تستقدم بنات القرى الجبلية السورية للخدمة في بيوتها حتى غدا تعبير "بنت سورية" تعميما يشار به إلى الخادمات في البيوت. ولم يكن الوضع أحسن بالنسبة للألوف من العمال السوريين القابعين من الفجر على الأرصفة ينتظرون سيارة "الخواجة" الواعدة بعمل كان بلدهم يعجز عن تأمينه لهم، وهكذا غدا "الشغيل السوري" تعبيرا يرمز للتعتير والشقاء وقلة الحيلة. لقد قدمت معطيات الواقع هذه العناصر اللازمة لبناء صورة نمطية stéréotype عن السوري. صورة تحظى بكل خصائص التنميط: الاختزال (تتقلص صفات الآخر، أي السوري هنا، إلى صفة واحدة ليست صحيحة في الضرورة)، التعميمية (هذه الصفة التي يشترك بها بعض المنتمين إلى مجموعة الآخر تصبح عامة على المجموعة بكاملها)، التصنيفية (يتم تقسيم الآخرين مجموعات بحسب الصفة الاختزالية المقررة لكل مجموعة)، الجاهزية (فالصورة النمطية مكتملة في الذهن بشكل كامن وتنطلق لمجرد الالتقاء بالآخر). أما مضمون هذه الصورة فشعور بالاستعلاء يصبح معه السوري أقل مدنية وحضارة من اللبناني. وقد شاعت كلمة ترمز إلى السوريين وتعكس بوضوح هذه الصورة الاستعلائية وهي "العرمط" (متحولة عن العرموط أي الأجاص بالفارسية، ويقصد بها الخرِب من الفاكهة، فيُترك على الشجر طعاما للعصافير لأنه لا يصلح للبيع أو الأكل). وعندما استقر الجيش السوري في لبنان تحت مظلة الشرعية العربية، أخذت بعض الأوساط الفرنكوفونية اللبنانية تتداول كلمة La plèbe (اسم طبقة الدهماء في روما القديمة) للدلالة على السوريين. وشاعت في تلك المرحلة نكات كثيرة تؤطر للصورة النمطية عن السوري المتخلف عن المدنية اللبنانية المشار إليها غالبا ببعض الدلالات الخارجية أو السطحية كمعرفة اللغات الأجنبية (نكتة الضابط السوري الذي بعد أن تعرّفه لبنانية بنفسها، "مدموازيل سلمى"، يعرف عن نفسه بالقول "أنا اسمي مدموزيل أحمد")، أو كمعرفة الصفات المختلفة للسيارات (نكتة عنصر الردع الذي يوقف سائق سيارة من طراز فولكسفاكن لأنه يهرّب محركا في الصندوق الخلفي).

في المقابل، لم يتوان السوريون عن التهكم من اللبنانيين، الذين بدوا لهم غارقين في حياة الدعة والاستهتار ومتعلقين بقشور المدنية تاركين كل ما هو أصيل وجاد. وشكلوا تأسيسا على ذلك صورتهم النمطية عن الآخر اللبناني الذي صار اسمه فوفو أو نونو في ما يتناقلونه من نكات وحكايات. وربما كانت نكتة اللبناني الذي أراد أن يتطوع في الجيش من أكثرها انتشارا: سأله الضابط عن اسمه، أجاب: فوفو. وعندما أمره بالانبطاح اعتذر بسبب وجود بحصة على الأرض. أما مضمون هذه الصورة فكان شعوراً بالاستعلاء يصبح معه اللبناني أقل أصالة ورجولة من السوري. وهكذا ترسخت بشكل عام صورتان نمطيتان تحقيريتان متقابلتان، الأولى لبنانية ومعيارها المدنية، والثانية سورية ومعيارها الأصالة. وكانت كلتاهما، وكل منهما في سياقها الخاص، توظّف كآلية من آليات الدفاع عن الذات حيث يقوم استخدام الصورة المُحِطّة للآخر بوظيفة إعلاء للذات.

نتيجة التحولات الكثيرة التي أصابت واقع المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة والتي حصلت بالتزامن مع تصاعد الهيمنة السورية على لبنان، تعرضت الصورتان النمطيتان لشيء من الارتجاج والتغير. من جهة أولى، فإن دخول المجتمع السوري، وليس في شرائحه المدينية الثرية فقط، إلى شكل من أشكال حياة الدعة والاستهلاك، وما رافق ذلك من عملية ممنهجة ومستمرة لإفراغ المجتمع من السياسة ومن كل شكل من أشكال الاهتمام بالشأن العام، أدى إلى ترسخ بعض الأشكال السطحية للمدنية على الطريقة اللبنانية. أي جرى ما يمكن تسميته عملية "لبننة" للمجتمع السوري. من جهة ثانية قدمت مشاهد الحرب الأهلية أولا ومشاهد المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي شهادة دامغة للرجولة والأصالة. صورة جعلت من نونو وفوفو بطلين حقيقيين لم تعد صفات كالميوعة والخنوثة تتوافق معهما. وجاءت أحداث الشهر الماضي لتدق الإسفين الأخير في نعش الشعور بالتميز عن اللبنانيين الضعفاء. وغدت مشاعر التفوق القديمة لا تتناسب مع الحال الواقعية. وبالتالي فقد السوريون الأساس الواقعي لصورتهم النمطية القديمة عن الآخر اللبناني. في المقابل لم يقدم السوريون ما يثبت حقيقة أنهم أهل للشعور بالمكانة المتميزة، رجولة وأصالة ونضالا. فلا انتصاراتهم القومية والوطنية ترفّ بيارقها، ولا ديموقراطيتهم المحققة تغري اللبنانيين بالحصول على الجنسية السورية، ولا إنجازاتهم الاقتصادية تمنع أرباب العمل اللبنانيين من استغلال الألوف، بل مئات الألوف من الشغيلة السوريين، وترفع عنهم صفة التعتير وقلة الحيل، ولا إنجازاتهم العلمية والثقافية عكست وجهة الحركة من سوريا إلى لبنان. زد على هذا كله أن أحداث العقود الثلاثة الماضية لم تظهر السلوك المدني المشتهى الذي يفقأ عين من يتجرأ على النيل من سمعة الوجود السوري في لبنان. بل على العكس تماما، ارتبط هذا الوجود بمفردات "لا تبيّض الوجه" كالفساد والتسلط والتدخل وووو... وبالتالي لم يخلق السوريون الواقع الذي يمنع إعادة تذكر الصورة النمطية القديمة بكل ما تحمله من نظرة فوقية وشعور بالتميز والتفوق. نظرة لم يعد معها السوري "شغيلا" بل صار "بياع كعك" أو "عنصر أمن". في معنى آخر، لم يستطع الوجود السوري في لبنان أن يستغل الفرصة التاريخية التي أتاحتها الظروف الموضوعية له ليؤكد حضارته ومدنيته، ويكشف زيف الصورة النمطية المشكّلة عنه. فعاد، على هذا المستوى الرمزي على الأقل، مهزوما من تجربة لبنان.

كان الخطاب السوري الرسمي يكرر بلا كلل على مسامع اللبنانيين "سوا ربينا"، لكنه للأسف لم يحاول أن يعرف يوما لماذا كان هؤلاء الأخوة في الثقافة والتاريخ والحضارة يردون عليه: "لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا".


حسان عباس