الكحل أخـفّ وطأة من الـعـمى

الانسحاب السوري من لبنان، الذي جاء تلبية للقرار 1559 سيكون من أبرز الأحداث التي ستطبع المرحلة المقبلة، ويضع دول المنطقة وشعوبها أمام أسئلة وجودية ليست أقل عياراً من "أن تكون أو لا تكون". ولأن كل حراك داخلي من دون مولّد دفع خارجي في ظل أنظمة القمع السائدة، سيلقى مصير ربيع بكين المؤود، ولأن هذه الأنظمة قامت من الأصل على دينامية الدفع الخارجي نفسها، اقتنص اللبنانيون فرصة أنهم "لم يعودوا وحدهم"، معلنين شارة البدء لاستعادة حريتهم واستقلالهم المنقوص.

نحن إذاً أمام تجربة عربية جديدة، وقودها حراك شعبي داخلي، ومظلتها شرعية دولية. ثورة بيضاء ومعمّدة بالدم في آن واحد. وبقدر ما تستحق من احترام وتقدير، سيكون من المبكر الحكم على نجاحها وأهليتها للتطبيق، سواء في أرضها أو باقي بلاد العرب، وذلك قبل أن يثبت هذا الموزاييك، الذي يشكّل الحشود المجتمعة في ساحة الشهداء، قدرته على البقاء موحداً تحت العلم اللبناني بعد تسلمه سدة الحكم، والإجابة عن ألف سؤال وسؤال، بدءاً بالحفاظ على سعر صرف الليرة وانتهاءً بصيغة تعايش، تتعدى كل المفاهيم التي وفّرت أفضل الأجواء لكل العابثين بلبنان وحروب الآخرين على أرضه.

كيفية التعاطي مع ظاهرة المقاومة كتنظيم وسلاح، تعدّ أولى الإشكاليات التي ستواجه اللبنانيين. فبقاء المقاومة على شكلها في ظل المستجدات الراهنة يعتبر من ضروب المستحيل. وقد يكون ضمها كفصيل في الجيش اللبناني، مهمته الحفاظ على الأمن على جبهة العدو أمثَل الحلول. فمَن كان يوفر الغطاء والدعم للمقاومة يحتاج اليوم إلى تغطية رأسه.

وفي ما خص الضرر الذي لحق بالعلاقات السورية - اللبنانية، فإنّ حراكاً ديموقراطياً سورياً يوازي مثيله اللبناني وحده القادر على إعادة الوصل بين الشعبين والدولتين على أسس متكافئة. وهذا يتطلب أعلى درجات التنسيق بين المعارضة اللبنانية والقوى الديموقراطية والحية السورية وأشلاء المعارضة فيها. ففارق التجربة بين ما نَعِمَ به لبنان وما ابتُليَت به سوريا شاسع بما لا يتسع مجال لذكره.

ترى، من العراق تنتظر سوريا ترياقها هذه المرة أم من لبنان؟

إن علامات نجاح التجربة الأميركية في العراق، التي كرّستها الانتخابات العراقية بصورة لا تقبل التأويل، قلبت الطاولة على رؤوس ربابنة السياسة السورية. إضافة إلى أن تساقط الأوراق الإقليمية من يد نظام دمشق، ألحق أفدح الأضرار به . فما كان متاحاً عبر ضغط بعض التنظيمات الفلسطينية وضربات المقاومة اللبنانية، التي لم يحسن هذا النظام استثمارها سياسياً في وقتها المناسب، قد أسقِطَ من يدها.

تسلسل الأحداث وسياقاتها، ينفيان راهناً تعامل الإدارة الأميركية مع الملف السوري بالنهج المعمول به عراقياً. والمرجّح لجوء الولايات المتحدة إلى سياسة حشر النظام، إمعاناً في ابتزاز أكثر على جبهة العراق، والدفع لإبرام تسوية مع إسرائيل لا تبقي للنظام السوري ما يحفظ ماء وجهه.

وهنا، قد يكون لعبارات الغمز إلى السلطات السورية وتحميلها قسطاً من مسؤولية اغتيال الحريري، التي وردت في التقرير الأممي، دلالات ذات مغزى، يعرف النظام أكثر من غيره أنها ستلاحقه كظله. وقد تتطور لتصبح اتهامات حقيقية إمعاناً في زيادة ابتزازه، تشير كل المعطيات إلى كامل جهوزيته لتقديمها. فلا يبدو أن الولايات المتحدة متحمسة آنياً لإقامة نظام ديموقراطي في سوريا، قبل استحصال تنازلات من النظام قد تكون من استحقاقات "مشروع الشرق الأوسط الكبير". وعليه، ليس من المستبعد أن يلاقي أي حراك ديموقراطي سوري في هذا الظرف، لو أتى مكرراً عن مثيله اللبناني، مصير حراك البَصرة. وبقدر ما يكون النظام مطواعاً مع المطالب الأميركية وربما الإسرائيلية، سيتلقى الشعب السوري جرعات قمع إضافية.

في مقابل ذلك، كلما استعجل النظام تلبية المطالب الأميركية، دنت ساعة أجله. فالواضح أن سيدة العالم قررت إنهاء خدمة هذه الأنظمة برمتها، بعد أدائها وظيفتها على أكمل وجه، واكتشاف الولايات المتحدة أنها ساهمت الى أبعد الحدود في تفريخ الأصوليات، التي انتقلت من مرحلة قض مضجع الأميركان إلى تهديدهم وضربهم الفعلي في عقر دارهم.

على هذا، فإنَّ تسوية منقوصة السيادة في هضبة الجولان قد تلوح في الأفق قريباً، تعيد إسرائيل بموجبها القرى الآهلة بسكانها كخطوة أولى إلى السيادة السورية، وتبقي مسألة الأمن والمياه وحصة سوريا في بحيرة طبريا إلى ما شاء الله.

وبما أن من غير المأمول أن تُقدم السلطة على خطوة جريئة تتخلى بموجبها عن الحكم، أو تشرك الآخرين فيه؛ وبما أن السوريين والعرب عموماً ليسوا في موقع اختيار طريقة حكمهم؛ وبما أن الأنظمة الديكتاتورية الآيلة الى الزوال والديموقراطية الموعودة كلها صناعة أميركية وغربية؛ بما أن ذلك كله على هذا المنوال، فإن القبول بديموقراطية أميركية مفبركة أفضل بما لا يقاس من بقاء تلك الأنظمة، لما قد توفره هذه الفسحة من إمكان نفاذ إلى غد أفضل، بعد استحالة إحداث أي نوع من الاختراق لشبكات قمع الأنظمة الديكتاتورية العربية. فالكحل يبقى أفضل مِن العمى، ولتذهب هذه الأنظمة غير مأسوف عليها.


حسان شمس