حدود المحرمات: الصحابة
د. خالد الدخيل
أشرت في مقالة الأسبوع الماضي إلى أحد أهم القيود التي تضعها الثقافة الإسلامية على حرية التفكير وحرية التعبير، وذلك هو القيد الناجم عما استقر في هذه الثقافة من عدم جواز تناول أفعال الصحابة وأقوالهم بالتحليل، وإخضاع تلك الأقوال والأفعال لرؤية نقدية. ينطلق هذا التحريم من فرضية أن ما قام به أولئك الصحابة، وما قالوه ليس مادة تاريخية قابلة للتحليل والتأويل. بل يكتسب شيئا من القداسة المضمرة بسبب انتمائه إلى عصر النبوة. هذا بالرغم من الإجماع على أن الصحابة لا يتمتعون بالعصمة، الأمر الذي يفترض أن ما خلفوه من تراث قابل للأخذ والرد. لكن القداسة التي أحاطت بهم كان يفترض بها أن تمتد إلى ما تركوه من تراث، ومن ثم فرضت عدم جواز الخوض في تأويل أفعال الصحابة وأقوالهم، وقصر التعامل معها على أنها مجرد اجتهادات خالصة النية لوجه الله، وبالتالي يجب ترك تأويلها أو تقييمها إلى الله وحده.
النص الذي أوردناه في المقالة السابقة من تاريخ الطبري يقول شيئا مختلفا. حيث يقدم صورة واضحة متوازنة للمشهد السياسي في المدينة لحظة طعن فيها الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، وفرضت مسألة الاستخلاف نفسها فجأة وللمرة الثانية على الصحابة. المرة الأولى كانت في السقيفة.
في هذا النص، مع غيره من النصوص، يقدم الطبري مادة علمية، غنية في موضوعيتها عن أبرز رموز الصحابة، مواقفهم وآرائهم في لحظة حرجة، وحول أهم وأخطر القضايا، قضية الخلافة، أو الحكم. هذه المادة، والمنهج الذي اتبعه الطبري في تقديمها لا تصلح إلا أن تكون مصدراً للدراسة والتحليل والمقارنة لتلك المرحلة من التاريخ الإسلامي. الأكثر من ذلك وفي السياق نفسه تنطوي مادة الطبري على عناصر تفتح المجال واسعاً أمام مقارنات سياسية يصعب تفادي تضمنها لرؤية نقدية بهذه الدرجة أو تلك، لهذا الموقف السياسي لهذا الصحابي أو ذاك بناء على زاوية الرؤية للباحث أو القارئ. والمهم هنا هو الانتباه إلى طبيعة المادة التي قدمها الطبري، والطريقة التي اعتمدها لاختيار مادته، وترتيبها، ثم تقديمها بصورتها النهائية. مثل هذه الطريقة، كما يقول المؤرخون والسوسيولوجيون، لايمكن أن تكون محايدة، أو تلقائية. على العكس من ذلك أنها تعبر عن المؤلف، وعن الثقافة التي ينتمي إليها في مرحلة تاريخية معينة. وبناء على ذلك، يمكن القول إن المنهج أو الطريقة التي استخدمها الطبري، في هذا النص مثلا، تم تبنيها بناء على اختيارات سياسية، وقناعات إيديولوجية.
لا يمكن هنا استعادة كل النص الذي اقتبسناه في المقالة السابقة. لكن يكفي إيراد مقطع ذي دلالة مباشرة ومهمة لما نريد قوله. ففي سياق حديثه بعد أن اختار عمر بن الخطاب أهل الشورى، وقبول علي بن أبي طالب أن يكون منهم، يذكر الطبري أن الحوار التالي دار بين علي والعباس: قال العباس لعلي: لا تدخل معهم، فقال: أكره الخلاف، قال (العباس): إذاً ترى ما تكره". وبعد المداولات الأولى لأهل الشورى، وتوجيهات عمر للكيفية التي ينبغي أن يتم بها اختيار الخليفة من بينهم، سأل العباس علياً عما حدث، فقال علي إن عمر قال، "كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف" ثم أضاف علي، "سعد (بن أبي وقاص) لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن، وعبدالرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فيوليها عبدالرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبدالرحمن. فلو كان الآخران معي لم ينفعاني... فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخراً بما أكره. أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت. وأشرت عليك حين سمَّاك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت. احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك. واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا. وأيمُّ الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير. (الطبري، ج4، ص 229-230).
أول ما يكشف عنه هذا المقطع هو أن الطموح السياسي كان أحد أهم العوامل المحركة لديناميكية المشهد السياسي للمدينة في صدر الإسلام. وكان هذا الطموح لمنصب الخلافة حاضراً وبقوة لدى الصحابة الستة الذين عينهم عمر ليكونوا أهل، أو جماعة الشورى. يتضح هذا من إشارات عديدة. أحدها أنه عندما مات عمر "تصدى علي وعثمان: أيهما يصلي عليه"، لأن أيهما يؤمُّ الناس في الصلاة على الخليفة الراحل يحصل على سابقة دينية وسياسية تزيد في حظوظه عند اختيار الخليفة الجديد. ولذلك قال عبدالرحمن بن عوف لهما:"كلاكما يحب الإمرة، لستما من هذا في شيء. هذا إلى صهيب .."، في إشارة إلى وصية عمر. الإشارة الأخرى أنه عندما اجتمع أهل الشورى "جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فصحبهما سعد (بن أبي وقاص) وقال: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى".
الإشارة الثالثة هي اشتداد التنافس في أمر الخلافة بين أهل الشورى أنفسهم إلى درجة فاجأت أبا طلحة الأنصاري، وهو الذي أوصاه عمر بتولي الإشراف على عملية الشورى بحيث لا تتجاوز ثلاثة أيام. وقال أبو طلحة: "أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها"، أي أنه كان يتخوف من أن يقوم كل واحد من أهل الشورى بدفع مسؤولية الخلافة والتخلي عنها لصاحبه، فإذا الأمر على العكس من ذلك، أنهم يتنافسون عليها. الإشارة الرابعة عندما قال عبدالرحمن بن عوف مخاطباً الآخرين من أهل الشورى:"أيكم يخرج منها نفسه... على أن يوليها أفضلكم؟"، أي أيكم يتخلى عن حقه في الخلافة، ويقوم بعملية اختيار الخليفة. جاءت الإجابة أنه "لم يجبه أحد"، مما يؤكد على أن كل واحد من أهل الشورى كان يفضل أن يحتفظ بحقه في الخلافة على أن يتخلى عنه ليقوم بدور الاختيار. وعندها تخلى عبدالرحمن عن حقه وتولى هو عملية الاختيار.
والحقيقة أنه من الطبيعي أن كان لدى الصحابة مثل هذا الطموح السياسي. ومن يرى عكس ذلك يجعل من الصحبة للرسول شيئا يتناقض مع الطموح السياسي، ويقتضي انتفاءه. وهذه ليست أكثر من نظرة أيديولوجية مثالية لا تستند إلى شيء من الواقع السياسي الذي كان عليه الأمر في أيام أولئك الصحابة، بل وتتناقض مع الروايات التاريخية التي سجلها مؤرخون مسلمون. بل إن هذا الطموح كان أحد أهم العوامل فيما حدث بين الصحابة من خلافات تحولت إلى صراعات اقتضى الأمر أخيرا حسمها بالسيف وفي ساحات المعارك، كما حدث أيام الفتنة، وفي صفين والجمل. وإذا ما أعدنا النظر في الحوار الذي يقال إنه دار بين العباس وبين علي بن أبي طالب لرأينا إحدى صور ذلك الخلاف. نصائح العباس لعلي في هذا الحوار تصب كلها في هدف واحد، هو تحسين أدائه السياسي، وعدم مجاراة القوم، والإعلان بشكل واضح عن حقه في تولي الخلافة. استمع إليه وهو يخاطب علياً بقوله، "احذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا."، مشيرا إلى جماعة الشورى، ومذكرا بما حدث في السقيفة. وما يقصده العباس بـ"الأمر" هنا هو الخلافة، وأن هناك من يعمل من بين الصحابة على إبعاد بني هاشم عن تولي الخلافة. وقد تحقق ذلك إلى أن قتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفان.
قبل ذلك وبعده نجاح المهاجرين في استبعاد الأنصار من موضوع الخلافة أولا، وحصرها في قريش أخيرا. وقد بقيت الخلافة محصورة في قريش حتى سقوط الخلافة العباسية. كل ذلك يشير بوضوح لا لبس فيه إلى حضور السياسي وفعاليته عبر مختلف العصور، لكن ابتداء من عصر الصحابة، وهو حضور يؤكد تداخل السياسي مع الديني وتضافرهما معا. لم تكن العلاقة بينهما ذات طبيعة واحدة في كل العصور. لكن الأيديولوجيا في الثقافة الإسلامية لا تريد أن تعترف من ذلك إلا بحضور الدين، خاصة في صدر الإسلام. هنا يطرح السؤال نفسه: لماذا إذاً عدم جواز الخوض في البعد السياسي لعصر الصحابة؟.
http://www.wajhat.com/details.asp?id=11275...ournal=04/20/05